صفحات الرأيعمر كوش

«الهيمنة الذكورية» لبيار بورديو


التقسيم الجنسي للعمل وثنائية الهيمنة والخضوع

عمر كوش

يحتل عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو (1930 – 2002)، مكانة مميزة في حقل الدراسات الإنسانية، ليس في فرنسا وحدها، بل في العالم كله، نظراً لما أحدثه تحليله للظواهر السياسية والإجتماعية والثقافية من تغير في حقل الدراسات الثقافية وفي مفهوم علم الإجتماع نفسه.

وعلى الرغم من أن الرجل كان يحسب على الأوساط اليسارية منذ خمسينيات القرن الماضي، إلا أنه هجر طرق التحليل والتفكير الماركسية التي تركز على العناصر الإيديولوجية في الظواهر التي تدرسها، مفضلاً نوعاً من التحليل البنيوي المركب الذي يحتفظ بالمنظور اليساري، في الوقت الذي يتخفف فيه الباحث من التفسير الإيديولوجي لمصلحة التحليل الداخلي لكل ظاهرة. كما أنه طوّر في عمله عدداً من الاستعارات القوية، كي يصوغ استناداً إليها تحليله لعلاقة القوة والهيمنة في الفضاء الاجتماعي من خلال التراتبية الثقافية، التي عدها أساساً لعمليات التمييز الطبقي والاجتماعي في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة.

وفي «كتابه الهيمنة الذكورية» (ترجمة سلمان قعفراني، بيروت 2012) يطرح بورديو مسألة تشكل هاجساً لدى معظم المحللين والباحثين الاجتماعيين في النظام الاجتماعي والجنس، وهي مسألة التغير في نظام الجنس المؤسس على الهيمنة الذكورية، والمعترف به في جميع المجتمعات، ملاحظاً ثبات البنى الجنسية، واستقلاليتها عن البنى الاقتصادية، وعن أنماط إعادة الإنتاج والتشكيلات الاقتصادية، وذلك بعكس ما تدعيه الفلسفات والنظريات المادية.

ويتخذ بورديو من مجتمع القبائل في الجزائر نموذجاً لمجتمع المركزية الذكورية، كي يكشف بعض السمات الأكثر تستراً، داخل مختلف المجتمعات المعاصرة، التي ما زالت تنهض على الهيمنة الذكورية، المجسدة في التمييز الرمزي، بين ما هو ذكوري وما هو أنثوي، فيما الاختلاف البيولوجي بين الجنسين، أي الاختلاف بين الأجساد الذكورية والأنثوية، وخاصة الاختلاف التشريحي بين الجنسين، يمكن أن يظهر إذاً، وكأنه تبرير طبيعي للاختلاف المكرّس اجتماعياً بين النوعين، وبشكل خاص التقسيم الجنسي للعمل. وعليه، يتساءل بورديو عن ماهية الآليات التاريخية المسؤولة عن اللاتاريخانية والتأبيد النسبيين لبنى التقسيم الجنسي، ومبادئ الرؤية المطابقة لهما.

ويحاول بورديو تفكيك ثنائية، الهيمنة والخضوع، المعبر عنها في جدلية التبادل الاجتماعي بين قطبي المعادلة من الرجال والنساء، ويعمل على جعلها مرئية، باعتبار أن الهيمنة الذكورية مازالت قائمة عبر العنف الرمزي، بصفته العنف الناعم واللامحسوس واللامرئي من طرف ضحاياه أنفسهم، والذي يمارس في جوهره بالطرق الرمزية الصرفة للاتصال والمعرفة، وخاصة بالجهل والاعتراف. وكل ذلك متأصل في العقول وبالأجساد، وأدمج على شكل ترسيمات غير واعية من الإدراك الحسي والتقييم.

ولا يخرج تفكيك المركزية الذكورية عن صلب اهتمامات بورديو على مدار مسيرته العلمية، من خلال تحليل أشكال التمييز وعدم المساواة تحليلاً بنيوياً، من دون أن يركن إلى وهم الموضوعية الذي تدعيه البنيوية. وقد سعى إلى الذهاب بعيداً متجاوزاً سلطة النموذج في علم الاجتماع للقبض على الظاهرة الاجتماعية وتحليل الممارسات من دون الاعتماد على الكليشيهات والأنماط الجاهزة والتصنيفات المتداولة في الدوائر العلمية. وعلى النقيض من ذلك عمل بورديو، خلال مرحلة بحثه في الجزائر، على الكشف عن صيغ الهيمنة في المجتمعات الرأسمالية كما تظهر في حقلي التعليم والفن. وارتكزت أطروحته على قاعدة أساسية مفادها أن الطبقة السائدة لا تقوم بالهيمنة على نحو صريح، بل إنها تعمل على دفع الطبقات المسودة إلى التكيف استناداً إلى مشيئتها، كما أن الطبقة السائدة في المجتمعات الرأسمالية تستفيد من سلطاتها الاقتصادية والاجتماعية والرمزية التي تتمثل في رأسمالها الاقتصادي والثقافي، الذي تعمل مؤسسات المجتمع وممارساته على تعظيمه وزيادته.

ويظهر اشتغال بورديو البحثي أن التقسيم بين الجنسين هو نظام الأشياء، الذي لا يمكن تجنبه، كونه حاضراً في الحال المتكونة والمشكلة في الأشياء، وفي العالم الاجتماعي بكامله، وموجود في الحال المدمجة في الأجساد وسواها، فيعمل كأنساق من ترسيمات إدراك وتفكير وفعل. وعليه، تظهر قوة النظام الذكوري كأمر غنيّ عن التبرير، ذلك أن الرؤية مركزية الذكورة تفرض نفسها كأنها محايدة، وأنها ليست بحاجة إلى أن تعلن عن نفسها في خطب، تهدف إلى شرعنتها. ويعمل النظام الاجتماعي من جهة كونه آلة رمزية كبيرة، تميل إلى المصادقة على الهيمنة الذكورية التي يتأسس عليها، وتشكل التقسيم الجنسي للعمل، والتوزيع المحكم جداً للنشاطات الممنوحة لكل فرد من الجنسين، وتحديد مكانه وزمنه وأدواته. كما يشكل بنية الفضاء، حيث التعارض في مكان التجمع أو السوق، المخصص للرجال، والمنزل المخصص للنساء، أو التناقض داخل المنزل بين القسم الذكوري مع الموقد، والزريبة والماء والخضار في القسم الأنثوي. وتشكل أيضاً بنية الزمن، على مستوى الأيام والسنوات الزراعية، ودورات الحياة وفترات الحمل الأنثوية.

ويعتبر بورديو أن العالم الاجتماعي يبني الجسد واقعا مجنساً، ومؤتمناً على مبادئ رؤية مجنسة، حيث يطبق البرنامج الاجتماعي المندمج في الإدراك على كل الأشياء في العالم، وفي المقام الأول على الجسد نفسه في حقيقته البيولوجية. ويبني البرنامج نفسه الاختلاف بين الجنسين البيولوجيين، وفق مبادئ رؤية أسطورية للعالم متجذرة في العلاقة الاعتباطية لهيمنة الرجال على النساء، المتأصلة مع تقسيم العمل، في حقيقة النظام الاجتماعي، وبالتالي تجد الهيمنة الذكورية كل الظروف مجتمعة لملء ممارساتها، حيث يتأكد الحضور المعترف به كونيا للرجال قوالب لأحاسيس وأفكار وأفعال كل أفراد المجتمع، بوصفها مشكلة تاريخياً. وبما أنها متبادلة عالمياً، في مختلف المجتمعات، فإنها تفرض نفسها على كل فرد، وتدخل في تكوين موضوعية البنى الاجتماعية ونشاطات الإنتاج وإعادة الإنتاج، وبما يمنح الرجل الأولوية والنصيب الأوفر في النظام الاجتماعي برمته.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى