صفحات سوريةعبدالله تركماني

الوجه الحضاري لثورة الشعب السوري/ د. عبدالله تركماني

فجأة كسر السوريون حاجز الخوف في أواسط آذار 2011 وتحولت كلمتا الحرية والكرامة، اللتان مازالتا تترددان في جميع أرجاء سورية، من مفهوم مجرد إلى عمل وممارسة وموقف، إلى فعل تاريخي. ورغم كل أشكال القمع الممنهج التي تواجهها، من الحصار والقتل والترويع في البراميل المتفجرة، إلى التهجير والاعتقال لآلاف النشطاء، إلى إحالة الكثيرين منهم إلى المحاكم الصورية، فإنّ ثورة الشعب السوري التي دخلت سنتها الرابعة تمتد عمقاً واتساعاً في معظم المدن والبلدات وبجميع المحافظات، وهي أكثر قوة وتصميماً على نيل أهدافها، لأنها كشفت عن وجه حضاري ورقي في الأساليب السلمية ونضج في الشعارات الوطنية الجامعة، بالرغم من العسكرة التي طغت عليها بفعل عوامل عديدة داخلية وإقليمية ودولية.

لقد أحرزت الثورة إنجازات مهمة، بفضل سلميتها ووطنيتها الجامعة، فكسرت حاجز الخوف الذي هيمن طويلاً على حياة السوريين، وأظهرت للملأ شجاعتهم واستعدادهم للتضحية من أجل حريتهم وكرامتهم، وأبرزت تصميمهم على التغيير وبناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة. وقامت بفضح الخيار الأمني الذي اعتمدته السلطة منذ اليوم الأول للثورة، كما نجحت في تكذيب كل ادعاءات السلطة واتهاماتها ودعايات إعلامها المسمومة حول حقيقة ما يجري. واستمرت بالإصرار على نهجها السلمي وشعاراتها وأهدافها الوطنية وسلوكها الحضاري، رغم كل المحاولات التي قام بها النظام وأزلامه ونهجه المدمر لتشويه حقيقتها وحرفها عن مسارها. وبذلك كانت لحظة انبثاق الوطنية السورية من جديد، لحظة انبثاق حس المواطنة السورية، الذي هو أهم وأثمن ما في الثورة السورية.

وخلال السنوات الثلاث الماضية كان واضحاً دور الشباب الثائر في قيادة فعاليات الثورة، حين نجحوا في اختيار أماكنها وتحديد أوقاتها. وقد تعلموا مع أغلبية الشعب السوري ثلاثة أشياء جديدة دفعة واحدة: أولها، ماذا تعني كلمة ثورة، وكيف يقوم الإنسان بخوض ثورة بكل ما تعنيه الكلمة من فاعلية، وهذا يبدو في التطور السريع لآليات عمل الشباب ابتداء بالاعتصامات والتظاهرات وليس انتهاء بالتنسيق والتشبيك والتواصل والتوثيق لكل ما يحدث وسيحدث. وثانيها، تعرّف الشباب بعضهم على بعض، بل اختبار بعضهم بعضاً، في مختلف المناطق السورية، وبالتالي تعلّم كيفيات العمل الجماعي، الأمر الذي كانوا يجهلونه تماماً، ويتعلمون الأهم وهو أن يفهموا الاختلافات ويتفاعلوا معها لا أن يلغوها. وثالثها، تعلّم ماذا تعني كلمة سياسة، بمفهومها الإجرائي في الواقع وليس نظرياً على الورق فحسب. فعلى الرغم من أنهم نشأوا في مناخات عامة كانت تلغي السياسة بتنوعاتها وتستبدلها برؤية واحدة وانتماء واحد وحزب واحد وما إلى ذلك من الأحاديات، وهذا ما جعل السياسة وتجلياتها وسيناريوهاتها المفترضة والممكنة والآراء المختلفة وما إلى ذلك هي المهيمنة على جلسات الشباب اليوم وهي الحاضرة في لقاءاتهم أينما كانوا وأياً كانت مواقفهم واتجاهاتهم.

وهكذا، فإنّ حساسيتها العامة، الوطنية والمدنية، وأكثر منها شعاراتها وسياستها، تؤكد الثورة السورية تفوقها السياسي والأخلاقي على النظام، وتضع المدافعين عنه أو حتى الساكتين عليه في موقع حرج. وبذلك أضحت الثورة أكثر اتساعاً، فلم تبقَ محافظة من محافظات سورية خارج دائرة الفعل الاحتجاجي، وإن بدرجات متفاوتة.

وفي المقابل بات واضحاً أنّ السلطة ماضية في خيارها الأمني واستخدام العنف المفرط، حيث استخدمت قواها الأمنية وقوات ميليشيات حزب الله، كما استعانت بالشبيحة والقناصة والزعران، ولجأت إلى حصار المدن واعتقال السكان وحشرهم في الملاعب والمدارس والأماكن العامة والثكنات. وبذلك توفر سلطة آل الأسد أسباباً جديدة للنفور منها والفتور تجاهها، وإن ليس بالضرورة الانحياز للثورة والمشاركة فيها. كل هذا يظهر هذه السلطة على حقيقتها الفظة: لا قضية لها سوى استمرار سلطتها المستبدة، ولا يمكن التماهي معها. قد تواليها قطاعات من السوريين خشية من غيرها، لكن لا يكاد أحد يمحضها الولاء إيماناً بها أو اقتناعاً بقضية إيجابية لها.

إنّ الأزمة السورية، التي دفعت الشعب السوري للثورة، أزمة مزمنة عمرها أكثر من 40 سنة، وهي أزمة تطال كل مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. والشعب السوري قرر تصفية الحساب مع مسببيها، من خلال الانتقال بسورية من حال الاستبداد والدولة الأمنية إلى حال الحرية والدولة المدنية الديمقراطية عبر حوار جاد ومسئول، تتمثل فيه جميع الأطراف السياسية والمكونات الاجتماعية وممثلي تنسيقيات ونشطاء الثورة.

إنّ الشعب السوري يريد الحرية والحياة الكريمة في ظل دولة وطنية، مدنية، هي دولة حق وقانون لجميع مواطنيها، وسلطة وطنية عامة هي سلطة القانون الذي يضعه الشعب لنفسه بإرادته الحرة. والحل المجدي الوحيد يكمن في قيام الدولة، التي عمادها المواطنة الكاملة القائمة على دستور عادل لا يميّز بين المواطنين على أساس ديني أو مذهبي أو قومي.

إنّ الثورة هي الفاعل الأساسي في سورية اليوم وهي أيضاً الصانعة لقيم جديدة: الحرية والكرامة والمساواة والعدالة، ولشرعية جديدة قائمة على المواطنة. ومن القضايا المهمة التي تحتاج الثورة إلى دعم سياسي بشأنها ما يتصل بتكوين المجتمع السوري من مشكلات سياسية محتملة، والعمل على بناء أكثرية وطنية جامعة جديدة، تؤسس لامتلاك السوريين دولتهم، وتسهم في تكوّنهم كمواطنين أحرار متساوين. وبذلك يمكن للثورة، التي لم توفر لأحد أسباباً وجيهة لرفضها، أن توفر أسباباً قوية للانحياز لها والوقوف إلى جانبها من جميع مكونات الشعب السوري.

باحث استشاري في «مركز الشرق للبحوث»

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى