صفحات سورية

الوضع الراهن: الشعب والسلطة والمعارضة وأفق الانتفاضة


ائتلاف اليسار السوري

أنهت الانتفاضة السورية شهرها السابع ولازالت مستمرة بقوة لافتة، رغم القتل اليومي والاعتقال الواسع، ورغم كل أشكال الحصار والسيطرة العسكرية وفعل الشبيحة، والتخويف الإعلامي. وهو أمر ليس غير طبيعي لأن كل هذه الجموع التي انتفضت لم تفعل ذلك إلا لأنها لم تعد تستطيع تحمّل الوضع الذي هي فيه، وهي لذلك تندفع من أجل فرض التغيير لصياغة وضع جديد يحقق مطالبها، ويجعلها تستطيع العيش على الأقل. لقد باتت قطاعات كثيرة منها عاجزة عن العيش أصلاً وفق الوضع الذي تبلور خلال العقود الماضية، وباتت حياتها موت، لهذا لم يعد الموت يخيفها، الأمر الذي جعلها تقدم على مواجهة الرصاص دون تردد أو خوف، وأن تستمر دون تراجع.

المسألة هنا هي مسألة خيار وحيد هو تحقيق التغيير الذي يعني وفق شعاراتها إسقاط النظام، لكنه يعني ما هو أبعد من تغيير أفراد وتبديل وجوه، حيث لا بد من أن يقود ذلك إلى تحقيق ما يجعلها قادرة على العيش. بالتالي لا بد من إسقاط النمط الاقتصادي الذي كرّسته هذه السلطة، والذي قاد إلى تهميش وإفقار كل هذه الكتلة الكبيرة من الطبقات الشعبية. وإسقاط النظام يعني هذا أولاً وبالتحديد، لأنها تريد المقدرة على العيش، وهي تصرخ الآن لأنها تريد العيش، وتطالب بالحرية التي تعني بالنسبة لها المقدرة على العيش بالتحديد، وليس لا الكلام ولا الخطابة ولا المشاركة السياسية، فهذه كلها لا تعنيها إلا بالقدر الذي يخدم تحقيقها وضعاً يسمح لها بالعيش. وهنا فإن الحرية بالنسبة لها تتضمن ذلك أولاً، وبالتالي سوف يستمر الصراع إلى أن يتحقق الوضع الذي يجعلها قادرة على العيش. وهي الآن تقاتل من أجل إسقاط السلطة على أمل أن ينفتح الأفق لتحقيق مطالبها تلك. وهي مستمرة، وستستمر إلى أن يتحقق ذلك. وسيكون إسقاط النظام هو الخطوة الأولى التي لا بد من أن تفتح الأفق لذلك.

وبعد هذه الشهر من البطولة والجرأة والقوة لا بد من وقفة تقييم لوضع الانتفاضة، ولانعكاسها على بنية السلطة وآفاق التغيير، لكن أيضاً وضع المعارضة، وممكنات التدخل “الخارجي”، ومن ثم ما هو مطلوب الآن، وآفاق الانتفاضة. فرغم بطولة الطبقات الشعبية نلمس بأن هناك من يعتقد بأنْ لا أفق للانتفاضة، أو أن الأفق غير واضح كفاية، وأنها باتت “حالة تكرارية” تحتاج إلى من يفتح الأفق لها. وهو الأمر الذي يفرض البحث في “مشكلاتها”، وفي الأفق الضروري لانتصارها.

وضع الانتفاضة

إلى أين وصلت الانتفاضة بعد كل هذا الزمن؟

ربما يبدو وضع قطاع من النخب مرتبكاً نتيجة طول الزمن الذي مضى دون أن يتحقق الانتصار، ولهذا بدت حالة من التشكك والتشاؤم تتسلل إلى هذا القطاع. وأخذ البعض يعتقد بأنْ ليس من حل سوى عبر التدخل “الدولي”. ولقد جاء انتصار الثورة في ليبيا ليعزز من هذا الموقف، أو لكي يكون تعزيزاً لهذا الموقف، وليرسم تصوراً عن دور مشابه لحلف الناتو.

وأيضاً أفضى هذا الوضع إلى الميل لتصعيد نزعة تسليح الانتفاضة، والتحوّل إلى العمل العسكري، كمخرج من المأزق الذي باتت تعيشه كما يعتقد قطاع من الفاعلين فيها، خصوصاً بعد توسع الانشقاقات في الجيش.

هل أن الانتفاضة في مأزق؟ وبالتالي هل أن المخرج هو إما في التدخل الإمبريالي أو الانتقال إلى السلاح؟

الانتفاضة ليست في مأزق، رغم مرور سبعة أشهر على انطلاقتها. وربما يكون هذا الأمر “طبيعياً” في بلد اتسم بالعسكرة الشديدة، وبالضبط الأمني الكبير، وبتشكيل قوى “خاصة” تحمي السلطة. هذا ما شهدناه في ليبيا وفي اليمن. خصوصاً وأن الانتفاضة هي عفوية إلى حدّ كبير، وهي في سورية أضعف “تنظيماً” من كل البلدان الأخرى. وكذلك لا بد من ملاحظة أن انطلاق الانتفاضة جاء بتأثير “عربي” أكثر مما كان الوضع الداخلي قد وصل إلى لحظة حدوث انفجار اجتماعي، رغم أن الوضع الاقتصادي كان قد أصبح مشابهاً لأوضاع البلدان العربية الأخرى، وكان الاحتقان يتراكم دون أن يصل لحظة كسر حاجز الخوف لدى كل الطبقات المفقرة بشكل متساوي. وحاجز الخوف هو أساسي في نشوء بعض التردد والتخوف، وحتى قبول روايات السلطة من قبل قطاع من الطبقات الشعبية التي لم تشارك بعد والتي لا بد من أن تكون جزءاً من الانتفاضة. فقد لعب التأخر في تعميم اللبرلة دوراً في عدم وصول الاحتقان الاجتماعي مرحلة الانفجار السريع لدى مختلف الفئات الاجتماعية بالسوية ذاتها، رغم تصاعد هذا الاحتقان خلال السنوات الأربع السابقة.

كل هذه عوامل لا بد من أن تؤخذ بالاعتبار حين النظر إلى الانتفاضة. حيث لعبت دوراً في نشوء جملة مشكلات لا بد من معالجتها، ولقد أفضى غياب الحراك السياسي إلى أن تبقى دون حل. فهي مشكلات كانت تفترض وجود الفاعل السياسي. ونقصد هنا ليس الوجود “الجسدي” لأعضاء قوى المعارضة فقط، بل والرؤية التي تحكم نشاط هؤلاء في سياق الفعل في الانتفاضة، من أجل تطويرها وتنظيم فاعليتها، وتحديد مطالبها وشعاراتها، ومواجهة تكتيك السلطة إزاءها.

لكن لا بد من التأكيد على أن قوة الانتفاضة لم تتراجع رغم كل العنف الممارس من قبل السلطة، ورغم أن حجم التظاهرات بدا أقل نتيجة الاعتقالات الواسعة والسيطرة على المدن عسكرياً ووضع الحواجز بين المناطق في كل المدن الأساسية التي انتفضت بقوة (درعا، حمص، حماة، دير الزور، وريف دمشق)، فإن التوسّع استمر إلى قرى ومناطق جديدة، وظل الحراك قائماً في المناطق التي جرت “السيطرة” عليها. وهو ما يبيّن الإصرار على الاستمرار، والتصميم على المواصلة إلى أن يتحقق الهدف العام الجامع، أي إسقاط النظام. لقد استخدمت السلطة كل قوتها، من الجيش والأمن والشبيحة، وعملت منذ نهاية شهر تموز الفائت على تحقيق “ضربة قاضية” من خلال إنزال الجيش بكثافة، وباستخدام أقصى الهمجية الممكنة التي يمارسها الشبيحة، لكنها تفشل في وقف الانتفاضة، وأصبحت تبقي كل قوتها مستنفرة ومنتشرة دون أن يفضي ذلك إلى تراجع الحراك. ولقد لجأت إلى ذلك بعد أن أحسّت بأن الأمور تفلت من يدها، وأن قوتها التي استخدمتها سابقاً لم تكن كافية، وحين لمست بأنْ ليس من خيار أمامها سوى السحق لعل ذلك يفضي إلى وقف الانتفاضة، ويهزم إرادة الشباب الثوري.

ونلمس الآن بأن النتيجة لم تكن كما أرادت، رغم أن الوضع يبدو وكأن الانتفاضة تعيش حالة مراوحة، أو حتى تراجع. ولاشك في أن مرور الأشهر السبع دون حسم الصراع، ودون ظهور أفق لكيفية تحقيق التغيير، يجعل الارتباك ممكناً، والتشكك أمراً طبيعياً، ويزيد من سبل البحث عن أفق جرى الظن بأنه يمكن أن يتحقق من خلال “توحيد المعارضة”. لكن ظهر بأن هذه المراهنة يمكن أن تزيد من حالة الإحباط وليست هي باب الولوج إلى تحقيق التغيير بعد كل الصراعات التي ظهرت فيما بين أطرافها، والإحساس بميل بعضها إلى المسارعة لحجز مقعد في قطار السلطة الجديدة أكثر من ميله لتقديم حلول تسمح بتطور الانتفاضة وانتصارها.

على كل، الانتفاضة مستمرة، وليس من الواضح أنها يمكن أن تنتهي أو تتراجع، رغم الوضع الذي نلمسه اليوم، والذي يؤشّر إلى ضرورة البحث في مشكلاتها من أجل وضع الحلول لها من أجل انتصارها. فليس كل الطبقات الشعبية مشاركة إلى الآن، وليس من وضوح في الأهداف التي يجب أن تتحقق بعد إسقاط النظام، وليس من انتظام حقيقي رغم كل محاولات بلورة “قيادة”.

1) انتفضت الطبقات الشعبية لأنها لم تعد تستطيع تحمل الوضع الذي وصلت إليه بعد سنوات اللبرلة التي تُوّجت خلال السنوات الثلاث أو الأربع الماضية، والتي أفضت إلى انهيار الزراعة والصناعة وتحويل كتلة كبيرة من السكان إلى البطالة والفقر الشديد. وسنلمس بان جزءاً من هذه الكتلة هو الذي ينتفض، سواء في الريف حيث كان واضحاً مشاركته، أو في المدينة. لكن لا يبدو أن كل المفقرين هم مشاركين في الانتفاضة، وبعضهم يقف ضدها أو يقف متردداً أو خائفاً. فهناك العمال وموظفي الدولة هم ذوي مشاركة ضعيفة. وفي الريف هناك مناطق لم تشارك بعد، ويبدو أنها في تناقض مع الانتفاضة أصلاً. وهذا الأمر يفرض طرح السؤال عن السبب الذي يجعل هؤلاء المفقرين لا مبالون أو حتى يتقبلون خطاب السلطة ويدافعون عنها.

الملاحظ هو أن هؤلاء المفقرون هم من طائفة محددة (العلوية خصوصاً)، وهم ربما كانوا الأكثر فقراً من كل السكان. ولقد عانوا من فظاظة الشبيحة منذ زمن، واستولى كبار الضباط على أراض لهم. وأيضاً بقيت مناطقهم في أكثر حالات الإهمال والتخلف. وحتى الموظفون في الدولة أو في الجيش والأمن منهم فإن معظمهم يعيشون الوضع ذاته الذي يطال الآخرين، على راتب لا يكفي شيئاً، أو يسمح بعيش جيد، على العكس فهم ككل الموظفين لا يستطيعون العيش، ويعيشون في مساكن سيئة وضيقة، وكثير منهم يعمل في أعمال خدمية. وبالتالي فإن وضعهم يجب أن يدفعهم للانتفاض، لماذا إذن هم ليسوا مع الانتفاضة، وفي الغالب في توتر منها؟

تبدو المسألة الطائفية واضحة هنا، حيث لعبت السلطة على إرث الماضي، مستعيدة أحداث سنة 1980/ 1982، ومظهرة بأن الحراك هو حراك “طائفي سني” كما كان حينها. وما ساعد على ذلك طبيعة بدء الانتفاضة والشعارات التي رفعت، والتي أشارت إلى طابع سني ما يحكمها. وكان ذلك نتيجة توسعها في مناطق “سنية” وخروج التظاهرات من الجوامع وبعض الشعارات التي كانت تعبّر عن طبيعة الوعي الذي يحكم الفئات المنتفضة أكثر مما كان يعبّر عن ميل أيديولوجي أو طائفي. وهذا يعني بأن المطالب التي نهضت الانتفاضة من أجل تحقيقها لم تصل إلى هؤلاء الذين اعتقدوا بأن الأمر لا يعدو أن يكون صراعاً “طائفياً” على السلطة (أي السنة بدل العلويين). وبدا أن في الأمر انتقام لحروب سابقة. ونهضت في اللا وعي حالة السحق الطويل الذي تعرّض له هؤلاء على مدار زمني طويل من قبل الإقطاع “السني”. ولا شك في أن مشكلات الهدف والشعارات كانت مجال استغلال من قبل السلطة سمحت بتخويف هذه القطاعات.

بالتالي كيف يمكن العمل من أجل اندماج هؤلاء في الانتفاضة؟ أليس اندماجهم مهم لتطور الانتفاضة؟ الفعل السياسي مهم هنا، وهو يتمثل في مستويين، الأول هو طرح مطالب هذه الفئات المفقرة، وتوضيح كيف أن إسقاط النظام سوف يقود إلى تحقيق هذه المطالب. وأن المسألة لا تتعلق بتغيير سياسي فقط، بل تتعلق بحلّ المشكلات التي كانت في أساس الانتفاضة، أي البطالة والأجر المتدني، والعجز عن العلاج والتعليم. وتحقيق تنمية متوازنة تشمل كل المناطق. هذا أمر أساسي هنا، وضروري لكي تتوسع الانتفاضة لتشمل كل الطبقات الشعبية. المستوى الثاني هو توضيح طبيعة النظام الجديد، ففي وضع مختلط كما هو في سورية لا بد من توضيح الطابع المدني والديمقراطي للدولة الجديدة، ولرفض تأسيس دولة دينية في أي حال من الأحوال. هنا لم يكن شعار إسقاط النظام موائماً، بالضبط لأنه فارغ (أو غير محدَّد البديل)، وإذا كان يكفي الذين انتفضوا خلال الأشهر الماضية فهو لا يكفي للذين لم يشاركوا بعد، وهم متخوفون ومترددون، أكثر منهم مدافعون عن السلطة التي نهبتهم وسحقتهم.

وبالتالي فإن النشاط بين هذه الفئات يجب أن يتركز على الفوارق الطبقية الفاقعة، وعلى النهب والفساد، من أجل التوضيح بأن السلطة تدافع عن الطبقة التي نهبت وأثرت على حساب الآخرين. وأن هذا هو أساس التغيير المطلوب والضروري، والذي ينهض المفقرون من أجله.

لقد حاول الشباب في أكثر من موقع كسر حالة التخويف الطائفي، وإفشال سياسات السلطة الطائفية، لكن الأمر يتعلق بلمس هؤلاء المفقرون أن مطالبهم هي جزء من الانتفاضة لكي يصبحوا جزءاً منها. هنا لم يعد الاندفاع العفوي كافياً لمشاركتهم، بل لا بد من “وعي” وعمل من أجل أن يكونوا جزءاً من الانتفاضة. ولكي تكون انتفاضتهم كما هي انتفاضة كل الطبقات الشعبية لا بد من تضمنها مطالبهم بالضرورة. وكذلك بتلمس أنها تفتح على أفق المستقبل ولا تستعيد الماضي.

ثم هناك فئات متخوّفة من البديل الأصولي الذي أشيع أنه النتيجة الطبيعية لهذه الانتفاضة، خصوصاً هنا المسيحيون، والأقليات عموماً، وكذلك بعض العلمانيين. ولقد لعب “سوء” فهم وضع ووعي الطبقات الشعبية دوراً في التضخيم من موقع الشعارات الدينية المرتبطة بالخروج من الجامع، في مسار الانتفاضة، حيث جرى تفسير ذلك شكلياً بأنه من فعل “الإخوان المسلمين” أو القوى الأصولية المتشددة. ولاشك في أن الموجة الأصولية التي عمّت المنطقة، والتي ترافقت مع تضخيم إعلامي إمبريالي ومن قبل النظم الدكتاتورية ذاتها، وأيضاً من تضخيم الحركة الأصولية لذاتها (ولقد لعبت قناة الجزيرة دوراً مهماً في هذا التضخيم)، كل ذلك قد أوجد وعياً بأن الأصولية تهيمن، وأنها باتت مهيأة للوصول إلى السلطة في كل المنطقة. وأيضاً أنها الخطر على الحداثة والأقليات والتقدم.

إن غياب الوعي بـ “وعي” المجتمع هو الذي يقود إلى سوء الفهم هذا، ويقود إلى الاستنتاج بأن الانتفاضات الراهنة هي من فعل أصولي وليست نتيجة الفقر والتهميش والاستبداد. ساعد في ذلك غياب المطالب الواضحة، وتحديد طبيعة الدولة الجديدة، والذي كان نتاج غياب الفعل السياسي الذي هو فاعلية الأحزاب.

وإذا كانت “طوائف” تتخوّف من البديل الأصولي فإنها كذلك تخاف من كل دعوة للتدخل الإمبريالي، نتيجة التجارب التي مرت بها المنطقة. فمسيحيي سورية متخوفون حيث لازال وضع مسيحيي العراق ماثلاً أمامهم، الذين أفضى الاحتلال الإمبريالي إلى مجازر ضدهم والى تهجير جزء كبير منهم. وإذا كان وضع قسم منهم جيد من الزاوية الاقتصادية، ولا يشعر بحيف أو اضطهاد، فإن أجزاء منهم مثل باقي الطبقات الشعبية تعيش في وضع سيء. لكن لاشك في أن الموجة الأصولية العامة التي اجتاحت المنطقة، والتي قامت على أساس السعي لفرض الدولة الدينية، جعل الأقليات عموماً في وضع مربك. خصوصاً هنا إذا ارتبط ذلك بدعوات للتدخل الإمبريالي كما تفعل بعض أطراف المعارضة، الأمر الذي فرض النفور من الانتفاضة، والتقوقع، وكذلك دعم السلطة.

لكن الأهم هو السؤال عن عدم مشاركة العمال والموظفين الذين لا يفي الأجر مصروف أسبوع من حياتهم؟

لا شك في أن جزءاً منهم يشارك في التظاهرات العامة، لكنهم لا يشاركون كطبقة، ولا يشارك جزء منهم، خصوصاً من منهم في المدن الرئيسية (دمشق وحلب). لاشك في أن هناك تخوّف على الوظيفة رغم هزال الراتب، وهو الأمر الذي يدفع جزء منهم المشاركة في “مسيرات الولاء”، ليس دعماً بل خوفاً.

إن كل هذه المشكلات تنحكم لوضع كان يحكم الطبقات الشعبية حين انفجرت الانتفاضة في درعا، وتوسعت ببطء بعدئذ إلى المناطق التي باتت تنتشر فيها، وهو عدم نضج الانفجار في كل المناطق بالسوية ذاتها. لهذا سيكون جزءاً من التخوفات التي نلمسها، سواء الطائفية أو من البديل الأصولي، هي تعبير عن تمثّل صورة تبرر عدم المشاركة في الانتفاضة، نتيجة الخوف بالتحديد. فلم يكن كسر حاجز الخوف سهلاً في بلد عُرف بعنف السلطة، خصوصاً أن “الضغط الاقتصادي” لم يكتمل سوى من زمن قريب. وبالتالي فإن كثير من إظهار التخوف الطائفي هو نتاج هذا الخوف الداخلي، وليس نتيجة شعور طائفي أو تصديق أن البديل هو الأصولية. وكسر حاجز الخوف بعد كل هذه الأشهر يفترض فعلاً سياسياً بالتحديد. الذي يمكن أن يتحقق من خلال أشكال أخرى للنشاط غير التظاهر، أو كمقدمة للتظاهر، مثل الإضراب أو العصيان.

لماذا لم يدخل الإضراب قاموس الانتفاضة؟ أي لماذا ظلت تعتمد التظاهر فقط رغم أنه يمكن أن تكون أشكال أخرى مهمة في تعميق الانتفاضة؟

2) إذن، لا بد من ملاحظة أن توسيع انخراط الطبقات الشعبية في الانتفاضة يفترض البحث في الأهداف والشعارات. فلم تعد العفوية كافية لتطوير الانتفاضة بتوسيع الفئات المشاركة فيها. ولم يعد شعار إسقاط النظام كافياً لكسر خوف وتخوّف فئات من الضروري مشاركتها. وليست الحرية وحدها هي التي تحقق التوافق بين كل فئات الطبقات الشعبية.

إن العمل على توسيع انضمام الطبقات الشعبية يفرض تضمن مطالبها من جهة وتوضيح طبيعة البديل من جهة أخرى. لقد نهضت الانتفاضة عفوياً، وتوصلت إلى حمل شعار إسقاط النظام، والآن لا بد من أجل توسيعها توضيح محتوى هذا الشعار الكبير. هنا لا بد من أن يخرج الشعار من دائرة كونه “صراع على السلطة”، بغض النظر عن الأطراف سواء أكان صراع أصولي ضد سلطة “علوية” أو صراع أصولي ضد سلطة “علمانية”. وتوضيح بأنه صراع من أجل تحقيق مطالب الطبقات الشعبية عبر إسقاط السلطة. أي أن يكون واضحاً بأن المسألة لا تتعلق بالسلطة بذاتها بل بالسلطة كتعبير عن مصالح طبقة مافياوية، وبالتالي من أجل تغيير بنيوي فيها. ليس الصراع معها غريزياً بل نتيجة مصالح واختلاف سياسات.

لهذا لا بد من جعل مطالب الطبقات الشعبية جزءاً أساسياً من أهداف وشعارات الانتفاضة، مطالب العمل والأجر والتعليم المجاني والضمان الاجتماعي. حق العمل والأجر المناسب لعيش كريم، وكل المسائل الأخرى، هي من أزمات قطاع كبير من الطبقات الشعبية، المشارك في الانتفاضة والذي لم يشارك بعد، ولهذا لا بد من أن تصبح مطالب معلنة وواضحة.

أيضاً لا بد من أن يكون واضحاً بأن الصراع ضد السلطة لا يمكن أن يفضي إلى قبول أي تدخل إمبريالي، أو اتخاذ موقف مؤيد للبلدان الإمبريالية. فالتغيير هو ليس من أجل لا جلب التدخل الإمبريالي الذي سوف يفتح على حروب طائفية وتدمير وتهجير، ولا إلى التبعية لهذه البلدان الإمبريالية. فقد أسس التدخل الإمبريالي في العراق خوفاً من مصير مشابه، وبالتالي بات الاعتماد على “الخارج” خطيئة بالنسبة لقطاع كبير من الطبقات الشعبية. بالتالي يجب أن يكون التغيير ليس من أجل سلطة تابعة بل من أجل دولة مستقلة وتعمل على تحرير أرضها المحتلة، ومواجهة كل القوى الإمبريالية التي تريد السيطرة والاحتلال والنهب.

ثم لا بد من أن يكون واضحاً بأن الدولة الجديدة يجب أن تكون مدنية ديمقراطية، أي دولة علمانية تنطلق من حق المواطنة وتساوي المواطنين الأحرار. تقوم على أن الشعب هو مصدر القوانين والسلطات وليس أي مرجع آخر.

إذن، لا بد من أن يكون واضحاً بأن الشعب يريد إسقاط النظام من أجل تحقيق كل هذه المطالب، التي تنطلق من تغيير البنية السياسية القانونية للدولة، وتغيير النمط الاقتصادي الريعي المافياوي لمصلحة نمط منتج. وتحديد موقع سورية عربياً وعالمياً كونها مع قوى التحرر والمقاومة.

الشعارات لا بد من أن تنطلق من هذه الأهداف، وأن توضح لكل المترددين والخائفين والمتشككين بأن هدف التغيير هو التقدم إلى الأمام وليس النكوص إلى الخلف. والترابط مع الانتفاضات العربية من أجل تحقيق نقلة في الوضع العربي تخدم شعوبه وليس إكمال ربط سورية بالمشروع الإمبريالي.

من كل ذلك لا بد من اشتقاق الشعارات والأهداف. وكذلك الشغل الدعاوي بين الفئات التي لازالت مترددة أو متخوفة. ومن خلالها لا بد من كسر كل تخوّف طائفي، أو خوف من تدخل إمبريالي، مع فضح كل من يؤجج الطائفية أو يطالب بتدخل إمبريالي.

ليست المسألة هي مسألة إسقاط نظام فقط، بل هي المدخل لتحقيق مطالب الطبقات التي تخوض الصراع من أجل إسقاطه. ولهذا لا بد من أن تتوضح هذه المطالب، وأن تصبح هي الشعارات التي تتكرر في التظاهرات، والتي يدعى الناس على أساسها. لقد كان طرح شعار إسقاط النظام مجالاً لخوف قطاعات مجتمعية، لأنه يعني الصدام مع السلطة، في وضع لم تكسر فيه حاجز الخوف، ولهذا ترددت أو حتى قبلت رواية السلطة من أجل تبرير عدم مشاركتها. لكن يمكن دفعها للمشاركة من خلال دعوتها لطرح مطالبها هي بالذات. إن الدعوة لإضراب من أجل تحسين الأجور سوف يقود حتماً إلى الانتقال إلى مطلب إسقاط السلطة، لكن يمكن لبعض الفئات ألا تشارك تحت عنوان إسقاط النظام بينما يمكنها المشاركة من أجل تحسين الأجور.

أو يمكن الانطلاق من ضرورة الدولة المدنية من أجل تحريك قطاعات لا تزال تتخوف من بديل أصولي.

لهذا لا بد من بلورة مطالب واضحة تحدد الهدف من إسقاط السلطة، ولا تترك الأمور هكذا عائمة، وتعتمد على عفوية الانتفاضة ذاتها. لا بد من ربط حق العمل بإسقاط السلطة. وربط الأجور بإسقاط السلطة. والدولة المدنية بإسقاط السلطة. وتحرر الجولان بإسقاط السلطة. والنهوض العربي بإسقاط السلطة.

هنا يصبح واضحاً بأن إسقاط السلطة هو ليس من أجل بديل أصولي أو يقوم على تدخل إمبريالي، بل يتحقق عبر فاعلية الطبقات الشعبية ذاتها، التي تسعى لتحقيق مطالبها هي بالذات.

3) لقد جرت محاولات لتأسيس “قيادة موحدة” للانتفاضة من التنسيقيات والقوى التي نشأت في خضمها، لم تحظ بالتوفيق نتيجة القمع العنيف من قبل السلطة، التي تمثلت في قتل واعتقال الكثير من أعضاء التنسيقيات، والكادرات التي لعبت دوراً مهماً في تنظيم الحراك. رغم ذلك تبقى مهمة تنظيم الانتفاضة مسألة حيوية لا بد من تحقيقها.

وإذا كان هناك من اعتقد بأن توحيد المعارضة، أو تشكيل قيادة لها في الخارج، سوف يسهم في تنظيم نشاط الانتفاضة، ويفتح الأفق لتحقيق انتصارها، فإن الواقع سوف يوضح بأن كل ذلك لن يضيف شيئاً مهماً في وضع الانتفاضة، أو يسمح بتشكيل “قيادة سياسية” لها. فما تحتاجه الانتفاضة هو قيادة ميدانية فعلية من القوى التي تخوض الصراع على الأرض، بهدف ليس قيادة النشاط أيام الحراك فقط بل وفتح أفق التواصل مع الفئات الاجتماعية التي لم تشارك بعد، وفي تحديد الأهداف والشعارات بما يسمح بتوسيع الحراك، وضم الفئات التي لم تنضم بعد.

الانتفاضة بحاجة إلى قيادة على الأرض وليس في الخارج. ولهذا لا بد من بذل جهود جديدة من أجل توحيد التنسيقيات الفعلية والقوى التي تبلورت في خضم الانتفاضة، وتشكيل قيادة موحدة لها، وكذلك بلورة برنامج يوضح هدف الانتفاضة من إسقاط النظام.

4) المسألة الأخيرة فيما يتعلق بالانتفاضة تتمثل في التشويش الذي يُلقى على الانتفاضة من قبل أطراف في المعارضة، خصوصاً تلك التي حضورها خارجي. وسنلمس هنا النفس الطائفي الذي ظهر في مراحل مختلفة من الانتفاضة من قبل شخصيات في جماعة الإخوان المسلمين، وبعض “المعلقين” الخارجيين. كذلك بعض المواقع على النت أو شبكات الإعلام، والقنوات الفضائية. حيث يجري العمل على تكريس رواية السلطة بأن الانتفاضة هي “إسلامية سنية”، وأن من حق “السنة” الحكم بعد “ظلم طويل (هكذا بالمعنى الطائفي).

كذلك يمكن ملاحظة الكلام عن التدخل الإمبريالي، الذي يبدو وكأنه أمر “طبيعي”، من قبل جماعة الإخوان المسلمين وأطراف ليبرالية. وهو الأمر الذي يكرّس تخوّف قطاعات شعبية، ويشكك في هدف التغيير المطروح.

أيضاً هناك “حرف إعلامي” لطبيعة الانتفاضة من خلال تلبيسها لون معيّن (إسلامي تحديداً). وهذا ما يظهر عبر متابعة الانتفاضة عبر الفضائيات، التي تعتمد على أفراد يمثلون هذا اللون، وكذلك بإظهار ما يناسب هذا اللون وتجاهل الألوان الأخرى. ولقد خدم ذلك الإشكالين السابقين، وزاد من إرباك وتردد فئات اجتماعية، من الأقليات خصوصاً، لكن أيضاً من التيار العلماني.

وضع السلطة

بعد سبعة أشهر ما هو وضع السلطة؟ وهل لازالت قوية متماسكة؟

ما يفضي إلى الشعور بـ “مأزق” الانتفاضة هو الشعور بأن السلطة لازالت قوية، لم تنشق، ولم يغادرها مسئولون كبار، ولم يظهر عليها الضعف إلى الآن.

لاشك في أن السلطة بنت قوة متماسكة كبيرة، وربطت أفرادها بقوة بمصالح تجعلهم مدافعاً حاسماً عن السلطة. ولقد صمدت طيلة الأشهر السابقة رغم قوة واستمرار الانتفاضة وتوسعها إلى معظم مناطق سورية. كما لم يظهر أي “انشقاق” مهم في البنية الأساسية للسلطة كما حدث في ليبيا أو حتى اليمن.

إذا كانت السلطة استطاعت استغلال قوتها الصلبة خلال الفترات الماضية فلأنها كانت قادرة على تحريكها من مدينة إلى أخرى نتيجة التوسع المتتالي للانتفاضة، حيث بدا أنها تستفرد بكل منطقة لتكثف قوتها ضدها، فإن المرحلة الراهنة قد أوضحت بأن الأمر أصبح أكثر صعوبة، حيث باتت الانتفاضة تشمل معظم الأراضي السورية. ولهذا أصبحت مضطرة لإدخال الجيش غير مضمون الولاء، واحتاجت لشبيحة أكثر.

وبالتالي يمكن اليوم ملاحظة أن القوة الصلبة للسلطة باتت مستهلكة إلى حد معيّن، وأن إدخال قطاعات الجيش الأخرى تؤدي إلى توسع الانشقاقات. كما أن هذه الانشقاقات أفضت إلى أن يصبح عمل الشبيحة خطراً نتيجة استخدام الأسلحة ضدهم وضد الأمن بالتحديد.

لكن الأهم يتمثل في أن كل هذه القوة المستخدمة لم تفرض تراجع الانتفاضة، رغم القتل وحملات الاعتقال الشاملة، ورغم السيطرة العسكرية على المدن والمناطق. وهو الأمر الذي يعني بأن كل هذه القوة غير قادرة على سحق الانتفاضة، وبالتالي وضع السلطة في مأزق كبير نتيجة العجز عن الحسم، وغياب الأفق الذي يشير إلى إمكانية الحسم.

وفي إطار ذلك سنلحظ بأن الوضع الاقتصادي للدولة أصبح صعباً، وباتت الليرة تعاني من خطر الانهيار، وكذلك تراجع احتياط النقد الأجنبي. ومن ثم الضغط الاقتصادي الذي تمارسه البلدان الإمبريالية، وأيضاً الضغط السياسي الذي أصبح أكثر وضوحاً في الفترة الأخيرة، خصوصاً هنا من قبل تركيا. تركيا الحريصة على أن تبقى سورية “مربوطة” بها كونها بوابة الشرق ضمن السياسة التركية الجديدة التي تقوم على “الهيمنة” على الشرق في سياق سعيها لكي تصبح قوة عالمية أساسية. وبالتالي المعنية بتحقيق تغيير يحافظ على وضعيتها التي كسبتها خلال السنوات الماضية.

ولقد أدى طول الانتفاضة، وتوسعها المستمر إلى تأثر الوضع الاقتصادي لقطاعات عديدة، من العمال والموظفون والتجار، باتت معنية بتحقيق التغيير بعد أن كانت تميل إلى الحياد أو تأييد السلطة. وأيضاً أفضى طول المدة إلى دخول قطاعات جديدة الصراع بعد أن أحست بأن لا أمل في استمرار السلطة. وهو الأمر الذي انعكس في تقلص “شعبية” السلطة من جهة وزيادة الفئات الناقمة من جهة أخرى.

في هذا الوضع تبدو السلطة “وحيدة” ومحاصرة، ودون أمل في تحقيق الحسم ضد تمرد شعبي كبير، وبطولي. فقد باتت الأعباء المالية أكبر من قدرتها، كما باتت قواها العسكرية الأمنية مستهلكة إلى حد ما، وأصبحت تحس بأنها باتت محاصرة عالمياً، ومهددة بالتدخل كما حدث في ليبيا. فلم يبق لديها سوى الفيتو الروسي (والصيني) في وضع يمكن أن يسقط أمام أول مساومة جدية مع البلدان الإمبريالية الأخرى.

ولا شك في أن هذا الوضع سوف يدفع حلفائها، حتى إيران وروسيا والصين، إلى البحث عن مخرج، لأنها لا تريد خسارة كل شيء. ولهذا ربما تسعى إلى البحث عن بديل متوافق معها قبل أن تستبق الولايات المتحدة وتفرض بديلها. وفي هذا السياق ربما يكون التوجه التركي، هو أكثر حرصاً واستعجالاً على فرض بديل متوافق معه.

وسنلحظ بأن كل هذه المحاولات تتحقق من خلال دعم تغيير من داخل بنية السلطة ذاتها، وليس عن أي طريق آخر.

هنا سيكون هناك توافق بين هذا الميل وميل فئات في السلطة لتحقيق التغيير بعد شعورها بأن الحسم مستحيل وأنه لا بد من تقديم حل يستوعب ما تطرحه الانتفاضة، أو بعضاً منه على الأقل.

هذا خيار في تحقيق “التغيير”، أو محاولة الالتفاف على التغيير، لكنه يفتح على أفق جديد، لأنه سيفضي إلى أن يتراجع الطابع الدموي للصراع لمصلحة صراع طبقي سياسي واضح، في ظل ممكنات تحقيق شكل ما من الديمقراطية. وهو ربما يكون الخيار الوحيد، نتيجة عدم مقدرة الانتفاضة على إسقاط النظام، بمعنى السيطرة على مقاليد السلطة من خلال قوى تمثلها، بفعل غياب هذه القوى، وبالتالي غياب إستراتيجية استلام السلطة.

يبقى خيار التدخل “الخارجي”، كما في العراق أو ليبيا. وهذا ما سنشير إليه تالياً.

عن وضع المعارضة

شاركت كادرات من الأحزاب المعارضة في الانتفاضة منذ البدء، في درعا ودوما وريف دمشق خصوصاً. لكن أحزاب المعارضة لم تنشط لبلورة تحالف يضمنها وينسق نشاطها إلا بعد أشهر من بدء الانتفاضة. كما نشطت معارضة الخارج منذ البدء من أجل بلورة تحالف يتأسس على تشكيل “مجلس وطني انتقالي” تأثراً بالتجربة الليبية، وربما تقليداً لها. فعقدت مؤتمرات عدة كررت فيها مطلب تشكيل المجلس الانتقالي، ونجحت أخيراً في ذلك، بعد أكثر من ستة أشهر من بدء الانتفاضة.

وفيما عدا الجهد الفردي لأعضاء في هذه الأحزاب فإنها لم تلعب الدور الضروري في وضع ثوري كالذي نعيشه. لا فيما يتعلق بالاندماج في الانتفاضة، أو في وضع الأهداف العامة لها، أو في تحديد الشعارات، في وضع كان المنتفضون في أمسّ الحاجة لذلك نتيجة غياب الوعي السياسي الضروري في هذه الأوضاع، نتيجة السحق الطويل للسياسة من قبل السلطة، وتدميرها الثقافة بشكل عام.

هنا ظلت الانتفاضة تتطور بعفويتها، ووفق الوعي الذي يحكم الشباب المنتفض، الذي هو في الغالب شباب مفقر. وهذا الأمر هو الذي فرض بعد ستة أشهر من الانتفاض أن يتبلور الشعور لدى المنتفضين بضرورة تبلور تعبير سياسي عن الانتفاضة، ولهذا طالبت بوحدة المعارضة لكي تكون قادرة على لعب هذا الدور. لكن دون جدوى.

الآن تبلورت المعارضة في كتلتين، الأولى هي هيئة التنسيق لقوى التغيير الوطني الديمقراطي التي تشكلت من تحالف بعض قوى المعارضة في 25 حزيران الفائت. والثانية هي المجلس الوطني السوري الذي تشكل في 2 تشرين الأول من تحالف ضم الإخوان المسلمين والليبراليين، وبعض هيئات التنسيق المحلية. ولقد لاقى “شعبية” بعيد تأسيسه في ظل ضجة إعلامية رافقت ذلك. ليبدو أنه ممثل المعارضة السورية، بل ممثل الانتفاضة والشعب.

بالتالي أصبحنا إزاء معارضتين، كل يعتبر أنه الممثل أو الممثل الأبرز للانتفاضة. وإذا كان كل منهما يقول بأنه مشارك في الانتفاضة وأنه جزء منها، فإن الواقع يشير إلى هامشية دور كل الأحزاب المعارضة، وما ظهر أوضح بأن أفراداً من هذه الأحزاب قد لعب دوراً، كما أشرنا للتو. لكن كانت الانتفاضة بحاجة إلى تمثيل سياسي، انتظرت طويلاً، ثم طالبت، ولقد اندفع البعض خلف المجلس الوطني على أمل أن يكون بـ “قدر المسئولية”. وما نقوله هنا هو أننا نعتقد بأن المجلس لن يقدّم شيئاً مهماً، وكل ما سيقوم به هو نشاط خارجي لحث الدول والحكومات على حصار السلطة، وفرض الحماية وطلب التدخل. وهذا ما لا تحتاجه الانتفاضة رغم توهم البعض بأنه ضروري.

في كل الأحوال سنلمس بأن انقسام المعارضة بني على خلافات مهمة، لكنها انطلقت من الأساس ذاته. أي أن مواقفها انبنت على التحليل ذاته لكنها اتخذت موقفين متعاكسين. يقوم التحليل على “عدم حساب الشعب” وتسخيف فاعليته، والاقتناع بأنه لا يستطيع فعل شيء. ألم يكن “ضمير” هذه الأحزاب يقول بأنه شعب خانع وجاهل ومصاغ وفق “الأيديولوجية البعثية”؟ ومن جهة أخرى فإن هذه الأحزاب تنطلق من “القوة الخارقة” للسلطة، القوة الشديدة التي ليس من الممكن هزمها بقوانا الذاتية، ولهذا إما أنه يجب الحوار معها، لتنظيم الانتقال السلمي معها، أو الاستعانة بقوى خارجية من أجل هزيمتها مثل ما جرى في ليبيا والعراق.

وهو الأمر الذي أفرز سياستين، الأولى تنطلق من “تغيير السلطة من داخلها”، وعبر “التنسيق” معها. والثانية تنطلق من الدفع نحو استجلاب التدخل الإمبريالي، على الأقل مثل ليبيا وليس مثل العراق. وبهذا أصبحت سياسة معارضة الداخل تنطلق من رفض التدخل الإمبريالي، ورفض الصراع الطائفي، و”انتظار” اللحظة التي “يُفرض” على السلطة القبول بحوار من أجل تحقيق الانتقال السلمي من دولة الاستبداد إلى الدولة الديمقراطية.

والثانية تنطلق من إسقاط النظام من خلال “دعم” الانتفاضة، ونقل النشاط إلى الخارج من خلال العمل على التواصل مع الحكومات من أجل فرض العقوبات على النظام، والعمل على فرض الحماية الدولية التي تأتي تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، والذي ينص على التدخل العسكري. ولهذا نلمس بأن نشاط المجلس يتركز على تحقيق هذه السياسة. وهنا نلمس بأن هذا التيار من المعارضة لا يجد مشكلة في “العلاقة” مع “الغرب”، وخصوصاً مع الولايات المتحدة، وفرنسا وانجلترا. وهو يطلب العون منها، منطلقاً من أن هذا هو الطريق الوحيد لتحقيق إسقاط النظام. وكما أشرنا كانت الفكرة من تشكيل المجلس هي تكرار التجربة الليبية، بحيث يكون المجلس هو الممثل لـ “الشعب”، والذي يستدعي التدخل، ومن ثم ليصبح هو السلطة الجديدة.

وإذا كان كل من المعارضتين لا ينشط من أجل تطوير الانتفاضة على الأرض، وحلحلة المشكلات التي تعاني منها، خصوصاً توسعها إلى فئات ومناطق لم تشارك بعد أو تتحسس من الانتفاضة، ومن ثم تشكيل قيادة عملية لها، فإن سياستهما تشكل عبئاً على الانتفاضة ذاتها. فهيئة التنسيق لقوى التغيير الوطني، المعادية للإمبريالية، تطرح ما كانت تطرحه أحزابها في السنوات السابقة، وكأنْ ليس هناك متحوّل جديد، هو الانتفاضة. وكأن هذا الوضع الثوري يمكن أن يخضع لمنطق “عقلاني”، “بارد”، ينطلق من عجز كل هذه الجموع الثورية عن تحقيق التغيير، وكذلك لا يتحسس ثوريتها، وجموحها نحو التغيير، فيقدم ما هو أدنى من سقف ما طرحت. ويحاول إقناعها بما تجاوزته عبر صبرها الطويل، أي إمكانية إصلاح النظام. فهي لم تنتفض فيما لو كانت لديها ذرة من القناعة بأن النظام يمكن أن يصلح. وهي بإحساسها السليم تعرف بأن الفئات الناهبة لا تغيّر من آلياتها، ولهذا لا بد من تكسير هذه الآليات بالقوة. لهذا انتفضت. وهي في هذه اللحظة لن تلتفت إلى كل من يقول بالمراهنة على تغيير في السلطة، لأنها تطرح إسقاط السلطة. وبالتالي يصبح الفارق بين التغيير والإسقاط شاسعاً. وفي هذا الوضع ليس على المعارضة (وهنا اليسار خصوصاً) إلا أن يكون معها، حتى وإن كان تحليله يوصل بأنها مهزومة، فكيف إذا كان الوضع يمكن أن يفتح على أفق جديد!

لهذا لم يلتفت المنتفضون لهيئة التنسيق، وباتت كأنها لم تكن، مع ميل لحسابها على السلطة وليس على المعارضة، أو القول بأنها معارضة ذات “سقف منخفض” لا يليق بالانتفاضة. وجاء تشكيل المجلس والهمروجة الإعلامية التي رافقته لكي “تدفن” الهيئة.

والهيئة كذلك لا تجد آذاناً صاغية لدى السلطة، السلطة التي تريد فقط كل من يقبل روايتها، ويمجّد “إصلاحاتها”. لكن ذلك لم ينعكس تغييراً في سياسات الهيئة، التي لازالت تنتظر اللحظة التي تتراجع السلطة فيها عن “عنجهيتها”، فتوقف العنف الدموي وتقبل بـ “التشارك” مع الهيئة في تحقيق الانتقال السلمي ذاك. وهنا تكون سياسة الهيئة هي الانتظار على أمل..

الآن، الأعين تتجه إلى المجلس الوطني. فقد جاء تتويجاً لموجة البحث عن سبل توحيد المعارضة، وبدا أنه قد حقق المطلوب، وأصبح يحمل مسئولية تحديد الأفق الذي يوضح مسار الانتفاضة. الذي رُبط بـ “دعم عالمي” من أجل “خفض كلفة الدم” كما يشير المتحمسين لفكرة الحماية الدولية أو “التدخل الدولي”. والمقبول من قبل قطاع من المنتفضين بعموميته (وبالتفسير الذي أُعطي له، المتمثل في إرسال مراقبين دوليين، وحماية المدنيين) نتيجة الشعور بانسداد الأفق داخلياً. بالتالي ما الذي يمكن أن يفعله المجلس الوطني للانتفاضة؟

وإذا كنا ندين كل تدخل إمبريالي، ونعتقد بأن التصريحات التي تطلق من أجل استجلاب التدخل تشوش على الانتفاضة كما أشرنا قبلاً، فإن ممكنات ذلك ضعيفة كما سنوضح تالياً. لهذا هل يمتلك المجلس سياسات وتصورات وخطط تطور من نشاط الانتفاضة، وتفتح أفق تحقيقها الانتصار؟

وأيضاً إذا لاحظنا بأن المجلس لم يعتبر أن من مهماته وضع خطط عملية لنشاط الانتفاضة، بل اعتبر، كون مؤسسيه في الخارج، أن دوره دولي، فإن ما يمكن أن يقدمه للانتفاضة هو لا شيء، غير الدعاية الإعلامية الخارجية. لكن المنتفضين يريدون ما هو عملي، ولهذا سيتكشف بأن المجلس الوطني لم يقدّم شيئاً، ويكون مصيره كمصير هيئة التنسيق لقوى التغيير الوطني الديمقراطي.

بمعنى أن المجلس الوطني قد تشكل في سياق فكرة تقوم على أن الحسم يتعلق بالتدخل الدولي، ربما في حدود تدخل الناتو في ليبيا، أي في حدود الحظر الجوي، ومن ثم القصف الجوي دون تدخل عسكري على الأرض، وأن دوره هو الحصول على الاعتراف الدولي كممثل لسورية، الأمر الذي يسمح له بطلب الحماية الدولية. انطلاقاً من أن كل ذلك سوف يقود إلى سقوط النظام وتحوّل المجلس إلى حكم سورية. ولقد عزَّز انشقاق بعض أفراد الجيش من هذه الفكرة، لأنه فتح على إيجاد “منطقة آمنة” يلجأ إليها المنشقون، لكي يكونوا نواة قوة عسكرية تحارب قوات السلطة تحت الحماية الجوية “الدولية”.

ورغم أننا لا نعتقد بأن إقرار الحماية الدولية أمر ممكن، فإننا ننبه إلى أن سورية ليست ليبيا، وأن ما كان ممكناً هناك ليس ممكناً هنا، نتيجة التكوين البشري، واحتمالات التمحور الطائفي، وبالتالي تحوّل الحرب إلى حرب طائفية من جهة، وتدميرية من جهة أخرى.

في كل الأحوال، ما يهمنا هنا هو أن إستراتيجية المجلس الوطني (كما يمكن تلمسها من تصريحات المشكّلين الأساسيين له، أي جماعة الإخوان المسلمين والليبراليين)، لا تلمس واقع الانتفاضة الحقيقي، وكأنها تبحث لهم عن أفق تغيير من الخارج، في وضع لا يبدو ذلك ممكناً. ولهذا سيكتشف بأنه زائدة لا قيمة له في خضم الصراع الحقيقي الذي يخاض على الأرض. ليترك التشوش الذي أثاره، وأعضاءه يطالبون بتدخل إمبريالي. فهذا المطروح ليس أفقاً ممكناً، وهو مرفوض من قبل جزء مهم من الشعب ومن المنتفضين خصوصاً. وأيضاً، إذا كان مقياس المنتفضين هو مقياس عملي فإن عجز المجلس الوطني عن تقديم ما يفيد الصراع العملي سوف يدفع إلى تلاشي التأييد له.

كل ذلك يعيدنا للتفكير في وضع الانتفاضة ذاتها، وفي بلورة “تعبير سياسي” من داخلها، فليس في إستراتيجيات المعارضة السياسية ما يفيد تقدم الانتفاضة.

الوضع الدولي وممكنات التدخل الإمبريالي

الآن، ماذا سيفيد الوضع الدولي؟ وهل يمكن أن يوصل إلى حدّ التدخل؟

إذا كان هناك من يدفع نحو التدخل “الدولي” فإن الوضع الدولي لا يوحي بإمكانية التدخل، ولهذا سوف تظهر كل الجهود التي تبذل من قبل معارضة الخارج من أجل “تلبيس” الانتفاضة مواقف لا يعبّر عنها، والتي تفرض من خلال الإعلام والتنسيقيات الإعلامية على الحراك، وكذلك النشاط الذي يبذل للتواصل مع الدول الإمبريالية من أجل دفعها للتدخل، سوف تظهر كجهود عبثية من جهة، ومضرة وتؤخر انتصار الانتفاضة من جهة أخرى.

فإذا تناولنا مواقف الدول الإمبريالية سوف نلاحظ بأن الولايات المتحدة ظلت مترددة في الموقف من السلطة السورية، وكان يبدو أنها تميل إلى استمرارها بتحقيق هذه السلطة بعض الإصلاحات، وأصبحت تميل للقول بالتنحي بعد أن أصبح واضحاً أفق انتصار الانتفاضة، وهي تقول ذلك بشكل ملتوٍ كذلك. ويمكن القول بأن وضعها المأزوم اقتصادياً إلى حدّ الوصول إلى حافة الانهيار يجعلها أضعف من أن تكون في وضع يسمح لها بالهجوم والتدخل، وأحرى الحرب. لقد تدخلت جزئياً في ليبيا تحت ضغط حلفائها الأوروبيين الذين بدت مقدرتهم العسكرية عاجزة عن المواجهة في الفترة الأولى من الهجوم الأطلسي، ولم تستطع الاستمرار نتيجة عجزها المالي. ولا يبدو أنها اليوم في وضع يسمح لها بأن تفكّر في تدخل عسكري، خصوصاً أن التدخل في سورية يمكن أن يفتح حرباً أوسع تشمل إيران والدولة الصهيونية، وربما الخليج. ولهذا فهي أبعد من أن تفكّر في المشاركة لا في “حماية إنسانية” ولا في حظر جوي سيقود حتماً في حرب.

ولقد كانت أميركا قد انتقلت منذ مدة إلى تحميل الناتو مسئولية التدخل العسكري بدل أن تستفرد هي (كما كان الوضع منذ انهيار الاتحاد السوفييتي)، أو تشاركه المهمة كما جرى في أفغانستان منذ بضع سنوات. وتبيّن الضعف البنيوي في مقدرة الناتو في ليبيا، وسيكون الوضع أصعب في سورية، الذي يفتح على حرب أشمل كما أشرنا للتو. وحدها تركيا من دول الحلف الأطلسي هي القادرة على الحرب، وهي لم تتدخل في ليبيا لأن مصالحها كانت مرتبطة باستمرار نظام القذافي قبل أن تقبل سقوطه. فهل يمكن أن تفكّر تركيا في فرض الحظر الجوي، وبالتالي الحرب؟

تركيا تريد أن تصبح هي القوة المهيمنة في المنطقة انطلاقاً من تلمس برجوازيتها بأن أزمة الرأسمالية وضعف مراكزها يسمح لها بأن تتحوّل إلى قوة عالمية من خلال الهيمنة على هذه المنطقة. هذا الأفق هو الذي فرض تحالفها الوثيق من السلطة السورية، في الوضع الذي كانت فيه محاصرة من البلدان الإمبريالية كلها، وكان هذا الوضع مناسباً لها لكي تمسك بهذه السلطة، ولتحقق تنازلات اقتصادية مهمة أسهمت في انهيار الاقتصاد السوري. ولقد سعت لإقناع السلطة بضرورة الإصلاح خشية الانهيار لكن دون جدوى. وهو الأمر الذي دفع نحو “القطيعة”، والبحث عن “مخرج”، لأنها لا تريد خسارة وضعها السوري.

هذا الأمر هو الذي خلق الوهم بإمكانية دور عسكري تركي. لكن، ومع الأخذ بعين الاعتبار أن أي حرب مع السلطة السورية سوف تتحوّل إلى حرب في المنطقة، لا يبدو أن الحكومة التركية في وضع يسمح لها بأن تفرض هيمنتها على المنطقة عبر القوة. ولهذا لا بد أنها تبحث عن مخرج آخر. هذا الأمر هو الذي دفعها، ويدفعها، للحوار مع إيران ربما للتوصل إلى مخرج مشترك. فما يمكن تلمسه هنا هو أن تركيا لا تريد سلطة أميركية في سورية، كما لا تريد الفوضى، ولهذا قسرت “نصائحها” للسلطة السورية على تحقيق الانتقال إلى نظام ديمقراطي تعددي، انطلاقاً من أن ذلك يحل الأزمة القائمة. ونظن بأنها تعمل على تحقيق ذلك، لكن ليس من خلال التدخل العسكري.

في هذا الوضع لا نجد إمكانية لتكرار الشكل الليبي، ونعتقد بأن المطالبة، ومحاولة إظهار بأن الشعب المنتفض هو الذي يطالب بذلك يخلق صعوبات أكبر في وجه توسع الانتفاضة، وتأخير لانتصارها.

خلاصات

أي خلاصات يمكن أن نتوصل إليها من كل هذا التحليل؟

1) إن المسألة الأهم الآن هي البحث في توسيع الانتفاضة إلى الفئات التي لها مصلحة في إسقاط النظام لكنها خائفة أو متخوّفة، أو مخوّفة. لكن إذا كان شعار إسقاط النظام يكفي الفئات التي انتفضت إلى الآن، فإنه لا يبدو أنه يكفي الذين لم يشاركوا بعد، وهم المتخوفون والمترددون. بالتالي أصبح ضرورياً تحديد الهدف من إسقاط النظام، فالأمر لا يتعلق بصراع “شخصي” أو “طائفي”، بل يتعلق بتأسيس نظام يحلّ مشكلات الطبقات الشعبية التي هي أساس الانتفاضة.

هنا لا بد من التأكيد على أن إسقاط النظام يهدف إلى حل مشكلات العمل والأجر والتعليم والصحة، كما يهدف إلى تحقيق الحريات التي تسمح للطبقات الشعبية الدفاع عن مصالحها، ويؤسس لنظام ديمقراطي مدني (أي علماني)، في إطار أن سورية لا يمكن إلا أن تكون ضد الإمبريالية وضد الدولة الصهيونية، وأن تكون مهمة أي سلطة هي تحرير الجولان والمشاركة في إنهاء الدولة الصهيونية وإنهاء الوجود الإمبريالي.

إن عفوية الانتفاضة أوصلت إلى رفع شعار إسقاط النظام، لكن المنتفضين يُضمِّنون هذا الهدف مطالبهم. وإذا لم يستطيعوا توضيح ذلك فلا يجوز أن يجري اللعب على ذلك من أجل حصر التغيير في الإتيان بسلطة “ديمقراطية” تكرس النمط الليبرالي في الاقتصادي الذي هو من أوصل الطبقات الشعبية إلى حافة الموت جوعاً. وأيضاً لا بد من تلمس بأن توسيع الانتفاضة يفترض هذا التحديد رغماً عن كل النخب الليبرالية التي يدفع بعض منها للتدخل الإمبريالي من أجل تكريس اللبرلة والإتيان بسلطة “طوائفية”.

إذن، لا بد من صوغ برنامج واضح لهدف الانتفاضة يشتمل على مطالب الشعب.

2) ولقد انطلقت الانتفاضة عفوياً في الشكل الذي لازال يتكرر، أي التظاهر، ولا شك في أهمية هذا الشكل وقوّته، خصوصاً أنه لازال مستمراً رغم العنف الوحشي الذي يواجه به. لكن يمكن التفكير في أشكال أخرى تسنده وتفضي إلى توسعه.

فإذا كان هناك من يتخوّف من التعبير عن احتجاجه لأن المسألة تتعلق بإسقاط النظام فيمكن أن يجري العمل على الحض من أجل المطالبة بحقوق، مثل الأجر والعمل وما إلى ذلك. وأيضاً يمكن النشاط من أجل دفع العمال والفئات الوسطى للإضراب من أجل مطالبها.

لهذا لا بد من بذل الجهد من أجل أن تتحرك الطبقة العاملة وتتحرك الفئات الوسطى عبر استخدام سلاح الإضراب. ولا بد من تطوير أشكال الإضراب العام في المدن أو على صعيد كل سورية. فهذه آليات مهمة وسترفد الانتفاضة بقوة جديدة.

3) المسألة المهمة أيضاً تتمثل في التفكير في كيفية تشكيل قيادة للانتفاضة، فإذا كان هناك من اعتقد بأن تشكيل المجلس الوطني قد أسّس لقيادة سياسية للانتفاضة فإن الأيام الماضية، وربما الأيام القريبة القادمة سوف توضح بأنْ لا فاعلية لها في الأماكن التي تحتاج إلى قيادة فعلية. وأنها أصبحت عبئاً على الانتفاضة نتيجة السياسة التي تتبعها، والتي سوف تزيد من تخوّف فئات اجتماعية، وربما تقود إلى تردد قطاع من المشاركين فيها.

السؤال بالتالي هو كيف يمكن تشكيل قيادة فعلية للانتفاضة؟

4) لا بد من التفكير في الأفق الممكن للانتفاضة، فطول الزمن الذي مرّ دون انتصار الانتفاضة بات يطرح السؤال عن كيفية تحقق الهدف الذي رفعته الانتفاضة، أي إسقاط النظام. وبالتالي كيف تصل الانتفاضة إلى انتصارها؟

ولقد أشرنا إلى أن المراهنة على تدخل إمبريالي، إضافة إلى أنه مضر وخطر، فهو غير قائم كذلك. وسيصل المراهنون على ذلك إلى أفق مسدود في وقت قريب. والانتفاضة التي تخوضها الطبقات الشعبية هي التي تطرح السؤال حول الأفق، لأنها لا تمتلك أفقاً، وبالتالي ليس هناك إستراتيجية واضحة لكيفية “الاستيلاء” على السلطة، ولا يبدو أن ذلك ممكناً نتيجة غياب الفعل السياسي الذي يحدِّد الإستراتيجية الهادفة إلى ذلك، ولكن أيضاً نتيجة موازين القوى القائمة التي لا توحي بإمكانية “الزحف على القصر”.

ربما هذا الغياب هو الذي فتح، لدى بعض القطاعات، لقبول دور دولي ما. لكن لا بد من ملاحظة أنه إذا لم تكن الانتفاضة تحمل لبديلها فإن قوتها سوف تقود إلى تفكك السلطة، وانفتاح الأفق على “بديل”، وإن لم يكن الآن يمثل مطامح الطبقات الشعبية، لكنه يفتح الأفق لتطور الصراع بأشكال جديدة، هي غير دموية في كل الأحوال.

وهذا الأمر يقتضي توسيع مشاركة الفئات الاجتماعية التي لم تشارك بعد.إذن هنا الرهان الذي يجب التركيز عليه، لأنه وحده الذي يمكن أن يفتح أفق التغيير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى