أكرم البنيصفحات سورية

الوطن السوري وذكرى الاستقلال/ أكرم البني

 

 

تتألم مرتين عند الحديث اليوم عن الوطن السوري، مرة أولى، من هول وفظاعة ما فعله معول العنف من هدم وتخريب في البنية الوطنية، يتعدى صور الدمار المفزعة وأعداد الضحايا والمعتقلين والمشردين، لينذر بانهيار منظومة القيم الجامعة وأسس العيش المشترك.

والحال، حين يندفع الصراع الدائر إلى صراع وجود، وتتنامى الاستقطابات الثأرية والإقصائية، ويتحول الشعب الواحد إلى فئات وجبهات متنابذة، فأي معنى يبقى للوطن؟ وحين تنتشر الأفكار السياسية ذات الطابع الديني وتتقدم الشعارات الإسلاموية على حساب شعارات الحرية والمواطنة والكرامة وتتمكن بعض القوى المذهبية من تطييف الصراع وجرّه إلى مجال ما قبل سياسي، أفلا يغدو الحفاظ على العقد الاجتماعي مهمة صعبة ومعقدة؟ وحين تتحول الدولة من سلطة عمومية لإدارة مصالح مختلف الفئات إلى أداة لحماية الحكم وتمكينه، وتتعرض أماكن السكن والعمل للتدمير، وتحاصر مدن وأرياف محددة ويجرى الضغط على حاجاتها وخدماتها وشروط معيشتها، فأي حافز يبقى للانتماء الوطني وللثقة بدور الدولة ومؤسساتها؟

والمرة الثانية، لأن سورية التي كان أبناؤها يفخرون بأنها الرائدة في كفاحها الوطني وأول بلد عربي حاز استقلاله، وبأنها كانت في طليعة المناصرين للقضية الفلسطينية ولعبت دوراً مؤثراً في شؤون المنطقة ومواجهة المخططات والأحلاف الغربية، أصبحت اليوم مسرحاً لتدخلات خارجية تتناغم مصالحها في إدامة القتال والعنف وفي شحن التطرف والتطرف المضاد إلى آخر مدى.

لقد أفضى تصاعد العنف وتسارع التدهور الاقتصادي والاجتماعي والإنهاك الذي أصاب الأطراف المتحاربة، إلى استجرار دعم خارجي غير مسبوق، وإلى تحويل الصراع السياسي الداخلي بين المطالبين بالتغيير وبين حماة الوضع القائم، الى صراع ذي بعدين، اقليمي ودولي. وللأسف مثلما يبدو النظام غير قادر على إدارة حربه من دون الدعم الإقليمي والدولي وعلى كل المستويات، فإن المعارضة تبدو أيضاً عاجزة عن الاستمرار والمواجهة وتعديل حضورها من دون إمداد اقليمي ودولي، هذا عدا عن الحضور المتنامي لمجموعات غريبة تأتي من كل حدب وصوب وتجد في انفتاح الصراع السوري فرصة ثمينة لتنفيذ أجندتها المتطرفة وتطبيق ما تعتقده شرع الله على الناس من دون أدنى اعتبار لحقوقهم وحرياتهم وخياراتهم.

وبين أنّات الألم، تسمع من يترحم على أيام الاستعمار غامزاً من قناة حقوق الانسان وقتئذٍ، وأنها لم تصل على يد الأجنبي إلى هذا الحد من الانتهاك والاستباحة، مثلما تسمع من يتحسر على زمن الأمن والأمان، ما قبل انطلاق الثورة، أمام بشاعة ما حصل ويحصل من فوضى وارتكابات.

الوطن ليس استقراراً وأمناً مذلّين تكرسهما قوى القهر والاستبداد، بل هو وطن الحرية والكرامة. فالاستقرار المتحقق من وصاية سلطة على المجتمع ومن قمع مكوناته ووأد خلافاته هو استقرار ظاهري موقت، لا يلبث أن ينفجر عند أول امتحان، بدليل ما ذهبت اليه أوضاعنا الراهنة، مثلما أن الانتماء الوطني ليس مجرد عواطف وشعارات وأناشيد حماسية، بل هو روح إنسانية تستمد قوتها من شعور البشر بالعدل والمساواة ومن ثقتهم بأن حقوقهم في وطنهم مصانة ولا يستطيع أحد أياً كان التعدي عليها، كما أن الاستقلال لا يتحقق فقط بطرد المحتل. فجلاء المستعمر هو عتبة الإقلاع لتشييد مجتمع قادر على النهوض والتطور ومواجهة التحديات، والقصد أن المعنى الحقيقي للاستقلال يتأتى مما درجت تسميته بالاستقلال الثاني الذي يكرس قيم الحرية وبناء دولة المواطنة الديموقراطية، وصار عنوان الربيع العربي، والطريق المجربة للنهوض بمجتمعاتنا المأزومة، وبناء أوطان معافاة تحفز القوى الاجتماعية والسياسية على تجاوز حساباتها الضيقة وتجعل الانتماءات الطائفية والإثنية هي الأضعف والأقل حضوراً أمام انتماء أقوى وأرقى هو الانتماء إلى الوطن.

صحيح أن الدولة السورية لا تزال حديثة العهد، ولم تتبلور في المجتمع منذ استقلاله، هوية قوية جامعة تستند إلى عقد ديموقراطي يعترف بخصوصية مختلف المكونات ويضمن حقوقها، وصحيح أن السلطات المتعاقبة، وبخاصة الاستبدادية منها، ساهمت في تشويه الهوية الوطنية والانتكاس بالمجتمع إلى هويات تفكيكية ما قبل مدنية، متوسلة أساليب القمع والتمييز والروابط المتخلفة، الطائفية والعشائرية، وصحيح أن المد السياسي الديني حفر عميقاً في المجتمع السوري المأزوم وباعد بين ثقافات طالما تعايشت وتسامحت مع بعضها، ليغدو أمراً مألوفاً ظهور استقطاب طائفي وعرقي يفرق بين السوريين وفق الانتماء القومي أو الديني أو المذهبي، لكن الصحيح أيضاً أن السوريين في ريعانهم هم من أفشل مشروع الاستعمار الفرنسي بتقسيم بلادهم إلى خمس دويلات، وحافظوا عليها كياناً واحداً تحت الانتداب، وصولاً إلى الاستقلال، وهم الذين عززوا دولتهم الموحدة وبلوروا في حضورهم الجغرافي والاجتماعي شخصية وطنية جامعة، متجاوزين حتى ما أظهروه من ميل وتعاطف قوميين وحنين إلى دولة عربية واحدة بعد اندفاعهم السريع لإقامة الوحدة مع مصر، وهم الذين تمكنوا في محن سابقة من الحفاظ على تماسكهم، وسارعوا ما إن مرت السنون العجاف إلى العض على الجراح وتجاوز ما حصل من عنف ودماء لتأكيد تعايشهم في إطار وحدتهم الكيانية والسياسية، وهم أنفسهم الذين توحّدهم معاناة قهر مشتركة في بلدان اللجوء، مثلما يوحّدهم القلق من حاضر غامض ومن مستقبل مفتوح على الأسوأ، حيث لا حلول عملية مرتقبة توقف دوامة العنف وتضع البلاد على سكة المعالجة السياسية، طالما أن النظام يستمر في خياره العنفي حتى آخر الشوط، وتعجز المعارضة السياسية عن تجاوز ضعفها وتشتتها، ولا يجدي التعويل على توافق أممي يخرج البلاد من محنة طال أمدها.

وأن نضع جانباً تشاؤم العقل، فإن تفاؤل الروح يمنحنا بعض الأمل برسوخ الوطن السوري بفضل ذخيرة شعب مشبعة بالتسامح والتعايش، ولعله لم يكن صدفة، تلازم شعارات الحرية والمواطنة والكرامة، منذ انطلاق الثورة، مع شعار واحد واحد، الشعب السوري واحد!

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى