صفحات الرأيعلي العبدالله

الهويات القاتلة/ علي العبد الله

تحدث الامريكي زبيغينو بريجنسكي في كتابه “امريكا والعصر التكنتروني” الصادر عام 1970( ترجمه المرحوم الدكتور محجوب عمر تحت عنوان “بين عصرين” وصدر عن دار الطليعة في بيروت عام 1980) عن ظاهرة اجتماعية كونية ترتبت على التطور العلمي والتقني: توحّد العالم وتذرره في الوقت نفسه. توحّده بفعل المواصلات والاتصالات والشركات عابرة القومية والاعتماد المتبادل بين الامم وتحول اللغة الانكليزية الى لغة العلم والتجارة، وتذرره ببروز وعي هوياتي بين الجماعات العرقية والاثنية والدينية والمذهبية، وتحرك اتباع هذه الهويات للتعبير عن وجودهم وحضورهم في المشهد العالمي ومطالبهم السياسية تحديدا. وقد نجم عن عملية التوحد اندثار لغات قبلية، وعن نهوض الهويات الفرعية صراعات سياسية واجتماعية عرف منها العالم في ثمانينيات القرن الماضي 196 صراعا.

افرز صراع الاعراق والاثنيات والأديان، او ما عرف بصراع الهويات، حالة تآكل للهويات الوطنية وتفكك للاندماج الوطني، وأصيبت دول ومجتمعات عريقة بالهشاشة، وكان الأخطر القفز على الواقع القائم والعمل على استعادة الماضي بأحداثه ووقائعه، وبعث ذكريات اليمة ومشاعر سوداء دفينة، والتحرك في ضوء ذلك لتصفية حسابات قديمة دون اعتبار لما صنعه التاريخ وللراهن وحقائقه وقيمه ومستدعياته، في هذا السياق مثلا قامت الحركة الصهيونية بدعم غربي باغتصاب فلسطين وإقامة دولة اسرائيل عام  1948 قبل ان تحتل بقية ارض فلسطين بما فيها القدس الشرقية فينفتح الطريق امام سعي الأصولية اليهودية هدم المسجد الاقصى لإقامة الهيكل الثالث بديلا للهيكل الثاني الذي كان قائما بزعمها في ذات المكان قبل ان يقوم الرومان بهدمه عام 70 ميلادي، وظهور حركات الاسلام السياسي في معظم الدول الاسلامية، وصف بـ “الصحوة”، ودعوتها الى استعادة الخلافة الإسلامية، وقيام الهندوس في الهند يوم 6/12/1992 بهدم المسجد البابري(يقع في مدينة أيوديا في أتر برديش، بناه السلطان المغولي ظهير الدين بابر في القرن السادس عشر) على خلفية استعادة المكان الذي كان جزءا من معبد هندوسي(عبر اليهود عن فرحهم بهدم المسجد البابري في الهند واعتبروا رد فعل المسلمين الفاتر مؤشرا على ما يمكن ان يحصل اذا ما هدموا المسجد الاقصى).

انعكس الوعي الهوياتي سلبا على دول العالم الاسلامي فمع قيام الثورة الايرانية عام 1979 واعتماد إيران نظام ولاية الفقيه، واعتبار دستورها المذهب الجعفري الاثني عشري دينًا للدولة، وتبني سياسة تصدير الثورة والولاية على الشيعة أينما كانوا وبغضِّ النظر عن أعراقهم وأوطانهم، والعمل على استتباعهم، وسعيها – إيران- لوضع اليد على المواقع التاريخية والمزارات التي يقدسها الشيعة، في سوريا مثلا مزارا السيدتين زينب ورقية في دمشق وقبر أويس القرني في الرقة(سعت مع حكم الاخوان المسلمين في مصر لبسط نفوذها على ما تعتبره آثارا شيعية بنيت في العصر الفاطمي مقابل دعم مالي وتنظيم سياحة دينية الى مصر، ومع الاردن كذلك) لربطها بالنظام الإيراني عبر الإشراف والتمويل والسيطرة على الاطر التنظيمية والإدارية فيها، من اجل كسب مشاعر وعواطف أبناء الطائفة، وعملت على نشر التشيع عبر التبشير وبذل المال بسخاء في الدول الإسلامية المجاورة(سوريا، اليمن، مصر، السودان، تونس، المغرب) كوسيلة لخلق نفوذ والحصول على موطئ قدم في هذه الدول، وتشكيل لوبيات داخلها تلعب دور “حصان طروادة” أو “طابورا خامسا” وتشكيل احزاب شيعية سياسية وعسكرية(حركة أمل وحزب الله في لبنان، المجلس الاعلى للثورة الاسلامية وجناحها العسكري منظمة بدر، عصائب اهل الحق وكتائب حزب الله في العرق، الحوثيون، او انصار الله كما اطلقوا على انفسهم مؤخرا، في اليمن) في خدمة النظام الإيراني، قال الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الايراني،”انه خلق 10 ايرانات خارج إيران” وهذا وتّر المناخ بين السنة والشيعة، وأجج المشاعر الطائفية في عدد من الدول.

كما لعب الاحتلال السوفياتي لأفغانستان دورا محفزا لإطلاق “الجهاد” العالمي السني، فعبْر توظيف الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين(السعودية والباكستان) للعامل الديني لحشد المقاتلين والممولين خلف حركات الجهاد الأفغاني ولد تنظيم القاعدة وانتعشت السلفية الجهادية وما تمثله من ثقافة وسياسة تكفير الحكام والمذاهب الإسلامية غير السنية، وخاصة الشيعة، وانطلقت نشاطات تنظيمية وعسكرية في عدد من الدول العربية والإسلامية على خلفية تحريرها من الحكام الكفرة وتطبيق الشريعة قبل تبنيها لإستراتيجية محاربة العدو البعيد (النصارى واليهود) أولاً، وتنفيذ عمليات إرهابية كثيرة وكبيرة في عدد من دول العالم ضد المصالح الغربية بعامة والأميركية بخاصة بما فيها “غزوة” نيويورك في 11/9/2000، والرد على احتلال أفغانستان والعراق من قبل الولايات المتحدة وبدء الانتقام من الشيعة في العراق “لدورهم” في هذا الاحتلال.

لم تجد السعودية سلاحا لمواجهة التحرك الايراني السياسي والعسكري في الخليج والمشرق العربي لحماية نظامها ومصالحها ونفوذها الإقليمي، حيث ليس لنظامها السياسي جاذبية تغري للاقتداء به وتسمح بتحدي جاذبية النظام الايراني ولغته الثورية، سوى التحريض الطائفي المضاد واستخدام ورقة السنة في وجه شيعية ايران ما قاد الى تصاعد التوتر في المجتمعات المختلطة من الباكستان الى لبنان مرورا بأفغانستان والعراق والبحرين واليمن. انقسم العالم الاسلامي اثرها بين سنة بقيادة السعودية وشيعة بقيادة ايران.

مع انفجار الثورة الشعبية في سوريا جدد النظام الاستبدادي حملته ونشط أدوات دعايته لتحفيز الهواجس والمخاوف الطائفية وتوتير المناخ الاجتماعي، وخطَّط لدفع الأوضاع إلى مسارات حرب طائفية لاعتبارات عديدة أهمها: تحشيد الأقليات بعامة، والطائفة العلوية بخاصة، حوله وربط مصيرها بمصيره، تخويف المجتمع السوري من الثورة، وتخويف المجتمع الدولي من نتائج انتصار الثورة وأثر ذلك على السوريين من أبناء الأقليات الدينية، وخاصة المسيحيين، في مغازلة للغرب الذي طالما لعب بورقة حمايتهم تغطية لأطماع استعمارية، وسعى -النظام- الى توظيف الاحتقان المذهبي الذي فشا في دول المنطقة بفعل الصراع الايراني السعودي. لذا لم يكن صدفة أن تُسرَّب فيديوهات تصور عمليات القتل والتعذيب والاغتصاب والمجازر وذبح الأطفال والشيوخ والنساء بطريقة تشي بهوية “أبطالها” الطائفية صراحة من خلال لهجتهم: “بدكن حرية، هاي مشان الحرية”… إلخ، في محاولة واضحة لاستدراج رد فعل مماثل يقود إلى تسعير المشاعر ويدفع الطوائف إلى الانخراط في حرب قاتل أو مقتول. وقد زاد الطين بلة انخراط ايران(الحرس الثوري) وتنظيمات شيعية موالية من العراق (لواء ابو الفضل العباس وعصائب اهل الحق وكتائب حزب الله العراقي.. الخ) ولبنان (حزب الله) واليمن (الحوثيون) في الصراع بتقديم الدعم المباشر التسليحي والفني والمالي والمشاركة في القتال مباشرة، وما ترتب عليه من دخول جماعات السلفية “الجهادية” وشعارها “الودي” و”الانفتاحي” بـ “الذبح جيناكم”.

هذا دون أن ننسى الإشارة إلى الدور الذي لعبه الإعلام، المرئي بخاصة، في تصعيد التوتر الطائفي في سوريا من خلال الفضائيات(وصال والصفا والمجد وصلة والرسالة السنية، وأهل البيت، والنعيم، والغدير، والمنار الشيعية) التي تعج بأحاديث التكفير لأبناء الطوائف الأخرى، ونقل فتاوى تحث على الكراهية المذهبية والتحريض على العنف الطائفي (فتاوى العرعور ومقولة: الدم السني واحد، وأحاديث بعض رجال الدين الشيعة المحرِّضة على الكراهية والإفتاء بالقتال في سوريا وقتل أطفال السنَّة).

لقد استخدمت كل من ايران والسعودية أذرعهما الطويلة وقدراتهما المالية في تغذية الصراع المذهبي وتوظيفه في خدمة مصالحهما دون اعتبار للآثار المدمرة على المجتمعات الاسلامية، وعلى الاسلام ذاته كدين حيث شاع وصفه بالإرهاب وتحول في نظر كثيرين الى صفة للتعصب والكراهية والموت، في حين كان المطلوب منهما العمل على رأب الصدع بين السنة والشيعة واستعادة روح الاسلام وتعليماته التي حرمت قتل النفس البشرية والإكراه والظلم، وتهيئة المناخ في الدول الاسلامية لمواجهة المتغيرات الدولية وكسب معركة النهوض والازدهار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى