صفحات الناس

“الوضع ممتاز… ثلاث وجبات ولا بعث هنا ولا داعش”/ برلين – غسان شربل

غادرت برلين نادماً على ذهابي إليها. دمغتني الرحلة بحزن عميق لا استقالة منه. خشيت أن يكون مصير السوري نموذجاً لمصير عرب كثيرين. خفت أن تكون سورية تبدّدت هي الأخرى مع من تبدّدوا من أبنائها. وأن تكون مناطقها تحوّلت «قوارب موت» تغدر بركابها. شعرت بالخوف لأن سورية الموحدة والمتعددة لن تموت وحدها إذا كان قدرها أن تموت. وشعرت كعربي بالخجل والعار حين قال لي لاجئ سوري: «حين وصلت إلى ألمانيا شعرت للمرة الأولى بكرامتي كإنسان».

غادرت برلين نادماً. ما أقسى التحديق في عيون الهاربين من أوطانهم. في عيونهم انكسار عميق وشعور فادح بالخسارة. خسروا أحباء وأبواب الخسائر مشرّعة. خسروا السقف الذي كان يردّ قسوة الشتاء وقسوة الصيف. خسروا القرية وخسروا الوطن معها. انكسار وحزن وغضب. (للمزيد)

كان السوريون يعتقدون بأن بلادهم قوية وبارعة ومتماسكة. لم يخطر ببالهم أنها ستتشلّع وعلى نحو أخطر بكثير مما عاشه جارهم لبنان. لم يصدّقوا أن النسيج الوطني سيتمزّق بهذه السرعة. صحيح أن القسوة ليست زائراً جديداً. لكن معاقبة فرد تختلف تماماً عن معاقبة مدن وبلدات ومناطق. كانوا يعتقدون بأن سورية لاعب أساسي على مسرح المنطقة. فجأة شاهدوها ملعباً للتدخلات والمليشيات. شاهدوا انحسار دور السوريين على أرضهم وتحوّلهم وقوداً في نزاعات أكبر منهم.

ليس بسيطاً أن يخلع المرء بلاده كمن يخلع قميصاً مبقّعاً بالدم، وأن يستقيل مرغماً من وطنه، وأن يسلّم نفسه للمهربين وتجار «قوارب الموت»، وأن يقرع لدى وصوله إلى البر أبواب الأسلاك الشائكة، والدول الخائفة أو المتذمرة. من حسن الحظ أن «ماما مركل» وفّرت وطناً للمطرودين من أوطانهم.

هنا ألمانيا، هنا يلقي السوريون بأنفسهم وأطفالهم.

المشهد فظيع. سألت الشاب السوري الهارب عن وضعه فأجاب: «ممتاز ثلاث وجبات يومياً ونوم بلا خوف ولا بعث هنا ولا داعش». ما أقسى أن يبتهج سوري بالوجبات الثلاث على رغم خسارة الجذور وملاعب الطفولة. يتدخل شقيقه الذي رافقه في رحلة البحر والبر ليقول: «علمونا أن نكره هذه البلدان لأنها ليست من ديننا أو قوميتنا. سأقول لك صراحة: «الذل هنا أقل بكثير من الذل في الوطن، استقبلونا، هذه الثياب من عندهم، الرعاية الطبية متوافرة، الطعام مؤمّن ومفتوح، الغرف نظيفة، حتى الشرطي بينهم يتحدث إلى اللاجئ بلطف».

يروي أحد اللاجئين من منطقة دير الزور أنه شاهد الأشلاء الناتجة من تساقط براميل النظام وكان ذلك مروعاً. وشاهد لاحقاً في قريته سكاكين «داعش» تحزّ الأعناق. لم يعد يشعر أنه يعيش في سورية التي كان يعرفها. سلم نفسه للمهربين وغادر. جرّب أهوال البحر ووصل. لم ينسَ سورية ومستعد للعودة إلى منطقة لا تعيش في ظل النظام أو «داعش».

ضابط منشق يقول إنه هرب من مشهد الجثث. اتهم بمحاولة انشقاق. استدعاه زميله إلى غرفة التعذيب وكان عليه أن يمشي على الجثث وبقع الدم. نجا من الموت برشوة قدرها خمسة ملايين ليرة سورية.

روايات كثيرة عن قسوة النظام ووحشية «داعش». لكن معظم اللاجئين يعتقدون بأن النظام ساهم «في إطلاق هذا الوحش ليضع العالم أمام الخيار: إما أنا وإما داعش». يسخر كثيرون من الدعم الأميركي للمعارضة. ينتقدون قيادات المعارضات ويصفونها بأنها كانت «أقل بكثير من حجم الثورة». يحمل كثيرون على الدور الإيراني، وبينهم من يطالب الشعب اللبناني «بالاعتذار عما يرتكبه حزب الله رداً لجميل من فتحوا له قلوبهم وبيوتهم في حرب 2006».

لا يستبعد بعض اللاجئين وقوع سورية في تقسيم موقت لبعض سنوات «لأن عودة سلطة الأسد إلى كامل سورية مستحيلة». بينهم من يقرّ بـ «أن النظام نجح في خطته لعسكرة الثورة وأسلمتها لإخافة دول المنطقة والعالم منها». ويؤكد بعض من وفدوا إلى المانيا أنهم سيتحيّنون الفرصة للعودة إذا توافرت منطقة آمنة «خالية من قوات النظام والإرهابيين المتعصبين».

ويعتقد بعض من وصل إلى ألمانيا بأن رحلة القوارب ما كانت ممكنة لولا غضّ النظر التركي الرسمي، وبينهم من يزعم أن الرئيس رجب طيب أردوغان «أراد معاقبة الأوروبيين لأنهم لم يساعدوه في إقناع أميركا بفرض منطقة آمنة، وألقوا عبء اللجوء السوري على دول الجوار».

«شاهدت براميل النظام وسكاكين داعش ففضلت الموت في البحر» «استدعاني زميلي الضابط إلى غرفة التعذيب فمشيت على الجثث»

كنت أحاور شاباً سورياً أمام المفوضية الاجتماعية لاستقبال اللاجئين في برلين حين علا الصراخ. شخصت أبصار المنتظرين الى حافة الطبقة العاشرة من المبنى. شاب غاضب يهدد بإلقاء نفسه اذا لم توافق السلطات على منحه حق اللجوء. ارتبك رجال الشرطة. سارعوا الى إحضار من يستطيع تهدئة الشاب. وبدأوا التفاوض معه. ضحك الشاب السوري وقال: «أنظر. السلطات الألمانية لا تستطيع احتمال انتحار لاجئ على أراضيها. النظام السوري قتل حتى الآن ثلاثمئة ألف شخص وشرّد الملايين ولم يرفّ له جفن. استدرَجَ الإرهاب الى سورية واليوم يحاول ادعاء محاربته».

جولة وسط الحشد تدفعك الى الاستنتاج: هذه ليست مجرد موجة لجوء سورية. انها أكثر من ذلك. إنها عاصفة لجوء تحمل الهاربين من الحروب والظلم والفقر وتحمل اليائسين من حكوماتهم وأوطانهم الفاشلة. يطالب اللاجئون ألمانيا بأن توفّر لهم ما كان يُفترض ان يحصلوا عليه في البلاد التي ولدوا على أرضها وتوهّموا أنهم سيبقون فيها. يطالبونها بالأمان والخبز والاحتضان والطبابة والتعليم والسكن. ربما لهذا السبب رفع السوريون في طريقهم إلى هذا المكان لافتات كتب عليها «ماما مركل» فهؤلاء الأيتام لم يجدوا غير الاستغاثة بالمستشارة انغيلا مركل. تَعثُر بين المحتشدين على سوريين كثيرين لا تزال وجوههم تحمل آثار الرحلة المضنية التي قادتهم الى هذه البلاد. يشعر من وصلوا بأنهم محظوظون، ذلك ان آخرين يقيمون الآن في قعر البحر فريسة للأسماك. تعثر أيضاً على هاربين من العراق وليسوا بالضرورة من الطائفة السنّية. تجد ايضاً أفغاناً نفضوا أيديهم من تلك البلاد الصعبة التي لا تجيد غير الحرب. وتعثُر على باكستانيين وإيرانيين ووافدين من تركمانستان ومولدافيا وصربيا وألبانيا وكوسوفو وبعض البلدان الافريقية. ويروي لاجئون سوريون أن شاباً سودانياً رافقهم في رحلة القارب وأصرّ على أنه سوري من دمشق. عدد السوريين الذين وصلوا إلى ألمانيا في السنوات الأربع الأخيرة لا يزيد عن 180 ألفاً.

استقبلت ألمانيا في السنة الحالية نحو نصف مليون طالب لجوء وتتوقّع ان يقترب العدد من المليون مع نهاية السنة. تبلُغ تكاليف استقبال اللاجئين وتأمين إقامتهم هذه السنة أكثر من ستة بلايين يورو. وتتوقّع الحكومة تكاليف مشابهة في السنة المقبلة. واضح أن الحكومة الألمانية سارعت إلى تقديم تسهيلات خصوصاً للسوريين. وفرت حكومات الولايات 40 ألف مكان إضافي للإقامة. وساهمت الدولة في تطويق المتخوّفين والمتعصّبين بالقول إن ألمانيا تحتاج الى شباب وعائلات وأيد عاملة وأن موجة اللجوء لن تؤدي إلى تقليص الخدمات أو زيادة الضرائب.

تُسارع السلطات الألمانية الى توفير مقر إقامة موقت للواصلين. تستقبلهم في مدارس أو صالات رياضية أو أبنية أخلتها الشرطة. بعدها تستمع محكمة الى طالب اللجوء وتسأله عن هويته وظروف مغادرته. تسأل السوريين حالياً عما تعرّضوا له في بلدانهم وما إذا كانوا شاهدوا جرائم وعمليات تعذيب. في الإقامة الموقتة يحصل اللاجئ على طعام مجاني ورعاية طبية و140 يورو شهرياً. ولدى حصوله على الإقامة يُعامَل وكأنه ألماني عاطل من العمل. تأمين صحي وبدل لاستئجار بيت وفق مواصفات معينة. ومصروف شهري قدره 360 يورو لمن هو فوق الرابعة والعشرين ولا يقل المبلغ عن مئتين لكل طفل. تُعطى للاجئ فرصة تعلُّم اللغة الألمانية على نفقة الدولة، فضلاً عن بطاقة مخفوضة لاستخدام وسائل النقل.

تعاملت الحكومة والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام برحابة مع اللاجئين الواصلين. تنادى أطباء من برلين لمساعدتهم واستجاب لندائهم ألف طبيب بينهم عدد من أصل عربي. نجحت مركل في إيجاد جو إيجابي حاصر المتخوّفين من تسلُّل إرهابيين بين اللاجئين أو من «موجة إسلامية» ستُغيّر مع الوقت وجه ألمانيا بفعل عمليات لمّ الشمل. واضح ان مركل اتخذت قراراً تاريخياً وكبيراً هو أن تكون ألمانيا في السنوات المقبلة «مُتعددة ومُلوَّنة».

تكسر روايات اللاجئين السوريين قلب الصحافي السائل. اشترط بعضهم إخفاء اسمه أو صورته حرصاً على سلامة عائلته التي لا تزال عالقة في ما كانوا يسمّونه وطنهم. فضّلتُ نقل الحوارات كما جرت ببساطتها وألمها وأحياناً غضبها. وهنا نص الحلقة الأولى:

> ما هو اسمك؟

– اسمي (…) من مدينة قورية في دير الزور. قورية كانت من أوائل الذين انتفضوا ضد النظام الظالم.

> متى خرجتَ من سورية؟

– من حوالى الشهر.

> ممن تتألف عائلتك؟

– نحن 11 ابناً وإبنة ووالداي. خرجتُ أنا بمفردي. انا عصبي قليلاً ولا أستطيع ضبط لساني. ولأننا نعيش تحت سيطرة «داعش» حيث يمكن لزلّة لسان ان تتسبب بإعدامك، خرجت.

> كم لديك من العمر؟

– 25 عاماً.

> كيف تصف العيش في ظل «داعش»؟

– ظلم وقسوة إلى أبعد الحدود. قسوة لا يمكن للمرء أن يتصورها.

> ما هي طائفتك؟

– أنا مسلم والحمدلله. مسلم سنّي. مؤمن. لكن التشدُّد الرهيب لدى «داعش» يدفعك إلى الخروج عن طورك.

> أعطني مثالاً؟

– إذا مشيت في الشارع واكتشفوا أنك حدّدت ذقنك تتعرض للعقاب. البنطلون يجب أن يكون مرتفعاً. الفتاة لا يمكن أن تخرج إلا إذا كانت كتلة من السواد.

> متى جاء تنظيم «داعش» إلى قورية؟

– قبل سنة وثلاثة أشهر.

> الناس تكره «داعش»؟

– تتقبّل وجوده خوفاً منه. انتقامهم رهيب ممن يشكّون في ولائه.

> هل قتلوا أحداً في قورية؟

– نعم قتلوا. قورية حوصرت وأُجريت مفاوضات. قالوا إنهم يضمنون سلامة العائلات في مقابل تسليم السلاح. وهذا ما حصل. لكن أعمال القتل بدأت لاحقاً.

> من كان في قورية قبل ذلك؟

– «جيش القعقاع» وهو جزء من الجيش الحر. تأسّس في دير الزور.

> هل تعتبر العيش مستحيلاً في ظل «داعش»؟

– نعم بنسبة تسعين في المئة. يُرغمون الناس على العيش وفق أسلوبهم. يجب أن تكتم صوتك وأن تبتلع لسانك كي لا ترتكب أي هفوة. أي خطأ يعتبرونه كُفراً ومسّاً بالذات الإلهية وهذا عقوبته الإعدام.

> أعدموا أناساً في قورية؟

– يعاقبون الزنى بالرجم. أما المتهم باللواط فيُلقى من سطح إحدى البنايات. من يُتّهم بالكفر يُقطع رأسه بالسكين.

> هل هناك من السكان من يتعاطف مع «داعش»؟

– نسبة قليلة. السوريون ليسوا معتادين على مثل هذا التشدُّد. «داعش» مهتم بتجنيد من تُراوح أعمارهم بين 12 و18 سنة. يغسلون أدمغتهم. يعتبرون أن من هم أكبر من ذلك سيتنكّرون لـ «الدولة الإسلامية» إذا أُصيبت بضعف. يُخضعون الطفل لدورة فلا يبقى لديه إلا جملة وحيدة يفكر فيها وهي: «إريد الذهاب إلى الجنة». هناك أكثر من ألفي شاب من قورية والقرى المجاورة سجّلوا أنفسهم للقيام بعمليات انتحارية.

> ومن يدير «قورية»؟

– عيّنوا أميراً اسمه «أبو عائشة» وهناك الشرطة الإسلامية، وجهاز الأمن. وجهاز الحسبة الذي يهتم بالشريعة الإسلامية.

> والمدارس؟

– فوضى عارمة، وأجروا دورات للمعلمين ووضعوا منهاجاً جديداً. يدرّسون مثلاً تاريخ الإسلام. يدرّسون الرياضيات واللغة العربية. الأهم هو المنهج الإسلامي.

> هل شاهدت عملية إعدام؟

– شاهدت ثلاثة إعدامات. إذا كنت في السوق وتقرّرَ إعدام شخص يُرغمونك على الحضور لأنهم يحيطون بالمنطقة. واحد من عشيرة الشعيطات. يقرأون بياناً شرعياً يقول إن سبب القصاص هو قيام المتهم بمحاربة «الدولة الإسلامية» يتقدم واحد بسكين ويفصل رأس المتهم عن جسده.

> بماذا شعرت؟

– المشهد رهيب. وعليك ان تضبط مشاعرك. أي احتجاج يعني أنك تختار المصير نفسه. حضرت إعدام شخص آخر من قرية الصبيخان والثالث من الرقة. قالوا إن الأول سبّ الذات الإلهية والثاني حارب «داعش».

> تبدو أعصابك قوية؟

– نحن رأينا الأهوال من النظام ومن «داعش». ذات يوم قصف النظام سوقاً شعبية. كانت الأجساد مقطّعة وأشلاء الأطفال متناثرة. أشلاء النساء. مشاهد تثير الغضب إلى حد الجنون.

لا أريدك أن تستنتج ان «داعش» هو مشكلتنا الأولى أو الوحيدة. النظام ساهم في ولادة «داعش» ومعه دول في المنطقة. التدخُّل المذهبي إلى جانب النظام ساهم هو الآخر. أراد النظام ان يجعل من «داعش» البديل الوحيد له ليجبر العالم على التعايش معه.

وكي أكون واضحاً. ما يجري في سجون النظام أقسى من ممارسات «داعش». عشرات الآلاف قُتِلوا في أقبية الأمن. من كُتب لهم الخروج يمكن أن يحكوا لك عن الجثث وبقع الدم والصراخ. رفْضُنا لـ «داعش» لا يعني القبول بعودة النظام. نريد سورية لا تشبه الاثنين.

> قررتَ الخروج فماذا حصل؟

– كنا ستة قررنا الخروج. على بعد ستة كيلومترات أوقفنا حاجز لـ «داعش». لم نقل إننا ننوي التوجُّه إلى تركيا ومنها إلى أوروبا. قلنا إننا في الطريق إلى أعزاز لجلب أدوية وحاجات. أجابوا أنتم في الطريق إلى تركيا وأوروبا. حكوا لنا عن تفاصيل في حياتنا الشخصية، استغربنا. قال لي أحدهم أنت فلان ابن فلان وهذا عمل والدك. قال لي: «اذهب حيث شئت، لكن خذ في الاعتبار انك حين تخرج تُعتبر مرتداً وقصك (قطع عنقك) حلال. نحن نفضّل أن تذهبوا لنأخذ بيوتكم ومناطقكم».

> وبعدها؟

– أوقفتنا حواجز أخرى. سألنا العناصر لماذا لا نجاهد معهم. لاحقاً أوقفنا حاجز لـ «الجبهة الإسلامية». فتّشونا. شاب عمره 12 سنة قال لي أستطيع أن أرشك من فوق لتحت. حقق معي إن كنت من «داعش». شعرت في تلك اللحظة أن سورية لم تعد لنا.

> ماذا كنت تعمل قبل مغادرتك، ألم تكن أساساً في شبيبة البعث؟

– لا، أنا كنت طالب جامعة ولا أتعاطى العمل الحزبي أو السياسي. كنت أدرس في جامعة الفرات، قسم العلوم، فرع الرياضيات.

> هل شاركتَ في الاحتجاجات عندما بدأت؟

– نعم. كانت الصحوة السورية نظيفة وبلا نفاق. حلمنا بأن تنتقل سورية من الديكتاتورية الى نظام عادل.

> لنرجع إلى أعزاز؟

– نعم. عثرنا على مهرّب قال إنه يعرف مهرّباً تركياً وسيتولى إرشادنا هناك. كان الوضع متوتراً على الحدود بسبب الصدامات بين الجيش التركي والأكراد ورأينا الموت بعيوننا. استغرقت الرحلة يوماً. كنا في أول آب (أغسطس). دفعنا للمهّرب الأول 30 دولاراً على أن ندفع شيئاً مشابهاً للمهرّب التركي. ابتزّنا المهرّبون على الطريق فدفعنا أضعاف هذا المبلغ. رحنا نحاول الدخول ونتراجع ثم نحاول مجدداً. في النهاية عبرنا الأسلاك الشائكة فتمزقت ثيابنا. ذهبت الى كيليس ومنها ألى ازمير نحو تسع ساعات.

> ومتى صعدت الى القارب؟

– قالوا إن لا رحلة من أزمير فذهبت إلى بودروم. اتفقنا مع مهرّب وسيط مع البنغاليين. قالوا لا رحلة. شكّلنا مجموعة من سبعة أشخاص وذهبنا الى الهنود والبنغاليين وأصرّينا على المغادرة على رغم ان البحر سيّء.

حدد لنا أحد المهرّبين نقطة. سرنا إليها عبر الجبال. اشترى زورقاً مطاطياً. كنا سبعة شبان استأجرنا القارب بـ 6500 دولار. كان البحر سيئاً جداً.

> ألم تخف؟

– لا، كان البقاء في سورية يعني الموت. هنا على الأقل نحاول. اشتدّ الموج. بدأت الصلوات والأدعية. اقتربت منا بارجة حربية إيطالية وراحت ترسل إشارات ضوئية. لم نردّ. صرنا على مسافة كيلومترين من الشواطئ اليونانية. سمعنا سورياً يصرخ من البارجة الإيطالية ويقول إنها تنوي مساعدتنا. كان هو الآخر جاء في قارب وصعد إلى البارجة. رموا لنا حبلاً. صعدنا الى البارجة. عاملونا باهتمام واحترام. أعطونا أغطية، ثم نزلنا في اليونان في جزيرة اسمها كوس حيث واجهنا أسوأ معاملة. طبعاً البارجة جمعت قبل الوصول ركاب نحو 40 قارباً مطاطياً. توجّهنا إلى فندق ونزلنا في غرفتين ودفع كل واحد 30 يورو. الطعام كان غالياً.

في اليوم التالي سجّلنا أنفسنا، وقالوا هناك دور لا بد من انتظاره. أعطوا الأولوية لحَمَلَة الباسبورات. نحن كان لدينا هويات فقط. كذلك أعطوا الأولوية للعوائل. نريد ورقة تجوّل للتوجُّه إلى أثينا. كانت الشرطة سيئة تضرب وتصرخ وتسيء المعاملة. كنا ننتظر من الصباح حتى آخر الليل. استخدموا قنابل مسيلة للدموع. تجمّعنا في الميناء للصعود الى البارجة. سائق تاكسي دخل في صفوف المنتظرين وصدم شخصاً وكسر رجله. تجمّعنا حوله فأخذه الشرطي الذي سرعان ما قال عنا: أنتم شعوب همجية. هو هاجمكم كي لا تجلسوا في الساحة.

صعدنا إلى الباخرة وأمضينا فيها نحو 38 ساعة لأنها مرَّت على كل الجزر. مدة الرحلة اصلاً 12 ساعة. في كوس تأذّينا من العراقيين. كانوا يدّعون أنهم سوريون ويستولون على أدوارنا. بسببهم بقيت عشرة أيام في كوس.

> وبعد أثينا؟

– من أثينا إلى الحدود المقدونية. مشينا نحو ثلاثة كيلومترات. أمضينا نحو 36 ساعة ثم غادرنا الى مقدونيا ومنها إلى حدود صربيا. أدخلونا إلى صربيا وكانت التسهيلات ممتازة. ذهبنا الى بلغراد ومنها إلى حدود هنغاريا فوجدنا نحو أربعة آلاف شخص دخلوا الحدود. أنا خشيت من مرافقتهم، سلكتُ طريق الأحراج وحقول الذرة ومعي عائلة. وصلنا الى محطة وقود وعثرنا على مهرّبِيْن من سائقي التاكسي. حاولوا الاعتداء علينا. نكزت أحدهم بسكين كنتُ اشتريتُه من صربيا ليكون معي في رحلة الأحراج. من حسن الحظ هربا. تابعنا الطريق والتقينا ثلاثة من المهرّبين الهنغاريين لديهم تاكسيات واتفقنا معهم على أساس ان يدفع كل واحد 25 يورو. أنا كان معي ابن أختي.

أوصلنا سائق التاكسي إلى محطة القطار في بودابست. أحياناً كان التاكسي يتوقف بعيداً من المحطة لكي يضطر اللاجئ إلى أخذ تاكسي آخر.

في بودابست قالوا لنا ان التذاكر مجانية. غادرنا على ان نتوقف في فيينا لكن القطار تابع إلى ميونيخ ومنها إلى برلين.

> كيف عوملتم؟

– معاملة ممتازة. أعطونا ثياباً. وصلنا قبل أسبوع. ضاعت مني الأيام لأنها تداخلت ببعضها. أعتقد أننا وصلنا في التاسع من الشهر الحالي.

> هل يمكن أن تعود إلى سورية؟

– نعم أرجع. المهم ان تزول «داعش». أحتمل الحرب مع النظام.

> هل ترجع إذا سيطر النظام على قريتك؟

– مستحيل. النظام لن يدخل قريتنا إلاّ على جثث أهاليها. جرائم «داعش» لا تنسينا جرائم النظام. كان السوريون يتحدثون عن مذبحة حماة. العهد الحالي في سورية ارتكب 20 حماة على امتداد الخريطة السورية. سورية بأسرها صارت حماة. حتى مناطق النظام هناك عصابات وتشليح واضطهاد للسنّة.

> هل تعتقد أنك مضطهد لأنك معارض أم لأنك سنّي؟

– للسببين معاً. الميليشيات التي تُقاتل الى جانب النظام كلها شيعية. حوّل النظام المواجهة مع المعارضة إلى قتال طائفي ومذهبي. تماماً كما فعلوا في لبنان لتبرير دخول الجيش السوري إليه.

مؤسف ما يفعله بعض اللبنانيين في سورية حالياً. أنا كنت في الضاحية الجنوبية لبيروت في حرب 2006. كانت معاملتهم ممتازة وساعدونا في الخروج. لم أفهم أبداً لماذا يأتي حزب يرفع شعار المقاومة لقتل شعب يتمرّد على نظام ظالم. كنت أحب «حزب الله» حين كان يرفع شعاراً وطنياً وعربياً. ممارساته اليوم في سورية مذهبية. صرت أكرههم. أعتقد ان السوريين لن ينسوا ما يفعله «حزب الله».

أنا عربي ولا أطيق استعلاء الإيرانيين. أعتقد أنهم يكرهون السنّة لأنهم سنّة. فتح النظام الباب لاستباحة سورية وخسر قراره.

> لكن مقاتلين أجانب يقاتلون مع المعارضة أيضاً؟

– نحن لم نطلبهم. دخلوا لأن الحدود سائبة.

> أين عائلتك؟

– في سورية. الذل الذي تعرّضت له في الطريق يدفعني إلى التفكير بإبقائهم في سورية حتى ولو واجهوا الموت.

الضابط المنشق

> هل يمكن ان نتعرّف عليك؟

– أعتذر. أنا قصتي صعبة.

> ماذا تقصد؟

– لا أريد إظهار اسمي ولا صورتي.

> أنت في ألمانيا وتخاف إلى هذه الدرجة؟

– لا أخاف على نفسي لكنني لا أريد أن يدفع أحد الثمن بسبب ما أقوله.

> ضاعفتَ حشريتي فلماذا هذا الصمت؟

– أنا ضابط منشق.

> ماذا كانت رتبتك؟

– ملازم أول في المخابرات الجوية.

> ما هي قصتك؟

– في الشهر الرابع عام 2012 حاولتُ الانشقاق لكنهم أمسكوني على بعد مئات الأمتار فقط من المركز. طبعاً لم أقل ان غرضي الانشقاق لكنهم اشتبهوا بي بسبب مغادرتي من دون إبلاغ أحد. حصل ذلك في حلب. اعتقلوني ورموني في السجن وكان التعذيب رهيباً.

> كيف كان التعذيب؟

– جرّبوا فيّ كل أنواع التعذيب. سيخ النار، الشبح، الدولاب، بساط الريح. الكهرباء.

> من عذّبك؟

– زملائي وبعض من كانوا مرؤوسين لدي.

> كيف بقيتَ حياً؟

– أبلغوني أن حُكماً ميدانياً بالإعدام صدر في حقي وسيُنفّذ الاثنين المقبل. تحدثتُ سراً إلى ضابط أمن في المخابرات الجوية. أنا لم أقتل ولم أسرق. قال الضابط انه مستعد لتغيير الحُكم الصادر ضدي إذا قام والدي بتحويل مبلغ خمسة ملايين ليرة سورية باسم شخص يقيم في طرطوس. أعطاني اسم الشخص وحوّل والدي له المبلغ. طلب الضابط ما يُشبه إعادة المحاكمة واعتُبرتُ بريئاً بعد أربعة أشهر وعشرة أيام من التعذيب. المبلغ يوازي في حينه مئة ألف دولار.

> متى دخلتَ الجيش؟

– في 2009.

> وكم بلغ عمرك الآن؟

– 28 سنة.

> من أين أنت؟

– من دمشق نفسها.

> لماذا قررت الانشقاق؟

– من هول ما رأيت في أقبية التعذيب. أستطيع أن أحكي لك مجلّدات عن هذا الموضوع. شيء تقشعرّ له الأبدان. شيء مخيف ومُرعب ومقزز. تصوّر أنهم حين يأخذونك من غرفة السجن إلى غرفة التعذيب تضطر الى الدوس على جثث أناس ماتوا قبل وقت قصير. يكفي أن تشاهد بقع الدم المتجمّدة والجثث الممدّدة أو تسمع صراخ من تكسّرت أضلاعهم أو أطرافهم وغطى الدم وجوههم. في سجن حلب كان معدّل الوفيات اليومي يراوح بين عشرة قتلى وثلاثين قتيلاً. هذا في 2012.

> من هم الذين كانوا يخضعون للتعذيب؟

– شبان يعتقلونهم في التظاهرات. معارضون، متهمون بسبب وشايات. إننا نتحدث عن 2012. هذه ليست ذروة التعذيب ولا ذروة عمليات القتل. الأمور استفحلت بعد ذلك. حلب نفسها لم تكن مثل وضعها اللاحق. كانت الثورة ضعيفة في تلك السنة.

> حصلت على البراءة. لماذا عدت الى الانشقاق؟

– لأنني جرّبتُ شخصياً ما يتعرض له الناس من ظلم وقتل. أنا ضابط وأعرف أن الأجهزة تعاقب وربما بقسوة. العقاب يجب أن ينزل بمن ارتكب جُرماً وليس لأن الشخص معارض أو يريد الحرية.

اغتنمتُ أول فرصة وانشققت. ساعدني شبان من المعارضة فانتقلت الى الغوطة والتحقتُ بـ «الجيش الحر» نحو ثمانية أشهر كانت لي خلالها مشاركة محدودة في القتال. أُصبت وخرجت الى الأردن بغرض العلاج.

> أثناء وجودك في حلب هل لاحظت وجود أجانب إلى جانب قوات النظام؟

– كان هناك بعض الخبراء الإيرانيين. كي أكون صادقاً أنا لم أشاهد عناصر من «حزب الله» في تلك المرحلة. كان هناك ايضاً خبراء روس في مطار كويرس.

> هل تفكر في الرجوع إلى سورية؟

– لا، سورية التي أحبها انتهت. تمزّقت. حين يتوقف إطلاق النار سيكتشف العالم أن عدد القتلى أكثر من ثلاثمئة ألف. سورية دُمّرت. نسيجها تمزق. وقبل كل ذلك فَقَدَت قرارها. لم تعد الكلمة للسوري على أرض سورية. أنا لا أريد العيش على أرض سورية قرارها بيد الإيراني أو «حزب الله» أو تركيا أو غيرها. تقديري الشخصي أن سورية ستكون مستقبلاً تحت وصاية دولة كبرى. خسر السوريون أبناءهم وخسروا قرارهم وسيادتهم.

> من يتولى التعذيب؟

– عسكريون ومن طوائف مختلفة وشبيحة. تصوّر بعض الأجساد كانت تبدو زرقاء وسوداء من شدة التعذيب. أنا انشققت بسبب ما شاهدته.

> هل رأيت أناساً يلفظون أنفاسهم امامك؟

– بالتأكيد. لهذا حين انشققت في المرة الثانية تعمّدت فتح باب السجن ما أدى إلى خروج 80 معتقلاً.

> كيف وصلتَ الى هنا؟

– دفعتُ كل ما لديّ في عملية الوصول. أنا الآن لا أملك قرشاً. أجول هنا في القطارات من دون أن أدفع.

> أين تقيم الآن؟

– في مركز للاجئين.

> كيف تصف المعاملة؟

– جيدة عموماً، هناك أحياناً لؤم من بعض الأفراد، أوروبا ليست جنّة كما يتوهم الناس.

> كيف وصلتَ إلى ألمانيا؟

– غادرتُ الأردن الى تركيا ومنها الى اليونان في قارب مطاطي. دفعت 1200 يورو. من اليونان إلى مقدونيا ثم صربيا فهنغاريا وانتهت الرحلة في ألمانيا كما ترى.

> ماذا ستفعل الآن؟

– سأحاول البدء من جديد. العيش بعيداً من الحرب والجثث. لا بد من وقت لالتقاط الأنفاس. ذيول ما يحدث في سورية ستكون كبيرة وخطيرة.

> بماذا تشعر الآن؟

– بماذا تريدني أن أشعر. كان السوري يعيش في بلده، وها هو يقف ذليلاً عند حدود هذه الدولة أو تلك، يستجدي المهرّب ويستعطف الشرطي وينتظر الوجبات والبطانيات. عائلات كثيرة قُتِل بعض أفرادها. وعائلات تدفع شبانها الى الهجرة خوفاً عليهم من وحشية النظام أو وحشية «داعش». لا أعتقد أن شعباً تعذّب كما يتعذّب السوريون. هذه الأحقاد لن تنتهي سريعاً. أنظر، يعيش الإسرائيليون في أمن وأمان وسورية خسرت كل شيء.

=2=

«لن أرجع إلى سورية ولو كانت مذهبَة وهمِي الإستقرار وإحضار خطيبتي» «حين وصلت إلى ألمانيا شعرت للمرة الأولى في حياتي بكرامتي كإنسان»

زيارة أماكن إقامة طالبي اللجوء تحتاج إلى إذن مسبق من السلطات المعنية. أرسلَ زميلنا اسكندر الديك طلب الزيارة ورحنا ننتظر الرد. تأخروا. انزعج الزميل، إذ ليس من عادة الموظف الألماني أن يهمل أي إيميل يتلقّاه. هذه بلاد يعمل الموظفون فيها بجدية ولا ينتظرون الرشاوى لتمرير المعاملات. بعد 36 ساعة جاءت الموافقة مرفقة باعتذار مهذب. عاصفة اللجوء ألقت بثقلها على الجهاز المكلف متابعة هذا الموضوع.

توجهنا إلى مبنى في منطقة ليشتنبرغ. طلبنا من الموظفة الألمانية أن نزورعائلة سورية وصلت حديثاً. رحبت بنا، لكنها اشترطت موافقة العائلة نفسها وهذا ما حصل.

كانت السيدة ناريمان بلال تعيش في إدلب مع زوجها وولديها زيد وجنى. مهنتها التدريس وزوجها يملك كاراجاً لتصليح السيارات. كانت الحياة طبيعية أوعادية. وكانت العائلة بعيدة من السياسة وتتحاشى ما يسبّب وجع الرأس مع النظام. وهكذا مرت الأيام. تقود ناريمان سيارتها لنقل أطفالها والذهاب إلى مقر عملها. ويكافح زوجها لتحسين شروط العيش. كانت العائلة قانعة بأوضاعها ولم يخطر في بال الزوج أو الزوجة أن الأيام ستلقيهم في أرض أخرى بعيدة من إدلب. أرض مختلفة الثقافة واللغة وأسلوب العيش.

مع غارات طيران النظام وسيطرة «جبهة النصرة» على المنطقة تبدّل المشهد. صارت الإقامة محفوفة بالصعوبات والأخطار معاً. غارات طيران النظام لا ترحم. والعيش في ظل قواعد «النصرة» ليس بسيطاً. فُرض على النساء الخروج بالعباءة. تغير أسلوب الحياة. صارت ناريمان تشعر بأن مجرد قيادة السيارة يُعتبر جُرماً ومخالفة. إنها مسلمة سنّية. الإيمان بالنسبة إليها لا يعني التشدُّد. كانت أخبار المناطق السورية الأخرى مخيفة ومقلقة وبدت الحرب طويلة. راحت العائلة تفكر في مستقبل الطفلين وسط أجواء توحي بأن سورية نفسها بلا مستقبل.

كان لا بد من قرار صعب. باعت ناريمان سيارتها وتركت عملها. باع زوجها سيارته وترك مصدر رزقه. لا بد من مبلغ من المال لإرواء جشع المهرّبين الذين سيأخذون العائلة بعيداً من سورية. «لا أريد الدخول في السياسة. أريد فقط العيش بأمان مع عائلتي. النظام أخطأ و «جبهة النصرة» اخطأت. كان الله في عون السوريين».

سلَكَت العائلة طريق تركيا. انتظرت موعد الرحلة. صعدَت إلى القارب بعدما دفَعَت للمهرّب. صلّت إيمان طويلاً كي لا يغدر البحر بعائلة لا تبحث عن غير الأمان. تلاعب الموج بالقارب بين تركيا وشاطئ ميتاليني اليونانية لكن العائلة وصلت. ومن اليونان كانت الرحلة شبيهة برحلات الآخرين وانتهت في برلين في 22 آب (اغسطس) الماضي.

تستبعد ناريمان أن ترجع إدلب إلى ما كانت عليه. «بدأتُ البارحة مع زوجي دورة لتعلُّم اللغة الألمانية على حساب الدولة هنا». تقول إن التعامل جيد. الطعام متوفر ولو كان مختلفاً عن مذاق أكل بلادنا. التطبيب مؤمن. في البداية أعطونا1008 يورو لمدة 40 يوماً. أعطونا ايضاً ملابس للشتاء. سيسجلون الأولاد في المدرسة قريباً.

اعتذرَتْ ناريمان عن التقاط صورة لها. أشارت إلى الطفلين يتابعان برنامجاً للصور المتحرَكة على التلفزيون. تحدّثت بهدوء من يستسلم لقدره. طُويتْ صفحة إدلب وفُتِحت صفحة جديدة.

أخذتنا الموظفة الألمانية في جولة في المبنى. غرف عادية لكنها نظيفة ومجهزة بما يكفي لإقامة اللاجئين. أخلت الشرطة المبنى تاركة المجال لإقامة اللاجئين. أطلعتنا الموظفة على الطابق المخصص للعائلات التي أصيب أحد أفرادها بإعاقة. غرف مجهّزة للعب الأطفال، فضلاً عن تجهيزات في الحديقة.

جاء من الغوطة

عبدالقادر شيخاني لا يحب إخفاء مشاعره. قال: «حين وصلت إلى ألمانيا شعرت للمرة الأولى في حياتي بكرامتي كإنسان. لا قيمة للإنسان في بلداننا. إنه مجرد رقم او أقل. عليه الخضوع على مدار الوقت. والقبول بما يرسمونه له. لا حقوق له ولا كرامة».

قال عبد القادر إنه من بلدة النشابية. حين بدأت الاحتجاجات تعاطف الناس معها. تعبوا من التسلط والظلم والفساد. «على رغم المعاناة الطويلة، لم يطالب الناس في البداية بإسقاط النظام. طلبوا من بشار الأسد أن يسمح لهم بالتنفس قليلاً. أن يُحقِّق شيئاً من الإصلاح الذي تحدث عنه على مدار سنوات. النظام جشع ولا يقبل بأن يتحدث الناس عن حقوق أو مطالب. يعتبر أن أي حديث من هذا النوع يشكل جريمة».

ويضيف: «خرج شبان البلدة في تظاهرة. أنا شخصياً لم أشارك لكن كنت أشاهد من قرب. كانوا يردّدون هتافات من نوع «سلمية سلمية» و «الشعب السوري واحد». يريدون تحسين شروط حياتهم ووقف عمليات الفساد والنهب. فجأة أطل رجال الأمن وأمطروا التظاهرة بالرصاص. هذه كانت المجزرة الأولى. الحصيلة 12 قتيلاً و255 جريحاً. لم يكن هناك أي سبب لإطلاق النار. اعتَقَدَ النظام ان المجزرة ستكسر إرادة الناس وتعيدهم إلى مرحلة الخوف. أنا أتحدث عمّا رأيت وليس نقلاً عن آخرين».

وتابع: «تعرّضت البلدة للويلات وقُصِف منزلي. كما تعرّضت للحصار والتجويع. نظام ظالم لا يرحم. تخضع له أو يعتبرك متآمراً وجاسوساً ليُبرر قتلك. كنت أعملُ سائقاً وفي الإنشاءات ايضاً. صارت الحياة مستحيلة. خفنا على عائلاتنا من ممارسات الشبيحة. وصلتُ إلى ألمانيا قبل ثلاثة أشهر من طريق بلغاريا وصربيا والنمسا. دفعتُ للمهرّبين 10 آلاف يورو على أربعة أفراد. ليس هناك ما هو أفضل من تعامل الألمان. تصور هذه ليست بلادك. لكنها تحترمك. توفر لك مكاناً للإقامة وطعاماً وتوفر التطبيب وتعطيك مصروف الجيب. تفتح لك باب العمل وتعاملك باحترام كأنك مواطن أصيل. حاول أن تقارن مع بلداننا».

وقال: «سورية بلدي. وأنا أحب بلدي. لكنني أريد أن أعيش بكرامة. في دولة تساوي بين الناس ويحكمها القانون. سأكون صريحاً. العودة غير واردة إذا بقي الأسد. لا يمكن قبول العودة إلى الظلم بعد بحر من الدماء والخراب. أنا أريد سورية دولة طبيعية يعيش فيها الناس ويعلّمون أولادهم ويمارسون حياتهم بلا خوف. أنا ضد التطرف والتعصب من أي جهة أتى. أنا سنّي وكردي. أحب أن ينال الأكراد حقوقهم في سورية لكنني لا أؤيد قيام كانتون خاص بالأكراد. لا أخفي عليك أن الحديث عن كانتون كردي بدأ يؤثر في العلاقات بين العرب والأكراد».

قال عبد القادر إن العالم بأسره أخطأ في حق السوريين. تركَهُم عُرضة للقتل والخراب. حَمَلَ بعنف على إيران ووصفها بأنها «عدوٌّ لدود». وحمل بعنف أكبر على «حزب الله» معتبراً أن «مشاركته في قتل السوريين تُظهر أنه مجرد أداة لتنفيذ البرنامج الإيراني، وأن لا صحة لما كان يدّعيه عن المقاومة والممانعة».

رحلة آراس

لن يرجع آراس الى سورية حتى ولو عرضت عليه مذهبَة. برنامجه أن يبني مستقبله في ألمانيا. فور استقراره سيحاول إحضار خطيبته التي تركها في تركيا خوفا من ان يغرق الزورق المطاطي بهما معا. لن أكتب قصة آراس ساتركه يرويها عبر الحوار:

> هل تقول لي إسمك؟

– آراس عبدالباسط، أنا من مدينة البوكمال في محافظة دير الزور. أنا من عائلة نسبها درويش وهي عائلة كردية، نحن عشرة أشخاص مع الأب والأم.

> هل غادرتم جميعاً؟

– أهلي بقوا في تركيا وأنا جئت مع اثنين من أشقائي.

> متى غادرتم سورية؟

– منذ نحو أربع سنوات حين اتخذت الأحداث طابعاً دموياً.

> لماذا خرجتم؟

– تعرضنا لضغوط لتجنيدنا. جاء الجيش النظامي واستخدم لغة التهديد. إما أن تتجنّدوا معنا أو سنعاقبكم. والعقاب يعني القتل. الانضمام الى الجيش في مثل الظروف التي تعيشها سورية يعني المشاركة في قتل الناس. إن معظم الذين يُقتلون في سورية من المدنيين والأبرياء. قررتُ أن لا أبدأ حياتي بالقتل. لا أريد دماً على يدي. قلنا نبتعد قليلاً. ذهبنا الى الحسكة. تكرّر المشهد هناك. جاء الجيش النظامي. ثم جاء الجيش الحر، وبعده الجيش الكردي. أنا لا أريد أن أقاتل. في الوقت نفسه ظهرت مجموعات مسلحة تهين الأكراد وتستفزّهم. يقولون للكردي: «أنت كردي سنقطع رأسك».

ذهبنا الى رأس العين للدخول إلى تركيا. صودف ان جندياً تركياً قُتِل برصاص أُطلق من الأرض السورية فتوتَّرَ الجو في منطقة الحدود. ساعدنا مهرّبون من رأس العين على العبور. ودفع كل فرد منا نحو 150 دولاراً لاجتياز الحدود.

> وفي تركيا؟

– أقمنا في منطقة قريبة من الحدود مع سورية. بدأتُ العمل في مطعم للكباب لأحد أقارب والدي. كان يعطيني عشر ليرات يومياً ثم رفعها الى خمس عشرة ليرة.

> كيف كانت معاملة الأتراك لكم؟

– كانوا يخاطبون السوريين بنوع من الإستعلاء ويسخرون منهم. هناك شيء من العنصرية. مع وصول السوريين ارتفعت إيجارات المنازل كثيراً.

> لماذا قرّرت مغادرة تركيا والمجيء إلى أوروبا؟

– كنا نسمع عما يجري في سورية. أعمال القتل والمجازر وتدمير المدن والقرى، وممارسات العصابات والميليشيات. حين تسمع ذلك يستحيل أن تفكر بالعودة إلى سورية. كان لي أصدقاء جاؤوا سابقاً إلى أوروبا. حكوا لي أنهم يعيشون مرتاحين أو في صورة طبيعية. شجعوني على المجيء. فكرتُ في مستقبلي وفي عائلتي. البقاء في تركيا ليس حلاً.

> قررتم الخروج. بمن اتصلتم؟

– اتصلنا بأحد أخوالنا وهو مقيم هنا منذ أكثر من عشر سنوات. قال: «تعالوا سترتاحون هنا بعيداً عن القتل والخراب».

> كيف بدأتم رحلة الخروج؟

– أراد أهلي إنقاذنا خوفاً من أن نعود إلى سورية وأن نشارك في الحرب. طلبوا منا المغادرة لتأمين مكان لنا.

> من أصعدك الى القارب؟

– مهرّبون من جنسية تركية. الحقيقة هناك مافيا كبيرة يعمل فيها عراقيون وسوريون وآسيويون وأفارقة، لكن زعماء هذه المافيا هم من الأتراك بسبب المكان. رأس المافيا تركي لأنه هو الذي سيقرر من أي نقطة سينطلق الزورق. أعطونا موعداً في مكان محدد ودفع كل واحد ألف دولار.

> كم شخصاً كنتم في القارب؟

– نحو 45 شخصاً. إنه قارب مطاطي يُنفخ ويُلقى في البحر. هذه فنون المافيا. يأتون بأحد الهاربين ويدرّبونه لدقائق على قيادة القارب. ثم يتركون له المهمة. لا يقودون القارب بأنفسهم كي لا يُقبض عليهم وكي يتفادوا المصير الأسود إذا غرق. وإذا وصل اللاجئون إلى هدفهم يتركون القارب في البحر فثمنه لا يزيد على ألف دولار. انطلقنا من بواتشا في إزمير. انطلقنا عند منتصف الليل ووصلنا في الثامنة صباحاً إلى اليونان.

> كيف كانت الرحلة؟

– مخيفة. الموت وارد في أي لحظة. وقوارب كثيرة غرقت. سلمتُ مصيري واعتبرتُ ان الموت ممكن أو متوقع. تأتي موجة فيرتفع القارب ويهتز بقوة فتسمع دعاء الأمهات وبكاء الأطفال.

> من قاد القارب؟

– لاجئ سوري مثلنا. درّبوه لدقائق قبل الانطلاق. فَقَدَ بعض الركاب أعصابهم. شاب راح يصرخ يريد أمه. أنا قررتُ أن أبقى صامتاً رغم مخاوفي. الحمدلله لم يسقط أحد في المياه. وفي النهاية وصلنا الى جزيرة ميتاليني اليونانية. قبل وصولنا بنحو كيلومتر اقترب يوناني من القارب وأرشدنا الى مكان النزول على الشاطئ وقال انه سيتصل بالشرطة لتستقبلنا. إنه متطوع أراد المساعدة.

> وحين نزلتم؟

– الشخص نفسه أحضر معه عدداً من اصدقائه، وقد اصطحبوا معهم بعض الطعام وزجاجات المياه. أرشدونا الى الطريق المؤدية الى المدينة. سرنا نحو يوم كامل لعشرات الكيلومترات. كانت الرحلة مُنهكة. ذهبنا الى المخفر لنحصل على خرائط وللصعود الى وسيلة نقل توصلنا الى أثينا.

نمنا في حديقة. وتعرّضنا لممارسات من رجال عصابات وسكارى حاولوا ابتزاز اللاجئين، انتقلنا ونمنا في حوش قرب المخفر.

عدنا الى المكان الذي سنتسلّم منه الخرائط؟ كان تعامل الشرطة سيئاً ووصل الى حد ضرب النساء والأطفال. مثلاً، أنا كنت واقفاً على الشاطئ، اقترب مني شرطي وانهال علي بهراوته. صعدنا الى الباخرة وتوجّهنا الى أثينا.

> وبعد أثينا؟

– ساعدنا سوري في الصعود الى باص أوصلنا الى حدود مقدونيا في رحلة استمرت ست ساعات. كانوا يدخلون اللاجئين في مجموعات وانتظرنا يومين هناك. أدخلونا الى مخيم ثم صعدنا إلى باص أوصلنا إلى حدود صربيا في رحلة استغرقت 4 ساعات. عند حدود صربيا كان الطقس بارداً.

تعرضنا لاستغلال حقيقي. كان سائق التاكسي يتقاضى أضعاف التعرفة ليوافق على نقل اللاجئين. لم يكن أمامنا غير ان ندفع. صعدنا الى باص في اتجاه الحدود الهنغارية. مشينا نحو كيلومتر على خط السكة الحديد. وكان عدد اللاجئين كبيراً، من سورية والعراق وباكستان وأفغانستان.

> كان الوضع صعباً هناك؟

– جداً، بدأ الناس يلقون بأنفسهم من فوق الشريط الشائك. ابتعدنا عن الشرطة. أحضرتُ بطانيتين كانتا معنا ووضعناهما فوق الشريط الشائك وبدأنا بتمرير الأطفال والنساء.

دخلنا إحدى الغابات. وصلنا الى محطة محروقات. صعدتُ مع إخوتي الى سيارة تاكسي. تبين لاحقاً أن السائق سرق هذه السيارة. لدى وصولنا إلى مقربة من نقطة تفتيش قفز السائق من السيارة وهرب، وتولّينا نحن إيقافها. أي انه تقاضى الأجرة المضاعفة وفر. طلبتُ من رفاقي ان يهربوا وسلمتُ نفسي إلى الشرطة وقلتُ لهم إنني سوري وكان تعاملهم جيداً. أعدنا تجميع أنفسنا ومشينا، ثم اكتشفنا ان سائق السيارة يختبئ وراء شجرة فتحلّقنا حوله واستعدنا ما دفعناه. تعرضت مجموعة أخرى للأمر نفسه. صعدنا في «فان» وتوجّهنا الى بودابست. انتظرنا القطار خمس ساعات وتوجّهنا إلى فيينا.

في فيينا كان المشهد مؤثراً. مواطنون عاديون جاؤوا يحملون الطعام والعصائر والبطانيات والأدوية. جاء أطباء للمساعدة وأعطونا خطوطاً للاتصال بأهلنا. تصوّر ماذا تفعل بنا بلداننا وكيف يعاملنا ابناء بلدان أخرى؟ (تدخّل لاجئ آخر ضاحكاً قال: أنظر كيف يتصرف من كنا نسميهم الإمبرياليين والكفار). أصعدونا الى القطار وتوجّهنا الى برلين.

> وفي برلين؟

– كان الاستقبال جيداً. حضر الأطباء لتقديم أي مساعدة. أصعدونا في باصات وأحضرونا الى هذا المكان وهو في الأصل ملعب كرة سلة. أنزلونا فيه وخلال أقل من خمس ساعات جهّزوا لنا مكاناً للأكل والنوم.

> كيف تصف التعامل؟

– ممتاز. ثلاث وجبات، وإن احتجت أكثر يمكنك الحصول عليه. أعطونا ثياباً. صار في استطاعتنا النوم بلا قلق أو خوف. إنك في بلاد آمنة. لا بعث هنا ولا «داعش». لا براميل ولا قطع رؤوس. نحن ننتظر عملية الفرز للحصول على مساعدة سكن ومساعدة لتعلُّم اللغة.

> ما هو طموحك الآن؟

– سأتحدث بصراحة. أنا أحب فتاة. ذهبتُ وخطبتها قبل الرحلة. قلت إذا وصلت حياً سأعمل على تأسيس مستقبلي هنا وسأرسل في طلبها.

> كنا في قصة لجوء وصرنا في قصة غرامية؟

– أنا لا أحكي إلاّ الصراحة. إنها فتاة سورية. سأريك صورتها لتعرف أنني لم أخطئ (أراني صورتها في الهاتف).

> هل يمكن ان ترجع الى سورية؟

– لا أريد العودة الى سورية على الإطلاق.

> وإن أقاموا كانتوناً كردياً؟

– وإن فعلوا ذلك… لو جعلوا سورية مذهّبة سأرفض العودة إليها. أعجبتني ألمانيا جداً. أريد الإستقرار فيها، أريد الحياة. بلادنا للخراب والموت والتعصب. هذه الصفحة انتهت. هنا نلمس ما نسمّيه الإنسانية.

> كيف كانت صورة ألمانيا لديك عندما كنت في سورية؟

– لم نكن نعرف عن ألمانيا سوى أنها أنجبت هتلر.

> والآن؟

– هذه دولة تحترم الإنسان وإن لم يكن إبن أرضها.

> وماذا تقول عن المستشارة أنجيلا مركل؟

– لقد سمّاها اللاجئون ماما مركل. هذا يكفي لوحده.

> لماذا لم تصطحب خطيبتك معك؟

– خفتُ ان يغرق المركب. أفضّل أن أموت أنا ولا أعرّضها للخطر. أنا على الأقل أجيد السباحة ويمكن أن أحاول النجاة.

> غداً إذا التقيت ألمانيّة جميلة ستنسى خطيبتك؟

– لا، أنا لست من هذا النوع.

> ما اسم شقيقك؟

– جفر خوين أي قلب الفدائي. وشقيقي الآخر اسمه جودي.

العراقي المتنكّر

> هل يمكن أن أعرف اسمك؟

– رجاء لا اسم ولا صورة.

> لماذا؟

– لأنني في وضع صعب.

> هل تشرح لي؟

– أنا لست سورياً لكنني تظاهرت بأنني سوري وجئت من تركيا إلى ألمانيا.

> لماذا تركت العراق أصلاً؟

– لأن الحياة هناك تحوّلت الى جحيم. ماكو أمان. ماكو كهربا. ماكو كرامة. عليك ان تختار بين العيش تابعاً في ظل «داعش» أو العيش ذليلاً في ظل ميليشيات «الحشد الشعبي». هذا يمكن أن يقتلك ويتّهمك بأنك كافر أو مرتد. وذاك يمكن أن يقتلك لأنه يعتبرك مشروع «داعشي». العراق خراب بخراب. ماكو دستور. ماكو قانون.

> لكن بلدكم غني؟

– كان غنياً، لقد نهبوه. لم يبق شيء. لو زرت العراق لشاهدت الفقر والعوز والحاجة. كان صدام حسين يبدد المال على بناء الجيش. هؤلاء يسرقون المال العام ويخضعون الجيش للميليشيات.

> هل أفهم أنك تحن إلى أيام صدام حسين؟

– لا. أعرف أنه كان ديكتاتوراً ومستبداً. لكنني أعتقد بأنه لم يخطئ في فهم نوايا إيران حيال العراق. ألم تشاهد صورة قاسم سليماني يرقص بين مسلّحي الحشد الشعبي؟ أنا لا أريد «داعش» على الإطلاق، لكنني لا أريد أيضاً أن تنصّب إيران حاكم العراق. لا أريد أبداً أن أعيش مواطناً من الدرجة الثانية.

> لماذا جئت إلى ألمانيا؟

– لأنني أريد الشعور بكرامتي. أريد أن أنام من دون الخوف من «داعش» أو الميليشيات. هل تعرف أنني لم أكن أجرؤ على السير في بعض شوارع بغداد التي كبرت فيها. يمكن ان يخطفك شخص يحمل بطاقة رسمية من الأمن. يقتلك ويرمي جثتك. هنا قد تكون الحياة صعبة لفترة لكن في النهاية سيكون لديك سقف تنام تحته. سيكون لديك تطبيب. لن تموت خوفاً من جارك لأنه ينتمي إلى طائفة كانت مستضعفة وصارت قوية تستضعف الآخرين.

> ألا تبالغ في تصوير الدور الإيراني؟

– دعني أقول لك أن فكرة سقوط الموصل بيد «داعش» كانت عبقرية. زوّدت التنظيم بترسانة هائلة. جعلت العرب السنّة متهمين بأنهم «بيئة حاضنة» للإرهاب. سهّلت شرعنة «الحشد الشعبي» ومكّنته من التوغُّل في الإرهاب والقيام بعمليات تطهير في الحزام السنّي حول بغداد. أما في سورية فإنها وضعت العالم أمام الخيار: إما «داعش» وإما الأسد. هذه ليست عبقرية أبو بكر البغدادي.

> ماذا ستفعل في ألمانيا؟

– هذا البلد لن يطردني. أنا مضطهد كالسوريين. لم يعد لي بلد. سأنام في الشارع إذا اضطررت. لن أغادر إلى أي مكان. وإذا أمكنني العمل سأكون سعيداً. هنا يمكن أن تذهب إلى عملك وترجع حياً الى مكان إقامتك. لا أخفي عليك. أريد الانتماء الى هذا العالم الذي يعيش في ظل القانون والمؤسسات. أريد قطع علاقتي بعالم العنف والتعصب والكراهية. لا أخفي عليك أنني أخطط ايضاً للزواج من ألمانية إذا تيسّر لي ذلك. أريد تأسيس جذور هنا كي لا أمضي العمر في البكاء على بغداد.

جاءت من بغداد

> هل يمكن ان نعرف اسمكِ؟

– اسماء.

> من أين جئتِ؟

– من بغداد.

> متى وصلتِ الى برلين؟

– قبل ستة أيام.

> كيف جئت؟

– عن طريق البحر. ذهبنا الى اسطنبول ومنها الى اليونان عبر قارب. كانت المعاناة رهيبة. رمى المهرّبون حقائبنا في البحر ومعها وثائقنا. ليس لدينا أي شيء. من اليونان الى مقدونيا فصربيا. احتجزونا خمسة أيام في هنغاريا في زنزانة. كان تعاملهم قاسياً. لا أكل ولا شرب. بعدها صعدنا في قطار الى النمسا ومنها إلى ألمانيا.

> لماذا تركتم بغداد؟

– لدينا طفل معوّق. ماكو علاج في بغداد. قيل لنا ان هذا الطفل يمكن ان يحصل على عناية في ألمانيا.

> من أي حي في بغداد جئتم؟

– من حي الاعلام.

> أنتم سنّة أم شيعة؟

– شيعة.

> الشيعة لا يتعرّضون حالياً للاضطهاد في العراق.

– العيش في العراق أصعب مما تتصور. لا أمان ولا خدمات. فضّلنا المخاطرة بالخروج على البقاء هناك. دفعنا للمهربين، لكننا وصلنا في النهاية إلى مكان آمن. رجاء لا تنشر لي صورة. تعرف أن تقاليدنا لا ترحب بذلك.

> هل يمكن ان تعودي إلى العراق ذات يوم؟

– لا.

> ألمانيا أفضل من العراق؟

– لا أريد المقارنة. لكن الألمان استقبلونا واهتموا بنا. العراق معاناة متواصلة.

3

«حرب تموز كانت لإنقاذ النظام… ودولة الأقليات لن تعيش طويلاً» «جاء الوحوش قتلوا الرجال والأطفال وأخذوا النساء للاغتصاب والبيع»

ذهبت إلى بوابة براندنبورغ. تذكرت أنني وقفت هناك قبل 26 عاماً حين تداعى جدار برلين فاتحاً الباب لتشييع الاتحاد السوفياتي إلى مثواه الأخير. كانت التغييرات سريعة وهائلة، بدلت المشهد الدولي وموازين القوى، وأكدت هزيمة معسكر ونموذج. خاف كثيرون أن تغرق أوروبا تحت ثقل الوافدين إلى قيمها ونموذجها. لم يقع الاضطراب الكبير. تمكنت المؤسسات الديموقراطية من استيعاب التحولات. لا يمكن أن ننسى هنا الانفجار الدموي اليوغوسلافي الذي انتهى على قاعدة الطلاق بعد زواج قسري دام عقوداً. وبين اللاجئين أنفسهم من يشِبه سورية بيوغوسلافيا، على رغم الفوارق، وبينهم من ينعت بلاده بأنها «الرجل المريض».

المؤسسات. المؤسسات. المؤسسات.

ذهب العربي إلى هذا العالم المتبدل عارياً من المؤسسات. شعر بعض قادة الشرق الأوسط بحقد شديد على ميخائيل غورباتشوف لأنه فتح النافذة فدخلت العاصفة. شعر بعضهم نحوه بالاحتقار. توهموا أن أجهزة الأمن يمكن أن تلجم إلى الأبد توق الناس إلى الحرية والكرامة والازدهار والخبز غير المشروط بالانحناء. توهموا أن الشعارات الكبرى يمكن أن تحجب إلى الأبد ممارسات التسلط والفشل الاقتصادي والأرقام المزورة للخطط الخمسية ونتائج الانتخابات.

كم يبدو الحي الأوروبي من القرية الكونية بعيداً عن الحي العربي المنكوب فيها. ورث الحي الأوروبي ثمار ما عاشه. الثورة الفرنسية والثورة الصناعية وأفكار عصر النهضة وفصل الكنيسة عن الدولة وازدهار الفلسفة الألمانية. ورث أيضاً دروس العيش في ظل المستبدين والمغامرين ودروس الحروب الكبرى وويلاتها.

حين تداعى الجدار كانت ألمانيا الغربية تعيش في عهدة رجل مديد القامة اسمه هلموت كول. خطف موافقة الخائفين من الوحدة وفتح صدر الشطر الغربي لألمانيا الشرقية التي ألقت نفسها في أحضان «الوطن الأم». يعيش الرجل الآن مع الشيخوخة ومتاعبها. هنا يأتي الحاكم ويذهب في انتخابات عامة أو اقتراع في البرلمان ومن دون أن تسبح بلاده في الدم. صاحب «الدور التاريخي» ينحني هو الآخر أمام الدستور ويذهب إلى مقاعد المعارضة أو التقاعد.

بعد ستة وعشرين عاماً على فتح كول بوابة براندنبورغ أمام الهاربين من ألمانيا الشرقية فتحت المستشارة أنجيلا مركل بوابات الحدود أمام الهاربين من ظلم بلدانهم والظلام الزاحف إليها. هذه الخطوة تاريخية أيضاً. خلال سنوات سيتغير النسيج الألماني. الوافدون، في معظمهم، من ديانة أخرى وثقافات أخرى. هذا يعني أن ألمانيا وافقت على أن تكون متعددة وملونة، والأمر يتخطى موضوع توفير أيد عاملة شابة، على رغم أهميته. تصرفت ألمانيا كدولة ديموقراطية مزدهرة وواثقة ورحبة، على رغم مخاوف أجهزة الأمن من تسلل الإرهابيين في صفوف اللاجئين، وجاذبية «داعش» لدى بعض أبناء الجاليات الإسلامية في أوروبا.

مؤلم مشهد اللاجئين الذين كابدوا أهوال الطريق بعدما اجتذبهم المغناطيس الألماني. لكن بينهم من يتحدث عن لاجئين من فئة خمس نجوم قياساً بما يعيشه اللاجئون الذين تكدسوا في مخيمات تركيا ولبنان والأردن. هذا من دون أن ننسى أولئك الذين غادروا ولم يصلوا لأن القوارب خانتهم بعدما خانتهم أوطانهم. أمام بوابة براندنبورغ تذكرت جثة الصغير إيلان ملقاة على الشاطئ التركي. هزت صورته مشاعر العالم وفتحت الأبواب أمام اللاجئين. لنترك المقارنات المحزنة لنتابع جولتنا وسط اللاجئين في هذه الحلقة الثالثة والأخيرة:

في ساحة مفوضية اللاجئين شاهدت شابين يحدقان بعيون زائغة. اقتربت منهما وسألت الأول عن سبب وجوده في هذا المكان. عاجلني برد غير ودي «ألم تتابع الأخبار؟». صباح عراقي إيزيدي من جبل سنجار. ما أصعب أن تكون عراقياً. وما أفظع أن تكون عراقياً من جبل سنجار. سألته أن يحكي لنا القصة فنظر إلى شقيقه حيدر كأنه يستغرب وجود من لا يعرف القصة. قال: «كنا نعيش في جبل سنجار. في المكان الذي عاش فيه أجدادنا وأجداد أجدادهم. فجأة وصل الوحوش (داعش). أحرقوا البيوت. قتلوا الرجال والأطفال وخطفوا النساء. ماذا تريدني أن أحكي لك؟ عن بيع الإيزيديات في المزاد أم عن تعرضهن للاغتصاب؟ قتل من قتل وهرب من هرب. لا يمكن العيش مع الوحوش».

قراءة معارض سوري

لم يأتِ المعارض السوري الخمسيني إلى ألمانيا ليهرم فيها. انه ينتظر. سيعود فور توافر بقعة «خارج بطش النظام وبطش التنظيمات المتطرفة». سيعود لاستئناف العمل ضد النظام الذي جرّب فظاعة سجونه. على رغم قسوة الوضع الحالي يحتفظ الرجل بتفاؤله. يقول: «النظام سقط في سورية منذ اللحظة التي هدم فيها السوريون جدار الخوف الذي شُيِّد على مدى عقود. أصيب النظام بالذعر حين رأى الشباب يتدفقون إلى الساحات. عاش النظام ثلاثة عقود مستفيداً من درس الترويع الذي قدّمه تدمير حماة، حيث قَتَلَ أربعين ألف شخص. كانت الرسالة واضحة. القتل هو مصير من يجرؤ على رفض النظام. بُنيت أجهزة الدولة والمؤسسات الأمنية على نتائج مجزرة حماة».

ويضيف: «حين رأى النظام مئات الآلاف يحتشدون في ساحة حماة نفسها أصيب بنوبة جنون. خاف من المشاهد المصرية، حيث نجحت الحشود السلمية في ميدان التحرير في خلع حسني مبارك. خوف النظام السوري مضاعف. الحشود في الميادين تذكّره بالحقيقة وهي أنه ممثّل لأقلية، وأن كل الانتخابات والاستفتاءات التي حاول استعارة الشرعية منها كانت مزورة. اتخذ النظام قراراً بعسكرة الثورة. بعض الأجهزة كانت تتعمّد رمي الأسلحة أمام الناس ليقول النظام لاحقاً أنه يقاتل مسلحين».

ويتابع: «النظام صاحب خبرة في تحريك الإسلاميين الإرهابيين. أرسلَ شاكر العبسي إلى نهر البارد في لبنان. أرسلهم إلى العراق بحجة مقاتلة الاحتلال الأميركي. نوري المالكي نفسه شكا من ممارسات الأسد في العراق، لكن إيران أرغمته لاحقاً على دعم النظام بالمال والميليشيات الطائفية. كان هدف النظام أسلمة الثورة وعسكرتها، ولا يمكن إنكار نجاحات حققها في هذا المجال».

ويزيد: «ما تراه اليوم في ألمانيا وأوروبا بفعل تدفُّق اللاجئين هو أول الثمن الباهظ الذي سيدفعه الغرب نتيجة امتناعه عن الضغط الجدي لإرغام الأسد على ترك السلطة. التذرُّع بهياكل الدولة السورية مجرّد وهم. لم يعد هناك دولة في سورية. دولة البعث ليست دولة أصلاً. إنها مجرد أجهزة لخدمة حزب وعائلة. لا الدستور دستور ولا القضاء قضاء. ارتكب باراك أوباما خطأ ستدفع أميركا ثمنه مضاعفاً. حصر اهتمامه باسترضاء إيران والتوصُّل إلى اتفاق معها. نجح الروس في خداعه حين وقع النظام في فخ استخدام الأسلحة الكيماوية. منذ تلك اللحظة تبين أن أوباما ليس مستعداً للتحرك جدياً لإزاحة بشار الأسد».

ويوضح: «الصورة سوداوية حالياً، لكن دعني أؤكد لك. لن يستطيع الأسد العودة إلى حكم سورية بكاملها. بقاؤه لسنوات يعني التمديد للحرب والإرهاب وزعزعة الاستقرار في المنطقة. الحديث عن «سورية المفيدة» يجب ألاّ يخدع أحداً. وجود الدويلة لن يدوم أكثر من بضع سنوات. لا التدخل الروسي ولا الدعم الإيراني يمكن أن يعيدا نظام الأسد إلى ما كان عليه. بقاء الأسد يمدد عمر «داعش» والتنظيمات المشابهة. ثم إن الحالمين بتغييرات ديموغرافية واهمون. لن ينتهي السنة في سورية. هل تعرف أن عدد السنة في الساحل حالياً يفوق عدد العلويين؟ ماذا سيفعل النظام بهم. ثم إن الذين يحاولون الآن الاستيطان في سورية وشراء العقارات سيسارعون إلى المغادرة فور تغير ميزان القوى».

ويقول: «تركيبة سورية لا تسمح أبداً بإلحاقها بإمبراطورية إيرانية. هذه دولة عربية. ساعدتني الأحداث، خصوصاً تدخل «حزب الله» في سورية، في فهم الأحداث السابقة. عندما وقعت «حرب تموز» في لبنان في 2006 كنت بين من عملوا بنشاط لإيواء النازحين اللبنانيين. مع تدخل «حزب الله» في سورية فهمنا أن تلك الحرب كانت تهدف فقط إلى خلط الأوراق وإنقاذ النظام السوري من ذيول انسحابه من لبنان، بفعل تداعيات اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري. كان النظام المنسحب يشعر باقتراب الأزمة، وكاد لبنان نفسه يفلت من الطوق الإيراني فأخذه الحزب إلى الحرب وقلَبَ المعادلات. خسر «حزب الله» صورته ورصيده لدى السوريين والعرب. خسائره في سورية تفوق خسائره في «حرب تموز». لقد اصطدم بكتلة راسخة وكبيرة. أخشى أن يكون موقف إيران و»حزب الله» الآن تأييد تقسيم سورية للاحتفاظ بجزء من أراضيها قاعدة خلفية للحزب. أنا لا أبالغ إذا قلت أن الأقليات، على رغم وجود مخاوف محقة لديها، ترتكب مغامرة قاتلة إذا تجمعت في دولة أقليات. لن تقبل الأكثرية ذلك وستكون الحروب طويلة ومدمرة. لن تستطيع الأقليات وأنا منها احتمال استنزاف طويل من هذا النوع».

ويختم متفائلاً: «لا أعتقد بأن التدخل الروسي سيصل إلى حد الاشتباك البري مع مسلحي المعارضة. تعرف روسيا أن ذلك سيفسر كأنه حرب ضد السنة. سيتقاطر إلى سورية مزيد من المتطرفين. في النهاية هذا النظام سقط وستساهم روسيا في البحث عن بديل».

مصير الأقليات

الشاب السوري المسيحي جاء قبل الموجة الحالية. لا يريد نشر اسمه ولا صورته «لأن عائلتي تقيم في باب توما ذات الغالبية المسيحية ويمكن أن تتعرض لمضايقات بسبب كلامي».

قال: «لا أستطيع العيش في ظل «داعش» أو «النصرة» ولا أقبل دفع الجزية أو معاملتي كواحد من أهل الذمة. أنا سوري وعربي أصيل. لا يحق لمسلح وافد من الشيشان أو غيرها أن يبدل وضعي ويستضعفني في البلاد التي عاش فيها أجداد أجدادي. لا يمكن إنكار أن سوريين يتعاطفون مع المتطرفين لكن نسبتهم قليلة. السوريون ولدوا في بلد متعدد وتشربوا المبادئ القومية».

وأضاف: «في الوقت نفسه لا أرى مستقبلاً آمناً للأقليات المسيحية في هذا الجزء من العالم. أنظر إلى ما حدث في العراق. سقوط فكرة العروبة حرم الأقليات من آخر حماية لهم. مشكلة المسيحيين هنا أنهم لا يحبون العيش في ظل الديكتاتورية وإن وفرت لهم الحماية الجسدية. ما لا يعرفه كثيرون هو أن أعلى هجرة في صفوف المسيحيين السوريين سجلت في عهد حافظ الأسد. لم يضطهد الأقليات لكنه كان يريدها تحت جناحه في مواجهة الأكثرية. التحالف مع الشيعة في لبنان يأتي في هذا السياق. محاولة تطويع الموارنة في لبنان تصب في الاتجاه نفسه. المشكلة أن النظام يقاتل إسلاميين ويتحالف مع إسلاميين. يقاتل إسلاميين سنة ويتحالف مع إسلاميين شيعة. إيران نظام ديني في الدستور ولها برنامج واسع في المنطقة».

وتابع: «في السنوات الماضية تزايد الهمس حول تحالف الأقليات. أعتقد بأنه على هذه القاعدة غير المعلنة تم اجتذاب العماد ميشال عون إلى موقع التحالف مع «حزب الله» والنظام السوري. تصريحات بعض السياسيين المسيحيين اللبنانيين الذين كانت تحرّكهم الأجهزة السورية تؤكد ذلك. انتقلوا فجأة من شعارات الممانعة إلى المطالبة بحقوق المسيحيين. في المقابل لا أستطيع أن أنسى الدور الذي لعبه رجب طيب أردوغان في إدخال كل أنواع المتطرفين والإرهابيين إلى الأراضي السورية. ساهم في مزيد من الخراب وتشرذم المعارضة المعتدلة وافتقادها القرار وانغماس من كانوا رموزاً في ممارسات لا تليق بمن يدّعي قيادة ثورة أو حركة تغيير».

وأضاف: «أقول صراحة. لم أشارك في الاحتجاجات لأنني أعرف طبيعة النظام في سورية. لم أكن أحلم بتغيير النظام بل بتطويره تدريجاً. كان يمكن للبنان أن يشكل متنفساً للمسيحيين السوريين لكن سياسييه، خصوصاً المسيحيين منهم، أضعف من هذه المرحلة. إبقاء مركز الرئاسة الوحيد للمسيحيين في هذه المنطقة شاغراً خطأ قاتل. أعتقد بأن المسيحيين السوريين سيهاجرون بهدوء في السنوات المقبلة. أنا تعلمت الألمانية وسأبقى هنا.

ناشط حقوقي

> هل يمكن أن نعرف اسمك؟

– طارق حوكان.

> هل يمكن أن نعرف أكثر؟

– أنا محامٍ وناشط حقوقي معارض. أنا من دير الزور ومكتبي كان في دمشق التي كنتُ أقيم فيها منذ فترة طويلة.

> متى تركت سورية؟

– في الشهر الثالث عام 2013. خرجتُ إلى القاهرة للمشاركة في مؤتمر. خلال وجودي هناك تلقيت اتصالات تنصحني بعدم العودة لأن جهاز الأمن ينتظرني. عرفوا بمشاركتي في أكثر من مؤتمر ونشاط، على رغم محاولتي إبقاء دوري غير معروف. داهم رجال الأمن منزلي. أنا لم أشارك في التظاهرات لكن في عمليات تنظيم. أحضرتُ أهلي إلى القاهرة.

في 20/6/2013 جئتُ إلى تركيا للمشاركة في نشاط للثورة. حدث التغيير في مصر ووُضِعت قيود على دخول السوريين فاضطررتُ إلى البقاء في تركيا. حاولتُ الذهاب إلى الأردن فأعادوني من المطار. فكّرت في التوجُّه إلى لبنان لكن الأخبار عن تسليم النشطاء السوريين إلى السلطات السورية جعلتني أصرف النظر.

> متى جئت إلى ألمانيا؟

– قبل خمسة أيام. أمضيتُ 20 يوماً بين أزمير وبودروم تخلّلتها ست محاولات للمغادرة. في النهاية غادرتُ من بودروم في قارب. في اليونان حاولتُ استخدام وثائق رومانية مزوّرة للمغادرة بالطائرة لكنهم أمسكوا بي على باب الطائرة؟ كلفتني هذه المحاولة نحو 1800 دولار. عندها قررتُ المغادرة براً.

جئتُ في زورق سريع. حوالى ساعة ونصف الساعة من بودروم إلى جزيرة كاليمنوس اليونانية. الرحلة مخيفة. دفعتُ ألفي دولار. المهرّب المباشر يكون سورياً أو عراقياً، لكن، وراءه بالتأكيد مهرّب تركي يشتري الزورق ويحدد مكان الانطلاق. المهرّب المباشر كان اسمه «أبو (كذا) الحمصي».

> كم كنتم في الزورق؟

– نحو 20 شخصاً.

> من قاد الزورق؟

– رجل يوناني. هذا الزورق يحتفظون به لأنه ليس مطاطياً. أنزلنا في مكان غير مأهول. تسلقنا ثم مشينا نحو ست ساعات. أمضيتُ تسعة أيام في الجزيرة ثم حصلنا على الورقة التي تسمح بالتوجُّه إلى أثينا. كنا نحو ألف لاجئ في الجزيرة وتولى موظّفان معالجة هذا الجمع.

مكثتُ خمسة أيام في أثينا. صعدتُ إلى باص نحو الحدود المقدونية ودخلتُ سيراً على الأقدام. لم أشعر بالترحيب باللاجئين إلا حين وصلتُ إلى فيينا. في النمسا اختلف التعامل. من فيينا أعدّوا قطارات مجانية إلى ألمانيا.

المحطة الهنغارية تستحق التوقف عندها. غادرت بلغراد إلى منطقة الحدود وكان وجود الحرس الهنغاري كثيفاً. كانوا يستخدمون الشدّة لمنع الناس من الدخول. سرنا في الغابات في رحلة صعبة. منعتْ الشرطة وجود السيارات في المنطقة، فاضطررتُ للسير نحو 18 كيلومتراً حتى عثرتُ على سيارة أنا وعائلة. دفع كل فرد 300 دولار للوصول إلى ضواحي بودابست. مشاعر الناس لم تكن جيدة. سألني السائق لاحقاً من أنا، فقلت إنني لبناني كي أخفف من عدائيته. هناك تجييش ضد اللاجئ السوري. في هنغاريا تصعد إلى القطار على أساس أنه مجاني ثم يصعدون ويرغمونك على الدفع. تشبيح.

من فيينا توجّهنا إلى ميونيخ ومنها إلى برلين مباشرة. وصلتُ في 11 أيلول (سبتمبر).

> هل ترجع إلى سورية؟

– بلا تردد.

> في أي ظروف.

– فور العثور على مكان لا سلطة عليه لآل الأسد أو الكتائب الإسلامية.

> إذا أُعلِنت منطقة آمنة تذهب؟

– شرط ألا تكون الكتائب الإسلامية المسلّحة على الأرض. أنا مستهدف من النظام لأنني معارض ومستهدف من الإسلاميين لأنني علماني وديموقراطي.

> ألم تكن لك علاقات مع حزب البعث؟

– لا، أنا معتقل سابق. اعتقلوني في 1983. كنت طالباً في رومانيا ولدى عودتي إلى مطار دمشق اعتقلوني ومنعوني من العودة لإكمال دراستي في الهندسة. سجنوني في أمن الدولة – الفرع الخارجي لمدة سنة وتسعة أشهر.

> هل تعرضت للتعذيب؟

– طبعاً، كان التعذيب محدوداً لأن أحد أقاربي كان عسكرياً برتبة عالية. خدمتُ لاحقاً ثلاث سنوات في الجيش وبعدها درستُ الحقوق وانتسبت إلى نقابة المحامين.

> هذا يعني أنك جربت السجن؟

– هل هناك سوري لم يجرّبه؟ أعتقد أن كل عائلة سوريّة دخل فرد منها السجن، ومن لم يدخل يشعر وهو في الخارج أنه يقيم في السجن. سورية بكاملها معتقل كبير. معتقل وليست سجناً، ذلك أن السجن تحكمه قواعد مبدئياً.

> هل فوجئت باندلاع الاحتجاجات في سورية؟

– لا، كنا نتوقع أن يثور الناس. بعد الذي حدث في مصر شعرنا بأن المسألة صارت وشيكة. توقّعنا تجمّعات كبيرة في ساحة الأمويين. حصل سيناريو آخر. طبعاً لم نتوهّم أن النظام سيحترم إرادة الناس. دفع الجيش إلى القتل وحوَّلَهُ عصابة. الجيش وُضع في خدمة عائلة وليس في خدمة سورية.

لم أُفاجأ بسلوك النظام. فوجئتُ بسلوك «حزب الله» وأعترف بأنني كنتُ ساذجاً. في حرب 2006 كنتُ أحد الناشطين في إيواء النازحين اللبنانيين. لديّ خيبة كبيرة من الطريقة التي رد بها الحزب الجميل إلى السوريين. عمليات التطهير المذهبي معيبة فعلاً. أنظر إلى ما يجري في الزبداني وغيرها.

> هل يمكن أن تقوم دولة للأقليات في سورية؟

– نعم ولكن لفترة محدودة جداً. سنة أو اثنتان وليس أكثر. ربما أكثر من دولة. واحدة للعلويين في الساحل، وربما كانتون لكل من الأكراد والدروز. لكن ذلك سيكون مرحلياً وقصير الأمد.

أعتقد بأن العرب خانوا الثورة السورية لأنهم سمحوا للنظام وحلفائه وربما بعض خصومه بتحويلها إلى حرب أهلية. أسلمة الثورة كانت نهاية الثورة التي اعتبرناها ثورة حرية وكرامة.

> هل سترجع سورية موحدة؟

– للأسف هناك صعوبة كبيرة في العودة إلى ما كان. لا مصلحة لعدد من الدول وبينها إيران.

> هل لديك خيبة من المعارضة؟

– خيبة كبيرة. قيادة المعارضة كانت أصغر بكثير من الثورة.

> هل تخاف أن تهرم في المنفى؟

– أخاف أن أموت خارج سورية.

> مطلبك أن تموت في سورية؟

– نعم. أخاف أن أمرض وأن لا أعود إلى سورية. أنا رجل عازب.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى