صفحات سوريةعمر قدور

الواقعي والافتراضي في الانتفاضة السورية


عمر قدور

قد يُفاجأ القطريون بوجود ثورة في بلادهم ضد أميرها، وبوجود صفحة على الفيس بوك تغطي أخبارها، وبالتأكيد لا يعرف العالم ولا الصينيون أنفسهم بوجود ثورة صينية ضد جينتاو رغم وجود صفحة على الفيس بوك تُعنى بآخر تطوراتها. أما نشطاء الفيس بوك في سوريا فيعرفون الصفحتين جيداً، ولهذا قصة تدل على جانب من الحالة السورية لا يقتصر على الطرافة وحسب. تعرّف صفحة الثورة القطرية مهمتها على النحو التالي: “نحن قطريون ونريد دعم أخوتنا العرب مصريون وليبيون وبحرينيون ويمنيون ومغاربة وسعوديون وإماراتيون وكويتيون وموريتانيون وصوماليون وعمانيون وعراقيون وسوريون ولبنانيون وأردنيون وفلسطينيون وتوانسة وسودانيون وجزائريون.. نريد أن ندعم حركات المقاومة العربية ضد الصهيونية الإمبريالية ونريد أن يرى كل العالم فضائح وجرائم عميل الصهيونية رقم واحد”!.

أليس غريباً أن يثور القطريون فقط من أجل دعم الشعوب العربية الأخرى، والتي لا همّ لها سوى الصهيونية الإمبريالية؟! صفحة الثورة القطرية توقفت عن التحديث وقت انقطاع النت في سوريا، ومن المعروف على نطاق واسع أن مؤيدي الحكم هم الذين أنشأوها غيظاً من موقف حليف الأمس تجاه ما يجري اليوم، أما صفحة الثورة الصينية فقد أنشأها شاب معارض ربما على سبيل السخرية من الصفحة الأولى، وتزداد السخرية وضوحاً باختيار الصين كأضخم دولة بعدد السكان قياساً إلى دولة صغيرة كقطر، لكن الاعتبار الأهم الذي كشف عنه مؤسس الصفحة فيما بعد هو أنه أطلقها وفاء لروح أخيه الذي استشهد أثناء الانتفاضة. الثورة الصينية محاكاة ساخرة لما يجري في سوريا، تتبدل أسماء الأشخاص والأماكن كأنما لتقول أسوة بالإعلام الرسمي أن لا شيء يحدث هنا، وأن بوسع الذين يغمضون أعينهم تصور الأحداث وكأنها تجري في مكان آخر قصيّ، وأن ينعموا بهناءة هذا الافتراض.

من يشاء النوم في العسل بوسعه الركون إلى روايات الإعلام الرسمي وصداها في الصفحات الموالية؛ هنا يجد أنصار الحكم طمأنينتهم وراحة بالهم، إذ لا شيء يحدث في سوريا سوى بعض الشغب الذي يسببه إرهابيون سلفيون وعملاء، ومن أجل التصدي لهم لا بأس إن صدقت روايتهم عن اقتلاع أظافر مجموعة من الأطفال في مدينة درعا!. هذه ليست مزحة سمجة، لقد ورد تعليق بهذا المعنى على صفحة أُطلقت دعماً وتأييداً لضابط الأمن المتهم بتعذيب الأطفال، أما الإنكار فحدّث ولا حرج، وآخر إبداعاته أن الناشط المعرف غياث مطر لقي حتفه أثناء تبادل لإطلاق النار مع أحمد عيروط، وهو ناشط آخر قُتل أثناء تشييع جنازة الأول!. بالطبع لا ذكر هنا لآثار التعذيب على جثة غياث مطر، فآثار التعذيب هي اختلاق من المندسين الذين سبق لهم اختلاق مقتل ابراهيم قاشوش واقتلاع حنجرته!.

“نحن المخابرات السورية الالكترونية تمكنا من اختراق حسابك على الفيس بوك ونسخ بياناتك، وسنقوم بتسليمها لأجهزة الأمن لتتولى ملاحقتك”؛ هذه الرسالة التي تصل إلى بعض المعارضين هي نموذج لما بات يُسمى “التشبيح الالكتروني”، وإحدى الجهات التي تقوم به تنتحل اسم “الجيش السوري الالكتروني” موحية بأنها هيئة وطنية. على المقلب الآخر تتجلى النزاهة عندما نجد شباناً يقومون بالفعل المضاد تحت اسم “اتحاد قراصنة سوريا الأحرار لدعم الثورة السورية”، فهؤلاء يقرّون بأن ما يفعلونه هو قرصنة، وعلى صفحتهم يضعون بكل شفافية أسماء المواقع التي قاموا باختراقها، ولم يُعرف عنهم اختراق مواقع أو صفحات شخصية وتخريبها، أو كتابة الشتائم والتهديدات لأصحابها. لغة الشتائم، فضلاً عن عدم أخلاقيتها، تنمّ عن قلة الحيلة وافتقاد المنطق والحجة، لذا ليس من المستغرب أن تتراوح لغة الصفحات الموالية بين التغني بشعارات المقاومة والممانعة وبين التخوين وشتم المعارضين في تغييب فجّ لأسباب الصراع.

ليس من باب المصادفة أن تفتقر الصفحات الموالية إلى المخيلة، فهي أنشئت كرد فعل على الصفحات التي أنشأها شباب الانتفاضة والمؤيدون لها، واعتمدت على المخزون اللغوي الأيديولوجي للسلطة مقدّمة دليلاً إضافياً على عقمه وعلى ابتعاده المطرد عن الواقع. إن بحثاً سريعاً على صفحات الفيس بوك يعطي صورة واضحة عن مدى تنوع الصفحات المؤيدة للانتفاضة، ومدى اختلافها أيضاً، وبالتأكيد لا أحد يزعم أن هذه الصفحات لها ذات السوية على المستوى الفني أو على مستوى الخطاب، لكنها بالتأكيد تفترق عن الصفحات المؤيدة لجهة عدم وقوعها في النمطية وعدم وجود محور وحيد تدور حوله إلى الأبد.

لقد نشط شباب الثورة على الفيس بوك وكسروا الحواجز التقنية في وقت كان الموقع محجوباً في سوريا، وانطلقت أولى الدعوات للتظاهر من خلاله، وظن البعض أن الأسماء المستعارة للناشطين مجرد واقع افتراضي حتى أثبت الواقع الواقعي خلاف ذلك، وأصبح الفيس بوك مصدر إرباك وخوف للنظام الأمني ذي الأساليب التقليدية في القمع. ثمة نكتة متداولة تدل على حجم الهوة بين الشباب والنظام الأمني. تقول النكتة إن حاجزاً أوقف شاباً معه كمبيوتراً محمولاً وفلا ش ميموري، سأله عن الكومبيوتر وعن الفلاش، ثم سأله: معك فيس بوك؟ صحيح أن النظام الأمني يحاول جاهداً ردم الهوة المعرفية بالمزيد من البطش، لكن آلة القمع تكشف يومياً عن حجم اغترابها عن الواقع المستجد، ولعل المفارقة هي أنه بقدر ما تكون الفظاعة ملموسة إلا أنها لم تعد تنتمي إلى الواقع السوري الجديد.

في سوريا صراع يزحزح المفاهيم المعتادة. فالسلطة، عادة وحكماً، تنتمي إلى الواقع أما في سوريا فالسلطة تعيش في واقعها المفترض، سلطة تملك نظرياً جميع مفاتيح القوة وتبددها باغترابها المطرد عن الواقع الفعلي. بينما نجد الشباب السوري استطاع تحويل ما هو افتراضي إلى واقعي. قد تفسر الضرورة جانباً من حجم التواصل الذي يلجأ إليه السوريون على صفحات الفيس بوك، مع أن ذلك تعدى الضرورة إلى الدمج بين ما هو افتراضي وما هو واقعي، فالفيس بوك السوري تجسيد للعقل السوري الذي تحرر من افتراضات النظام، وهو لصيق بالواقع على العكس من الاغتراب الذي يحاول النظام تعميمه على الجميع، إنه يمور بتباينات وفرادة يفتقر إليها الواقع الافتراضي للسلطة. علاوة على ذلك تعيش السلطة والموالون واقعاً افتراضياً مفاده أن لا شيء يحدث في سوريا، ثمة ثورة في قطر والوضع مستتب هنا؛ لم لا؟! فلتهنأ السلطة بواقعها المزعوم إلى أن تُفاجأ بانتصار الثورة في الصين لا في قطر!.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى