مراجعات كتبهيفاء بيطار

الياس مرقص في سيرته الفكرية.. يحرّك التاريخ/ هيفاء بيطار

ليس من السهل إيجاز كتاب عدد صفحاته 850، والأهم أن كاتبه المفكر والفيلسوف السوري الياس مرقص، هي سيرة شفهية سجلها الراحل على أشرطة كاسيت، وهو على فراش المرض، فقام بتسجيل أفكار الفيلسوف العبقري، ثلة من أصدقائه خصوصاً طلال نعمة، ولكن تم تفريغ وكتابة هذه الأشرطة بعد سنوات طويلة من تسجيلها. وصدرت الطبعة الأولى عن دار الحصاد نهاية العام 2012 وبعدد محدود جداً (ويصدر قريباً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بتقديم صقر أبو فخر)، وكان لي الحظ أن أحظى بنسخة من الكتاب بحكم صداقتي مع أسرة الياس مرقص.

أن تقرأ لمفكر من وزن الياس مرقص يعني أن تستنفر كل قواك وأن تبقى بحالة استعداد تام، وأن تقبل سلفاً الهزيمة، تشعر وأنت تقرأ له بأنه يُحرك التاريخ.

أذهلني توقّد ذهن الياس مرقص وهو على فراش المرض، متألماً ومُكابراً، يستحضر كل حياته وطفولته وسنوات شبابه وعمله الصحافي وأسفاره، ولا ينسى اسم أحد من الكتّاب والمفكّرين الذين عمل معهم والتقاهم، ويتحدث عن فلاسفة التاريخ وحكامه ببساطة وغنى معرفي وتحليل منطقي مذهل.

يؤمن الياس مرقص بوجود سلاح وحيد يملكه الإنسان هو الفكر، أو العقل إن شئنا، وعلى العالم أن يتجه أكثر فأكثر إلى إنتاج الذكاء، وأن تكون المناهج التعليمية أميل إلى تحريض التفكير والإبداع لدى الأجيال الناشئة بدل التلقين، ويقول: لو كانت برامج التعليم بيدي في العالم العربي لجعلت كل المواد التعليمية من الابتدائية إلى الجامعة مُجيرة لقضية واحدة: الفكرة والتحليل.

لا يرحم الياس مرقص المثقف العربي بل يحمله جزءاً كبيراً من تخلف المجتمعات العربية حين يقول: «إذا كنا نريد تطور الشعوب العربية، فيجب أن نبدأ من المثقفين، والشيء الذي يجب أن نستبعده هو المثقف المملوكي، وأقصد بالمملوك السيد العبد أو العبد السيد، هذا النموذج الذي هو سيد على الضعفاء وسلطان عليهم وعبد أمام القوي».

ينتقد الياس مرقص المفردات التي نستعملها دوماً بطريقة ببغائية وبعيدة عن المنطق، مفردات تكلست مع الزمن وتجمدت معها عقولنا، نستطيع أن نذكر عشرين كلمة صارت في قاموسنا وعقولنا منذ 50 سنة هي المفاتيح الرئيسة لكل عملنا من أجل أن نرى العالم وأن نرى الواقع، نحن لم نفحص وندقق في تلك الكلمات حتى، ثورة يجب أن نصفق، جماهير يجب أن نصفق، استعمار يجب أن نشتم، إمبريالية يجب أن نشتم.

لا يسعني الإحاطة بكتاب هو عصارة فكر الياس مرقص، بدون مُبالغة، تشعر بأنه يحرك التاريخ ليجعلنا نفهم حاضرنا أكثر وبدون أوهام وعصبية بحسب قول هيغل «الإنسان عدو ما يجهل»، علينا أن نفهم كل ما حصل في التاريخ ويحصل فهماً موضوعياً حقيقياً كي ننجو من مستقبل مظلم. يخشى الياس مرقص على البشرية من أن تعود إلى عهد العبودية، يخشى أن تحصل انتكاسة في نهاية القرن العشرين، ونعود إلى البربرية الأولى حيث كان الإنسان يأكل لحم أخيه الإنسان، لقد لعب الدين والحضارة دوراً رئيساً في انتشال الإنسان من الحيوانية والبربرية والغريزية، والعبودية كانت تقدماً كبيراً بالمقارنة مع أكل لحوم البشر. وقد قامت حضارات كثيرة على الرق والأضاحي البشرية، إلى أن وصلت البشرية إلى الديموقراطية والتحدث بحقوق الإنسان، لكن ما يحصل اليوم مُرعب ومخيف. إن البشرية على مُفترق طرق في مصيرها ومستقبلها. ومن حق الشباب العربي أن يتنور بكتب مفكرين عظماء كالياس مرقص وأمين معلوف في كتابه الرائع «انحطاط العالم».

وأخيراً، كم أحس بالإحباط والخزي كون فكر الياس مرقص لم يُدرَّس في جامعات سوريا والعالم العربي. «السيرة الفكرية» كتاب مُذهل يستحق أن تُخصص له ندوات ومؤتمرات، لأن لا حل لتخبط البشرية وجنون العنف والقتل والتعصب سوى بثورة أخلاقية فكرية يقدمها لنا مفكر موسوعي عظيم: الياس مرقص.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى