صفحات العالم

الولايات المتحدة في ظل ترامب: زمن ما بعد الوقائع/ حسن منيمنة

 

 

تشهد الولايات المتحدة مع اقتراب تولي دونالد ترامب منصب الرئاسة ظاهرة خطابية سياسية وثقافية تبدو غير مسبوقة في الذاكرة المعاصرة، وتصل بالمواقف والسرديات إلى حد الفصام.

فالخلاف ليس بين جانبين يلتزم كل منهما رأياً مختلفاً في قراءته المعطيات، بل في الصياغة والاعتماد لجملة المعطيات نفسها، أي أن ما هو حقائق ووقائع ومسلمات لدى طرف، هو أوهام وأكاذيب وأضاليل لدى الآخر. وأن تكون هذه الظاهرة سمة الهوامش الثقافية هو أمر معتاد، لكن أن تكون الصفة الغالبة على الحوار السياسي فأمر مقلق. أما أن تصل هذه الظاهرة إلى موقع الرئاسة وأن تشغله بالكامل فأمر خطير ذات تداعيات أكيدة.

من المفترض عقب الانتخابات الرئاسية، وفق النص والعرف في الولايات المتحدة، أن يكمل الرئيس الحالي ولايته فيما ينشغل الرئيس المنتخب بالتحضيرات الانتقالية. هذا على افتراض ما هو معتاد من أن الرئيس المنتخب ذو كفاءة وأهلية يدرك معها صعوبة المهمات الملقاة على عاتقه.

أما الحال اليوم فمختلف، فالرئيس المنتخب، المنعدم الخبرة والاطلاع، يفضل أن يتبوأ المنصب العتيد على الفور، وإن إعلامياً، فينشط في خطوات استعراضية جوفاء فيما يوافق من في فريقه للتوّ أو من يسعى إلى استرضائه طمعاً بالتعيين، على أن العدم الآتي من ترامب هو إنجازات متراكمة تكشف عن عظمته.

والمعضلة مع ترامب أنه يضع متابعة الشؤون الأميركية أمام خيارين كلاهما حافل بالإشكال. فإما أن يكون المنطلق في أي مراجعة لسياسات الولايات المتحدة التنبيه إلى أن من يتولى القيادة فيها رجل مستهلك بذاته، اعتباطي بقراراته، سوقي بمفرداته وسلوكياته، غير قادر على التفكير إلا أهوائياً، مع ما يصاحب هذا التنبيه من نبرة سجالية، أو أن يصمت التعليق عن الإشارات التي من هذا النوع فيساهم في تطبيع الحالة الشاذة القائمة، والتي تجد شخصاً في عيوب ترامب في الموقع الأول من حيث القوة والنفوذ في العالم، وفي الإيحاء المضلل بأن ما يقدم عليه هذا الرجل قد يكون في سياق دهاء مبطن لم يفطن له أحد بعد.

فالخلاف في شأن ترامب، والذي يرى فيه البعض البطل الناقض للرتابة والفساد، فيما يراه البعض الآخر شطحاً ينقض العقل والمنطق ويشكك في نجاعة النظام السياسي في الولايات المتحدة برمّته، هو النموذج الأقصى عن حال الانفصام الثقافي الذي يستفحل في الولايات المتحدة.

وهذا الحال، من حيث المادة والشكل، ليس بالجديد. فالحوار الثقافي في الولايات المتحدة لم يكن يوماً قائماً على الإجماع والتوافق في شأن الرؤى والحلول، ولكنه كان دوماً مبنياً عل اتفاق الغالبية العظمى على تحديد مواضيع الخلاف. فالموضوع الخلافي في الشأن الاقتصادي هو في تحديد دور الدولة، تضييقه أو توسيعه، في توجيه اقتصاد السوق ورسم معالم السياسة الضريبية. أما في الشأن الاجتماعي فالخلاف هو حول الحريات الجسدية والجنسية، أي الحق في الإجهاض والمثلية، وكذلك حول الرعاية والمسؤولية، هل هي محلية أو اتحادية. وبما أن الرئيس، بعد فوزه، هو رئيس للجميع، فإن التوقع والواقع في السجل التاريخي المعاصر، كانا يقومان على أن الرئيس يسعى فور فوزه إلى التموضع الوسطي إلى حد ما ليتمكن من استقطاب كل التوجهات، وإن خطابياً. وهذه الوسطية التلقائية لا تعني بالطبع التخلي عن المواقف التي فاز الرئيس بمنصبه على أساسها، لكنها تمنح المواقف المتعارضة الإقرار بحسن النوايا، وتحافظ بالتالي على وحدة المواطنة الجامعة.

أما ترامب، فعلى رغم تلاوته ما هو بوضوح كلمات أعدّت له لإظهاره بمظهر القادر على جمع الشمل الوطني، وعلى رغم تأكيداته التي لا ترتقي إلى أكثر من الدعوة إلى التسليم له بأنه هو الجامع المانع، الواحد الموحّد، مهما بدا منه من كلام وأفعال تناقض الزعم على الفور، فإنه بوضوح جلي، عاجز عن الارتقاء إلى الوسطية الخطابية. وعجزه هذا يطلق العنان لاستفحال التجاذب، فيما غالبية الإعلام والسياسة والفكر في الولايات المتحدة غير مهيئة لتصريف ظاهرة مثل ظاهرته.

ففيما هذا الرجل، المفترض أن عليه التحضير للمسؤوليات الجسام، ينشغل بالتغريد بالشتائم، والانتقاص من مسرحية ما، وبرنامج ما، ونقابي ما، ويعيد تغريد رأي متهافت صادر عن مراهق ما، فإن الولايات المتحدة تشهد تباعداً في الإنتاج والاستهلاك الإعلامي على أكثر من صعيد. فالمؤسسات الإعلامية المقدّرة ليست لديها الأدوات النقدية للتعامل مع حالة ترامب الغريبة، بل هي تجنح تلقائياً، في توخي الموضوعية والحيادية وخشية الاتهام بالحزبية، إلى افتراض التكافؤ بين شذوذ ترامب ومواقف من سبقه وجاوره من السياسيين. وهذا بحدّ ذاته من التطبيع الذي يستنزف صدقية هذه المؤسسات في أوساط الجمهور الساعي إلى العقلانية، من دون أن يكسبها الجمهور المنغمس في الأهوائية.

ومن التكافؤ الكاذب، الإصرار على الإشارة إلى الأهوائية في كل من جانبي الاصطفاف السياسي والعقائدي. فالتقدميون والديموقراطيون ليسوا أبرياء من الأهوائية طبعاً، والمحافظون والجمهوريون ليسوا أسرى لها في معظمهم. لكن الأهوائيين يتجمعون بالدرجة الأولى عند أقصى صف اليمين الجمهوري، حيث تمتزج نظريات المؤامرة بالغيبيات والعنصرية والصلافة. فيصبح الكلام مثلاً، مع الغياب التام للوقائع والمعطيات، من صنف أن هيلاري كلينتون ومن معها يديرون شبكة دعارة للأطفال تتعاطى لحوم البشر في إطار طقوس شيطانية. ويمسي الاعتراض على هذا التيه بحد ذاته مؤامرة ومسعى إلى منع تقصي الحقيقة وحرية التعبير. فالمطلوب من الإعلام ألا ينتقد، وإن انتقد، فهو محارب مخادع وجزء من المؤامرة. ولا يبدو ترامب نفسه بعيداً من هذه الأجواء.

فالجديد هو الوهن في المنطق واللياقة عند رأس الهرم، وإلا فهي عودة إلى حروب الثقافة التي استعرت في التسعينات، قبل أن تنحسر وتستتر مع احتدام الحرب على الإرهاب. وحروب الثقافة تعكس تحولات بنيوية في المجتمع والاقتصاد كما في إنتاج المعرفة واستهلاكها. وهي بالأمس أتاحت المجال أمام قدر من العنف وقدر من الاحتقان، لكن الطبقة السياسية كانت مجتمعة على ضرورة ضبط الوضع. أما اليوم، فالتجاذب من دون وازع، والرئيس المنتخب، بعيوبه التي لا تحصى، جزء من المشكلة لا جزء من الحل.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى