مراجعات كتب

الهوية والمواطنة، البدائل الملتبسة والحداثة المتعثرة/ د. عبد الحسين شعبان

 

 

كتاب مهم لـ د. عبد الحسين شعبان «الهوية والمواطنة» (2) العروبة والقومية/بول شاوول

صدر للمفكر العراقي د. عبد الحسين شعبان كتاب جديد «الهوية والمواطنة، البدائل الملتبسة والحداثة المتعثرة» (عن مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت).

وهو في عناوين ومعالجاته ومنظوره مساهمة مهمة في إشكالية مهمة تتناول مسألة العروبة كفكرة، والعروبة كقومية إيديولوجية»، ليغوص في مسألة الهوية، وتشابكاتها، وصداماتها، وشروطها وواقعها، وتعدديتها، وأحاديثها، لكن من التزام فكري أكده الباحث بأن العروبة كفضاء تاريخ ووجداني وديني لا يمكن أن تقم بنظرة «قومية» أو «دينية» أو لغوية مطلقة. إنها العروبة المفتوحة على الديمقراطية، والعدالة، والمساواة، والاعتراف بالآخر، والحداثة، والتنوير، بعيداً عن الذهنيات الشمولية الموحدة.

رحلة طويلة وعرة في مسائل العروبة والهوية، يعبرها الباحث، عبر مناقشات عقلانية – ثقافية – سياسية، هي أن الواقع ربما أكثر من إشكاليات، بل صارت معضلات، اليوم وسط هذه الحروب والتناحر، التي تسود العالم العربي، لا سيما دخول عناصر غير عربية على هذه الأزمات من باب الغزو – أو الهيمنة، أو تدمير العروبة بعناصرها وهوياتها.

وهنا لا بدَّ من الإشارة الى أن ما هدد «أفكار» الوحدة، أو حتى أشكال«التنسيق»، و» «التكامل» يعود في المجمل الى هيمنة الأحزاب الشمولية، الأحادية، الدكتاتورية، التي أخذت في البداية» «قناع» القومية… لتبسط سلطانها واستبدادها، لتنتقل الى كيانات أخرى» «مذهبية» ثم «عائلية»، وراثية رغم مزاعمها الثورية: من سوريا، الى العراق، الى ليبيا، فاليمن،… وكل هذه التراجعات سحقت كل انتماء عروبي – أو قومي، أو حداثي أو ديموقراطي، أو وطني… وهكذا «تعرضت الدولة الوطنية العربية، بسبب فشلها المدوي في تحقيق ركائز العروبة المفتوحة: الديموقراطية، العدالة، والمساواة، للتمزق والتشظي، وصعود هويات قاتلة، سواء كانت فرعية أو غير فرعية، د. عبد الحسين شعبان قدم في كتابه الأخير مختلف العوامل والظواهر والأساسيات والإشكاليات (وحتى المعضلات) التي أفشلت وتفشل قيام وحدة عربية، أو حتى نظام عربي: كأنما – الأمة العربية تحولت كانتونات… تضم شعوباً متنافرة… ولا شعباً واحدا ذا تعددية مفتوحة، بل باتت مهددة بأخطار تهدد وجودها نفسه، ومواطنيها، وجودها، وتاريخها، وثقافتها، وآمالها… وهويّتها المرصودة بناسها، وأديانها، وأثنياتها، ومدنها!..

 

وهنا فصلان من الكتاب: «العروبة والمواطنة».

 

لمناقشة فكرة الهوية العربية، نعيد طرح السؤال العام مجدداً، بخصوص ثبات أو تحوّل الهويّة والعلاقة التي تجمعهما، فهل العروبة هوية ثابتة ومحدّدة؟ ثم هل هي راكدة وساكنة أم أنها متحرّكة ومتغيّرة؟ يمكنني القول دون الخوف من الوقوع في الخطأ: الهوية العربية مثل غيرها ليست ثابتة، انها متحولة ومتغيرة مثل جميع الهويات، وهي ليست كاملة ودون تغيير باعتبارها مُعطى سرمدياً، ساكناً ونهائياً وغير قابل للتغيير، لكن ذلك لا يعني إنكار وجود بعض ثوابت الهوية مثل اللغة والدين، مع ان هذه تخضع ايضاً لنوع من التغيير من خلال فهمها وتفسيرها وتأويلها وقدرتها على قبول الجديد، (وقد أوردت تفصيلاً حول هذه المسألة في مباحث الكتاب المختلفة).

ان بعض عناصر الهوية العربية تتغير، مثل العادات والفنون، حذفاً أو إضافة، ولا سيما علاقاتها مع الثقافات والهوية الاخرى، تأصيلاً واستعارة. علماً بأن هذه التغييرات لا تأتي دفعة واحدة، بل تتم عملية التحول بصورة تدريجية، تراكمية، طويلة الأمد، الأمر الذي ينطبق على تفاعل وتداخل الهويات، ولا سيما عناصر التأثير والتأثر، الواحدة بالأخرى.

ويمكن اقتباس الاستنتاج الذي جئنا عليه وسحبه على الهوية العربية، فاختلافات الهويات ليس أمراً مفتعلاً حتى داخل الوطن الواحد، إذا كان ثمة تكوينات مختلفة دينية أو اثنية أو قومية أو لغوية أو سلالية، ناهيك باختلاف الهويات الفردية لكل إنسان، فما بالك بالجماعة البشرية.

وإذا كانت الهوية العربية العامة تمثل اطاراً واسعاً، ففيه يمكن أن تشترك هويات فرعية للجماعات والأفراد على نحو متنوع وتعددي، أي جمع الخصوصيات في نسق عام موحّد، ولكنه متعددة، وليس احادياً. فمن جهة يمثل هوية جامعة عامة، ومن جهة أخرى يتألف من هويات متعددة ذات طبيعة خاصة بتكوينات متميزة، سواء كان ذلك دينياً أو لغوياً أو اثنياً أو قومياً أو غير ذلك.

ان اصحاب الاتجاهات الشمولية لا ينظرون الى الهوية إلا نظرة احادية، فهو قد تكون واحدة «إسلامية» أو إسلاموية«حسب تفسيراتها، بما فيها من اسلام معتدل ومتنور واسلام محافظ وتقليدي، إضافة إلى إسلام داعشي وتكفيري، وقومية أو قوموية حسب اصولها العرقية ونمط تفكيرها. وبالطبع لا يمكن إهمال ممارساتها العنصرية والاستعلائية، واصطفافات طبقية كادحية حسب ايديولوجياتها الماركسية أو الماركسيوية التي ظلت تجتر الموديل الاشتراكي وتطبيقاته المشوهة، وما ان اطيح به في اواخر الثمانينات، حتى فقد الكثيرون من دعاة مثل هذه التوجهات بوصلتهم.

وهكذا نظرت التيارات الشمولية إلى حقوق المواطنة ومبادئ المساواة وحق الجميع في المشاركة وتولي المناصب العليا دون تمييز باعتبارها»مؤامرة«، تقف خلفها جهات امبريالية – استكبارية تضمر الشرور للمجتمعات العربية – الإسلامية؛ فهي وحدها التي لها الحق في الحديث عن مثل هذه الأمور، طالما تنسب لنفسها الأفضليات، وتزعم احتكار الحقيقة؛ وفي الواقع لم يكن ذلك سوى محاولة للتسيّد والهيمنة خارج نطاق مفهوم المواطنة المتساوية. وإذا كان جزء من هذا المنطق»كلام حق يراد به باطل«فإنه من غير المبرر هضم الحقوق وعدم الاعتراف بالتنوع الثقافي وازدراء الآخر. ان بعض الممارسات المتعصبة أو غير المتسامحة، ولا سيما بحق الجماعات القومية أو الدينية دفعتها إلى الانغلاق وضيق الأفق القومي، وبخاصة إذا كانت قد تعرضت للاضطهاد الطويل الأمد وشعرت بالتهديد لهويتها، وهو الأمر الذي كان احدى نقاط ضعف الدولة القطرية العربية تاريخياً، خصوصاً في مرحلة ما بعد الاستقلال.

ما زال الموقف العربي من الاقرار بالتنوع والتعددية قاصراً في الكثير من الأحيان حيث تسود مفاهيم مغلوطة عنها، سواء باسم»مصلحة الإسلام«أو العروبة أو مصلحة الثورة والوطن، وغالباً ما تؤاخذ الهويات الفرعية بزعم النقص في ولائها او خروجها على الهوية الوطنية العامة، وتتهم بشتى التهم الشعبوية والتغريبية ونقص المواطنة، وينظر الى منتسبيها كرعايا لا مواطنين، وإن كان المواطنون ككل مهدوري الحقوق، لكن اللوم سيقع على الهويات الفرعية، التي سيكون اضطهادها مركباً ومزدوجاً ومعاناتها كذلك، الأمر الذي يحتاج الى نقاش وحوار واسعين من لدن جميع الفرقاء والفاعلين السياسيين والاجتماعيين وناشطي المجتمع المدني باتجاه إقرار مبادئ المواطنة الكاملة والمساواة التامة وعدم التمييز، فذلك هو السبيل لتعزيز الهوية الوطنية سواء في العراق أو في الدول العربية والاسلامية، وتأمين حقوق الهويات الفرعية القومية والدينية وغيرها.

ولا بد من إقرار ذلك دستورياً، وخصوصاً إذا تمكنت البرلمانات العربية – رغم كل الملاحظات عليها – وبعد حوارات جادة ومسؤولة وفي ظروف سلمية وطبيعية، من اعتماد مشروع القانون، حيث لن يكون بالامكان التخلص من المحاصصات والتقسيمات الطائفية، دون إقرار ذلك قانونياً وعملياً، وهو ما يحتاج إلى توفير قناعات لدى الرأي العام في كل بلد عربي، وبخاصة من خلال التعامل مع المشكلة بالتحليل والبحث والتساؤل والصبر وطول النفس وانتقاد الذات وتقديم المصلحة العامة، التي تتطلب التعاون على اساس المشترك الانساني والهوية الجامعة والتخلي عن نزعات الهيمنة وادعاء الافضليات وإقصاء الآخر أو الانتقاص من دوره.

ان الحق في الهوية الثقافية للشعوب يعطي الاشخاص والجماعات الحق في التمتع بثقافاتهم الخاصة وبالثقافات الاخرى المحلية والعالمية، ذلك بأن إقرار الحق في الثقافة يعني: حق كل ثقافة لكل امة او شعب او جماعة في الوجود والتطور والتقدم في اطار ديناميتها وخصائصها الداخلية واستقلالها، ودون اهمال العوامل المشتركة ذات البعد الانساني وقيم التعايش والتفاعل بين الامم والشعوب والجماعات.

وقد شهد القانون الدولي في العقود الثلاثة الماضية تطوراً ايجابياً، حيث تناولت عدة معاهدات واتفاقيات دولية موضوع عدم التمييز. كما حظيت»الحقوق الخاصة«باهتمام كبير، وخصوصاً بعد ابرام»اعلان حقوق الاشخاص المنتمين إلى اقليات قومية او اثنية او دينية او لغوية«الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ27 برقم 135 في 18 كانون الأول/ ديسمبر 1992، والذي عُرف باسم»اعلان حقوق الأقليات«(Minority Rights)، حيث أنشئ على أساسه فريق معني بحقوق الاقليات عام 1995 اعتماداً على الحقوق الثقافية. واستكمل ذلك قرار الجمعية العامة للامم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الاصلية الصادر في عام 2007.

والمقصود بـ»الحقوق الخاصة«هو الحفاظ على الهوية والخصائص الذاتية والتقاليد واللغة في اطار المساواة وعدم التمييز وهو ما نص عليه العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عام 1966 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي دخل حيّز التنفيذ في آذار/ مارس عام 1976.

ان الاقرار بالتنوع الثقافي والديني والاثني هو اقرار بواقع أليم، فقد كان ثمن التنكّر باهظاً وأسهم في تفكيك الوحدة الوطنية وهدد الامن الوطني واستخدمته القوى الخارجية وسيلة للتدخل وفي هدر الاموال وفي الحروب والنزاعات الاهلية، بدلاً من توظيفه بالاتجاه الصحيح باعتباره مصدر غنى وتفاعل حضاري وتواصل انساني، وقبل أي شيء باعتباره حقاً إنسانياً!

ولعل الاقرار بالتنوع الثقافي والتعددية القومية والدينية هو نقيض الفكر اليقيني المطلق؛ وهذا الأخير هو فكر إقصائي لا يؤمن بالآخر، ويريد إلغاء التمايزات داخل المجتمع بكياناته ومكوناته وافراده وتدجين التعددية واختزال الخصوصيات، والأكثر من ذلك يريد إلغاء تاريخ المكونات بحيث يلعب فيها مثل كرة عمياء تتدحرج في طريق أعمى وبأيدٍ عمياء.

ثالثاً: العروبة والمواطنة

إذا كان موضوع الهوية، ولا سيما العلاقة مع الآخر، يوضّح جوهر العروبة الإنساني وتجددها الحضاري، وموقفها التقدمي، أو نقيضه، فإن ذلك يقودنا الى الحديث عن جانب آخر يتعلق بعلاقة العروبة بالمواطنة، وخصوصاً في اطارها القانوني، ولا سيما في ظل الدولة المنشودة. وهناك أربع دلالات أساسية، يمكن التوقف عندها:

الدلالة الأولى ان موضوع علاقة العروبة بالمواطنة يبقى راهنياً، بل اصبح مطروحاً على نطاق واسع، وخصوصاً ان هناك تجاذبات كثيرة حوله، داخلياً وخارجياً، ولا سيما بعد فشل التجارب الوحدوية العربية من جهة، والأنظمة التي حكمت باسم العروبة من جهة أخرى، وبالأخص الإخفاق في التعاطي مع قضية الحريات والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة، فضلاً عن سلبية النظرة الى المجموعات الثقافية.

الدلالة الثانية ان هناك التباساً نظرياً وعملياً يحتاج إلى فك الاشتباك فيه، بإعادة النظر في عدد من المنطلقات والمواقف، سواء ما يتعلق بالجوانب النظرية أو بالممارسة العملية»السلطوية«الفوقية الاستعلائية.

والدلالة الثالثة لا يمكن إبعاد فكرة العروبة بمعناها الحضاري من التأثيرات التي انتعشت في ما يتعلق بحقوق المواطنة بمفهومها الحديث، الأمر الذي يجعل من الواجب إدارة حوار فكري ومعرفي حولها، طالما أنه يدخل في صلب الاشكاليات والمشكلات التي تواجه المصير العربي، إذ لا عروبة حقيقية دون مواطنة فاعلة وحيوية.

والدلالة الرابعة حساسية علاقة العروبة ومفهومها الحضاري بمسألة حقوق الإنسان، إذ لا يمكن تحت أي مبرر أو هدف مزعوم التضحية بهذه الحقوق، بذريعة إنجاز الوحدة العربية أو تحرير فلسطين، لأن الوحدة والتحرير ينبغي أن يمرا بطريق حقوق الإنسان والديموقراطية، كمنهج سياسي يسعى بالتلاقح والتفاعل مع هدف العدالة الاجتماعية وتحقيق الآمال المنشودة.

يحتاج الأمر إلى معالجات ودراسات، وبيئة تشريعية وتربوية مناسبة، سواء في كل بلد عربي أو على الصعيد القومي، في حال اتحاد اي بلدين عربيين أو أكثر، إضافة إلى ما يمكن أن يؤديه الإعلام ومنظمات المجتمع المدني من دور إيجابي في نشر ثقافة المواطنة، والدعوة إلى العروبة الحضارية المنفتحة، ولا سيما اذا تمكنت من ايجاد رصيد لها لدى القوى والأحزاب والجماعات السياسية والدينية بذلك.

وإذا كان الحديث عن فكرة المواطنة الأوروبية أين العرب من هذا التطور؟ يمكن التوقف عند تجربتين جنينيتين: الأولى، خليجية؛ والثانية، مغاربية. لكن ما زال الطريق طويلاً أمامهما (مجلس التعاون الخليجي والاتحاد المغاربي)، إذ لا يمكن التكهن حتى الآن بما ستؤول إليه هاتان التجربتان، فالنواتان يمكن أن تكونا أساساً مشتركاً لمواطنة موسّعة تنطلق من المواطنة المحلية إلى المواطنة العربية.

أخيراً لا يمكن الحديث عن عروبة متطورة من دون التعبير وجدانياً عن هوية مقترنة بمواطنة، وهذه الأخيرة بدولة عصرية تحترم الحقوق والحريات، مثلما تقر بالتنوع الثقافي والتعددية القومية والدينية في دول متعددة الهويات في اطار الهوية العامة.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى