صفحات سوريةعدي الزعبي

الهوية السورية: الدكتاتورية همشت الانتماءات والثورة اغنتها

عدي الزعبي
تطرح الثورة السورية أسئلة فلسفية تتعلّق بالهوية السورية ومستقبلها. نظرياً، كانت للتيارات الفكرية السائدة نظرة إيديولوجية جامدة تجعل الهوية جوهراً خالداً أزلياً. ليست هذه إشارة لشعار حزب البعث الشهير الذي يقدّس الرسالة الخالدة، بل أيضاً لرسالة التيارات اليسارية والإسلامية. ترى هذه التيارات أن الهوية هي إما إسلامية بالمطلق، أو عربية بالمطلق، أو طبقية بالمطلق. رؤية اليسار مختلفة، لكنها بالمحصلة تقوم بإرجاع كافة البنى الفوقية إلى البنية الاقتصادية، حيث تبدو الطبقة التي ينتمي إليها الفرد، هوية.
مع وصول حزب البعث للسلطة، أصبحت الهوية العربية هي الوحيدة المعترَف بها. الجيل الذي نشأ تحت حكم البعث، خصوصاً بعد أحداث الثمانينات والقمع المفرط الذي طال كل وجوه الحياة، كان مطلوباً منه أن لا يصرّح بأية هوية أخرى مرافقة أو مكمّلة للهوية العربية. تم استبعاد الهويات الدينية والإثنية بشكل كامل، ودفع الثمن الإسلاميون والأكراد بدرجات متفاوتة تبعاً للظروف. أيضاً تعرّض اليسار لقمع غير مبرّر.
ولكن، وهنا النقطة التي أود إثارتها، استبعدت الهويات المحلّية الطائفية والمناطقية بشكل كامل. في التسعينات، كان من المعيب، مجتمعياً، أن تجاهر بأنك شامي أو حوراني أو حمصي، ومن الخطير سياسياً، أن تجاهر بأنك علوي أو سُنّي أو درزي.
هذا الإفقار في مفهوم الهوية إلى الدرجة التي أصبحت فيـها الهوية معنى فارغا يشير دائماً إلى فلسطين فقط لا غير، ولا يرتبط بأي ملموس على المستوى المباشر، أدّى إلى فكرة غريبة مفادها: أنّ من يجاهر بانتمائه المناطقي أو الطائفي هو حُكماً ضد العروبة، وبالتالي رجعي يُضمر الأذى لسوريا.
الخطأ الذي ابتدأ بالاستيلاء على السلطة من قبل حزب إيديولوجي، يرفض الاعتراف بوجود أحزاب أخرى لها رؤى مختلفة، امتدّ ليشمل الهويات الفرعية. هكذا حوكمت الهويات الأكثر حميمية والأقل أدلجة. لماذا؟
الاعتراف بالهويات المناطقية يستتبع المطالبة بتحسين الظروف المعيشية ومحاربة فساد رجالات السلطة والأمن في هذه المناطق. كما يؤدي إلى دراسات و مشاريع تتعلّق بالمناطق المعنيّة ومحاولة السكان التعاون مع، أو انتقاد، السلطات المحلية، وصولاً إلى حياة كريمة لأبناء هذه المناطق. الاعتراف بالهويات المناطقية والفخر بها، بهذا المعنى، هو حُكماً ضد الاستبداد، وليس ضد العروبة.
في بداية الثورة، اتّهم أنصار النظام أبناء حوران بأن لهم طبيعة عشائرية خاصة (حرفيّاً). دفاعاً عن هؤلاء، أصرّ البعض أنّه لا يوجد خلفيّة عشائرية في احتجاجات السوريين. السؤال هو لماذا يتم الربط بين العشائرية من جهة، والتخلف و الرجعية من جهة ثانية؟ ربّما كان لاحتجاجات السوريين خلفية عشائرية ودينية، وهذا ليس معيباً، طالما أن هذه الاحتجاجات تسعى لبناء دولة القانون القائمة على احترام الآخرين.
معظم أطفال درعا الذين تم تعذيبهم ينتمون لعشيرة أبازيد. أما الاحتجاجات فقد شملت كل عشائر حوران. أي أن العشائرية لا تعني التعصّب لعشيرة على حساب أخرى. إذا كان هذا هو بالضبط العنصر المعيب في العشائرية، فهو حتماً مبالغ فيه، و لم نره في الاحتجاجات. تكون العشائرية معيبة، كما المناطقية، إذا قامت على مبدأ استبعادي واستعلائي. أما إذا كانت مكمّلة ومرافقة للهوية الوطنية الجامعة، فهي ليست معيبة. يهتف أهالي حمص يومياً بأنهم يفدون حمص بأرواحهم، بل هم يفدون حمص بأرواحهم . لا يعني ذلك أبداً، أن الحماصنة ضد الهوية العربية أو الهوية السورية الجامعة. العكس بالضبط هو الواقع، الهوية الفرعية الحمصية، بتجسيدها للنضال ضد الاستبداد، هي نواة للهوية السورية الجامعة.
ما هو التبرير النظري لاستبعاد الهويات الفرعية المناطقية و الطائفية؟ ما الذي يجعل انتماء الفرد إلى منطقة معيّنة (حوران أو حمص أو دير الزور) أو إلى طائفة معينة (علوي أو سني أو درزي) رجعيّاً ولا يمكن أن يعمل لصالح العروبة؟ ما هو الخطأ في كون الفرد حمصياً فخوراً وعربـــياً، أو مسيحياً فخوراً وعربياً؟ التبرير النظري هو فكرة الهوية الاستبعادية. الهوية العربية، في فكر البعض، هي هويـــة خـــالدة أزلية تقسم السوريين بـشكـــل كامل إلى عرب و غير-عرب. و هذه الهوية، كما النظام ، لا تقبل بالمشاركة في أية هوية أخرى. النظام أفسد مفهوم الهوية العربية بشدة، ولكن المفهوم نفسه، كما تمّ طرحه في بدايات القرن الماضي، مع مفاهيم الإسلام السياسي و اليسار بحاجة إلى مراجعة و تصويب.
ما أثبتته الثورة السورية هو أن الهويات المحلّية المناطقية لا تتعارض مع الهوية العربية من ناحية، و لا تتعارض مع مفهوم الهوية السورية الجامعة من ناحية أخرى. من هنا، يجب مراجعة المفاهيم الموجودة حالياً حول الهويات. ليست الهوية مفهوم ماورائي بدون ملموس عيني.
الكائن البشري، يعيش ويتنفّس ويأكل و يمارس نشاطاته اليومية في بيئة محددة زمانياً ومكانياً. هذه البيئة لها احتياجاتها و مشاكلها و انعكاساتها. الانتماء المناطقي له الأولوية دائماً. الإيديولوجيا، أو الفكر بشكل عام، الذي يحاول أن يشرح و يفسر الظاهر، يجب أن ينطلق من الواقع المُعاش، و أن يجاريه. لذلك، الهوية السورية الجامعة لكافة أبناء الشعب السوري، على اختلاف انتماءاتهم المناطقية و الطائفية و الطبقية، يجب أن تكون مرافقة و مكمّلة و داعمة للانتماء المناطقي. أما الهويات الطائفية و الإثنية المتنوعة فقد تكون مختلفة في بعض النقاط عن الانتماء المناطقي. ولكن الظلم الذي تعرّض له الإسلاميون و الأكراد، ينبع من ذات الخطأ: الهوية العربية تم تقديمها كهوية استبعادية بالمطلق. ما ينطبق على كافة هذه الهويات هو الفكرة نفسها: طالما أن هذه الهويات ليست استبعادية، تنفي الآخر و تحاربه بالمطلق، فهي هويات مشروعة تحت مظلة الهوية السورية الجامعة. في سوريا، أن الهوية العربية هي الهوية الاستبعادية التي يحكم باسمها النظام. كل الهويات الأخرى مقموعة و مستبعدة.
الثورة السورية هي ثورة البشر الذين يعيشون على الأرض. من هنا، كان للوجود على الأرض في المناطق المختلفة من بقاع سوريا، و للعمل الميداني، الدور الرئيسي في الثورة على الاستبداد. الهويات الفوقية، و التنظير من أعلى، يلعب دوراً ثانوياً في الثورة. هذا أمر صحي و سليم. الثورة تعيد ترتيب الأولويات. البشر أولاً، النظريات و الإيديولوجيا ثانياً.
الثورة السورية، من منظور فلسفي، تدعونا إلى أن نعيد النظر في المفاهيم الموروثة. استخدم النظام مفهوم الهوية العربية لتبرير القمع و الاستبداد. الثورة، في أحد وجوهها، هي ثورة على هذا الاستخدام للعروبة. إعادة الاعتبار لكل من تأذّى من هذا الاستخدام، و فتح حوارات جدية حول الهوية السورية و مستقبلها، يعني أن الثورة تسير في الطريق الصحيح. يجب ان نمدّ اليد ونتعاون مع الأكراد و الإسلاميين و اليسار واليمين. لكن أيضاً، الانتماء المناطقي والطائفي بحاجة إلى إعادة نظر. الدكتاتورية أفقرت سورية من كل انتماء، الثورة أعادت لسورية كل غناها وتنوعها.
‘ كاتب من سورية يقيم في بريطانيا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى