صفحات الرأي

الهوية والحرية/ الياس خوري

 

 

 

منذ مقتلة باريس والمثقفون العرب مشغولون بسؤال ساذج: هل نحن شارلي أم لسنا شارلي؟ وهو سؤال وهمي يقود إلى خيارين خاطئين، وإلى وضع الأمور في غير نصابها عبر الافتراض بأن المعركة تدور في باريس أو في الغرب بشكل عام، وأن المشرق العربي ليس سوى ساحتها الخلفية.

يقول لنا بحر الدماء والأسى الذي يحاصر بلاد العرب ان المعركة تدور هنا. وعلى الرغم من القيمة الرمزية لتضامننا مع ضحايا المقتلة الوحشية التي ذهب ضحيتها رسامون وصحافيون فرنسيون، فإن مناقشة قضية شارلي يجب ان لا تحجب التحدي الوجودي الكبير الذي يواجهه المشرق العربي المهدد باندثار طويل نتيجة هيمنة خطابات الحروب الدينية وممارساتها الوحشية على ساحاته الرئيسية. حتى مسألة فلسطين مهددة، مع صعود التيار الديني القومي في اسرائيل، بأن تفقد طبيعتها كمعركة من أجل التحرر الوطني ويجري دمجها بخطاب الحروب الدينية.

السؤال ليس هل أنا شارلي، بل هل أنا عربي، وما هو معنى أن أكون مواطنا في بلادي؟ وعندما أصير عربيا من جديد يصير من السهل لا أن أكون شارلي فقط، بل أن أساهم في إعطاء الحرية معناها العميق بصفتها قضية مرتبطة بالمساواة والعدالة.

اما في الحالة الراهنة، أي وأنا مطرود من معادلة الصراع السياسي، أبحث عن الجدوى في الأعمال الإغاثية أو في الكتابة فقط، فأن أكون شارلي أو لا أكونه لا معنى لهما، أنهما مجرد كلام ليل تمحوه كوابيس النهار كما تقول العرب.

المسألة ليست في الإطار الهوياتي الضيق الذي تضعه الأيديولوجية السائدة، المسألة في فرنسا يجب ان لا تنحصر في احترام حرية التعبير و/أو في احترام عقائد المسلمين الفرنسيين، بل في احترام المهاجرين العرب والأفارقة من المسلمين وغير المسلمين أيضا، عبر المساواة في التعليم والخدمات الاجتماعية والمساكن. المهاجرون يواجهون عنصرية تتقنع بالحرب على الإرهاب، كإطار لصعود فاشية جديدة، هذا هو الموضوع الذي لن تعالجه خطابات التطمين الفرنسية ضد الإسلاموفوبيا، بل يجب أن يعالج في إطارحقوق خمسة ملايين فرنسي من المسلمين، أغلبيتهم من أصول مغاربية، في العدالة والمساوة.

أما في بلادنا فتدور حرب طاحنة تهدد بحجب المعنى الذي سعت انتفاضات الشعوب العربية إلى بلورته. فالشعب السوري لم يثر كي يستبدل استبدادا مافويا عسكريا باستبداد مافيوي ديني. شعار اسقاط المستبد ورفض أبدية الحاكم لم يكن من أجل استبدال الديكتاتور الأبدي بخليفة أبدي، وشعار الديموقراطية لم يكن من أجل إبادة الأيزيديين وطرد المسيحيين وتنقيب النساء وإذلال الرجال.

لم تثر الشعوب العربية من أجل الهوية بل من أجل الحرية. والصراع بين الشعب الأعزل والنظام كان يدور فعليا حول هذه المسألة. النظام يقدم الصراع بصفته صراعا هوياتيا، مؤطرا الثورة الشعبية في خانة طائفية أصولية، كي يبرر استخدامه للخطاب الطائفي من أجل تضليل أنصاره وحشدهم، والثورة ترفع شعارات الوحدة الوطنية وترفض المنطق الطائفي.

لماذا يبدو وكأن خطاب النظام ينتصر على خطاب الثورة؟

النظام يتهاوى ولا سبيل لاستمراره، لكن ما هو أخطر من بقاء النظام هو انتصار منطقه، اي انتصار الهوية على الحرية، وتمزيق المجتمعات العربية إلى ملل ونحل، والعيش في مستنقع تقسيمات طائفية ومذهبية لن تعني سوى انحلال المنطقة وخروجها من التاريخ.

والواقع ان انتصار منطق النظام ليس نتيجة عدم التدخل الخارجي، كما يظن البعض، بل هو احد النتائج الجانبية لهذا التدخل. الخمينية ليست سوى الابنة الشرعية لإسقاط مصدّق في إيران، والصعود الإسلاموي في المنطقة العربية هو أحد نتائج سقوط الناصرية بيد الغزاة الإسرائيليين وحلفائهم الإمريكيين، والوحش الاستبدادي تربى تحت رعاية الغرب وفي ظل تأييده وصمته عن جرائمه، والاجتياح الوهابي للعالم العربي هو أحد نتائج تحالف النفط والولايات المتحدة خلال المرحلة الأخيرة من الحرب الباردة.

منطق النظام ينتصر، لأن المنطق الديموقراطي الداعي إلى المساواة والعدالة الاجتماعية يتلاشى.

الحرية تعني الخبز والطبابة والتعليم وتوزيع الثروة بشكل عادل. وهنا تقع المسألة. الانتصار الأيديولوجي لليمين ولليبرالية المتوحشة وضع العالم في فراغ هرعت مسألة الهويات الدينية والحضارية كي تملأه. واذا كان هذا يعني أن الدول الغربية تعاني من خطر صعود الفاشية ومعها نمو الإرهاب، فإنه يتخذ في بلادنا شكل التفكك الكامل.

الصراع مع الاستبداد بشكليه العسكري والأصولي هو صراع على وجودنا كشعوب وحقوقنا كطبقات اجتماعية وأفراد. من هنا فإن الانسحاب من المعركة هو الموت بعينه.

لقد جاءت ثورات الشعوب لتحدث زلزالا في الوعي العربي، فالاستكانة إلى استبداد فقد شرعيته بحجة الخوف من الإسلاميين قادنا إلى الكارثة التي نعيش فيها. أعادنا هذا الزلزال الكبير إلى الأسئلة المؤجلة منذ انكشاف أزمة فكر النهضة العربية مع عجز الطبقات الاجتماعية التي قادت معركة الاستقلال عن مواجهة تحديات بناء الدولة، وصد الهجمة الكولونيالية الصهيونية.

لقد قدمت الناصرية محاولة لحل الأزمة سرعان ما انكشف قصورها بسبب غياب الديموقراطية والمحاسبة، لكن سقوط الناصرية فتح الباب امام ولادة نماذج شوهاء صنعت من الحكام العرب مجموعة من مصاصي الدماء والقتلة.

نجحت الديكتاتوريات في قمع جيل كامل من المثقفين العرب، وفي سحق بنى المجتمع الحديثة كلها، معيدة الواقع إلى البنى العشائرية والدينية والطائفية التي سرعان ما ابتلعت مجتمعاتنا لحظة انزياح قبضة الاستبداد، وكان هذا الابتلاع منظما عبر المال النفطي والضخ الإعلامي وتدفق المقاتلين السلفيين والتدخل الميلشيوي الإيراني. ولقد جاء اقتلاع حنجرة القاووش إشارة رمزية إلى قرار الأضداد بإخراس صوت الشعب وقضاياه الاجتماعية وتوقه إلى الحرية.

المعركة طويلة ومريرة وصعبة، وقد يذهب ضحيتها جيل كامل، لكننا لا نستطيع الانسحاب، اذ لا مكان نلجأ إليه.

إنها معركة إعادة تأسيس الوعي والإرادة.

معركة استئناف النهضة، وتأسيس هويتنا العربية بصفتها هوية متعددة عنوانها الحرية بلا قيود، ومقاومة الاستبدادَين والنفطين والتدخلين الخارجيين.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى