صفحات الرأي

الهوية لا يصنعها الطغاة

 


ماجد الشيخ

هل يمكن الحديث عن نصوص أو سرديات مؤسسة للهوية؛ ثابتة ودائمة، لا يعتريها التحوّل والتغيّر والتفاعل، والتأثير والتأثّر، والتمازج مع نصوص أخرى تاريخية سابقة و/أو لاحقة؟

بين أن تكون ذاتا تحدد هويتها انطلاقا من تمييزها الإدراكي للأنا وللآخر، مهجوسة بهواجس التغيير الدائم لذاتها في ضوء رؤيتها لآخر متغير على الدوام؛ وبين إلغاء الآخر عبر أشكال متدرجة من عدم القبول، ورفض الاعتراف بوجوده وإثارة النزاعات والصدامات معه، في ما أضحى يتجلى في زماننا في تلك الصراعات الشوفينية القومية والتمايزات الدينية الطائفية والمذهبية، تكمن أدلوجة الفهم المشوه للوجود، من حيث هو الإشارة الترميزية لحقيقة وجوهر كينونة الذات والذات الأخرى، في احتكامهما لجوهر من الاختلاف الطبيعي بين لا متشابهات؛ لا يمكن أو يستحيل تشابهها، بل هي محكومة لقوانين من التغير دائمة الحركة من التفاعل والتفعيل، والتأثر والتأثير، من أجل ايجاد كل عوامل وجود القواسم المشتركة للوجود الحقيقي للذات الفاعلة، نقيضة تلك المنفعلة التي لن تستطيع انتاج مروياتها وسردياتها الخاصة، بدءا من الهوية وصولا الى التاريخ، ولا المساهمة في إبداع سرديات حقيقية في إطار المشترك الإنساني.

بين الذات الفاعلة وتلك المنفعلة، تكمن إشكالية العلاقة غير المتكافئة؛ بين أدوات تذهب بالتفعيل والتمكين حد الهيمنة، وبين أخرى تذهب في الخضوع حد التحول الى بوتقة استقبال منفعلة؛ تنحطّ في أفعالها الاستلابية حتى حدود التماهي مع الذات المكابرة في منافحتها عدم الاعتراف بالآخر، بل رفض وجوده أو الاعتراف بهذا الوجود، والتعبير عن ذلك بمسلكيات انفعالية إستعلائية؛ لا يمكنها ان تؤدي وعبر استمراريتها التنميطية في رؤيتها لذاتها وللآخر إلا الى التهلكة، وتدميرها لأناها الخاصة من حيث أرادت، بل وهدفت إلى تدمير الذات الأخرى.

لا تنبني الهوية إذن، إلا عبر المغايرة العقلانية، تلك التي تستوعب في سياق بنائها لسرديات تاريخها؛ أن الهوية ليست واحدة مفردة، أو ناجزة على الدوام، أو ناشئة عن تخلّق تأسيسي أصيل، ينوجد مرة واحدة والى الأبد. فالذات الانسانية ليست كذلك، ولأنها ليست بهذا الجمود وهذا التعريف أو التوصيف السكوني الجاهز أو الناجز، فإن الهوية أيضا واحدة من أبرز الموجودات تغيرا وتحولا، في فضاء من التفاعلات الجدلية بين متحققات لا تتحقق على الدوام إلا كنتاج فواعل كثيرة، تبدأ من الأنا الانساني مرورا بعوامل التعرية الطبيعية لجغرافيات السلطة والدولة، وحراكات المجتمع والسياسة والاقتصاد وصولا إلى التاريخ؛ الناتج الأبرز للفواعل الرئيسة العاملة على إنتاج حركية الهوية في أبعادها المتغايرة، القارّة على إبراز نماذج من هويات ومن ذوات ومن أناوات ليست واحدة، لكنها في تفاعلها مع أنساق من العقل الجدلي- الفلسفي، قادرة على خلق القواعد المتراكبة لمفهوم للهوية لا يقوم على احتكار أو نفي أو مصادرة هويات الآخرين، بما هي الشكل الأرقى لانعكاس الوجود الإنساني وطبعه أو طباعه التي تصوغها وبشكل دائم هويات الاختلاف والمغايرة العقلانية الطبيعية، لا تلك المحكومة على الدوام لأدلوجات الميتاعقلانية.

الهوية نتاج إبداع دائم ومتواصل، وعمل دؤوب على إنتاج معنى متجدد لوجودنا كبشر (الأنا والآخر)، وبهذا المعنى لا يمكن للهوية أن تتحول إلى “تراث” جامد سكوني دون النظر والفهم والتأويل، وبالتالي نقد كل ما يحيط بهذا “التراث” من أسباب النكوص، ومسببات الإنحطاط والتراجع عن مناطق الإشراق والتنوير، إلى مناطق معتمة ومظلمة تتردى فيها سرديات حياتنا اليومية والتاريخية في كل أصعدتها؛ من الثقافة والفكر والفلسفة والعلوم الى الاقتصاد والسياسة والإجتماع، وصولا إلى الحط من التاريخ، وحتى النكوص في الجغرافيا، وضمور الديموغرافيا كذلك.

في هذه الحال أو في هذه المرحلة من مأزق وجودنا البيولوجي، لا يمكن الحديث عن هوية ناجزة، في ظل هذا التشظي والتذرر المجتمعي والسياسي والجغرافي والتاريخي الذي تشهده هويتنا، أو بالأحرى هوياتنا التي أضحت تتناثر كقطع زجاج يستحيل إعادة جمعها وفق صورتها السابقة؛ إلا إذا عملنا على استعادة صورة وطنية جامعة مصادرة ومحتكرة، يهمّشها الاستبداد، ويفعّلها غيابا وغيبوبة تلك القوى المجتمعية التي ترتع في سردياتها الشوفينية والتعصبية الخاصة، الطائفية والمذهبية والفئوية.

هنا تطرح إشكالية الأصالة والمعاصرة ضمن ثنائيات يراها البعض متصادمة أو متفاصلة، فيما يراها بعض آخر متواصلة، تجمع فيما بينها معارف مشتركة، تواصل بحثها الدائم والدائب عن تأصيل ما يتجادل حرا مع التاريخ ومع الواقع؛ بحثا عن وسائل علمية تاريخية كفيلة بتأصيل ما يمكن تأصيله، وتفصل ما لا يمكن أن يؤصل إلا عبر وسائل أيديولوجية، تطغى فيها لغة النقض العصيّة على التعاصر، وبالتالي فهي عصيّة على الفهم والتأويل في حقول الأصالة. على أن نقض طغيان الأيديولوجيا بوسائل ميثولوجية من أجل التأصيل أو البحث عن الأصالة في مواجهة المعاصرة والحداثة،لا يمكن أن يساهم في تقدمنا خطوة إلى الأمام، كما أنه لا يمكن إتمام هذه العملية بغير إيجاد الوسائل العلمية التاريخية المجرّبة، لا عبر وسائل أيديولوجية وطغيانها في كامل مساحة بناء الهوية.

لهذا.. فالهوية لا يصنعها الطغاة، ولا تبلورها سلطة الإستبداد، ولا تكرّسها السلطة؛ مطلق سلطة؛ دينية أو مدنية، وحتى بعض تمظهرات الوعي بالهوية، قد لا يكون منزّها عن الهوى والغرض؛ طالما هو يحيل إلى مرجعيات سلطويّة قاهرة؛ ميثولوجية أو أيديولوجية، تتحدّد بها الهوية ويرتبط وعيه بطغيانها. الهوية هنا رجراجة ليست ثابتة، لا سيما وأن السلطة المنتجة أو المروّجة لها ليست ثابتة أو دائمة. إن تقويض مجتمع دولة ما، إنما هو تقويض لهويّته الثقافية، قبل أن يكون تقويضا لدولة هذا المجتمع. هنا يصنع الطاغية هويته، كي تتماهى الدولة والمجتمع وحتى الأمة مع “هوية” هي صنيعته هو

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى