صفحات الناس

اليرموك: نساء يهزمن الحصار

متولي أبو ناصر

 تتوالى الأخبار عن مبادرات واتصالات تهدف لتحييد المخيمات الفلسطينية في سوريا عن المعارك. وبين المبادرات السياسية والمعارك التي لا تتوقف، تعلو الصرخات من داخل مخيم اليرموك اعتراضاً على ما يتعرض له السكان من حصار. حصار لا يبدو أن هناك من هو قادر على التحايل عليه، باستثناء نساء يخاطرن بحايتهن يومياً لتأمين قوت عائلاتهن.

 ام محمد، احدى القاطنات في المخيم، لم تستطع التجاعيد التي تعلو وجنتيها، ولا مرض التهاب المفاصل الحاد الذي يصيب ركبتيها، ثنيها عن الخروج كل صباح من المخيم لتحضر الخبز لأحفادها، منذ أن فرض النظام السوري حصاره على مخيم اليرموك والمنطقة الجنوبية لدمشق.

 “ستة أيام حصار كامل، ومن لم يمت من القصف والقنص سوف يموت من الجوع، نحن الكبار نتحمل بس أولادنا الصغار بدون خبز ما بعيشوا”. هكذا وصفت ام محمد، التي أصبحت هي المسؤولة عن تربية أولادها بعد استشهاد زوجها في حصار بيروت، معاناة عائلتها. وتضيف “رحت على ساحة الريجة لأشوف إذا فتح الطريق، لقيت كثير نسوان ورجال بس بدن خبز عالأقل لأولادهم. العدد كان بالمئات وفي ناس بين الحارات عم تنتظر تفتح الطريق، تشجعنا ومشينا من الريجة باتجاه الجسر، ونحن بالطريق مستغربين ليش القناصة ما طخوا علينا، ولو طخوا اتفقنا نكمل نجيب خبز وأكل لأولادنا”.

 تكمل ام محمد بلهجتها الفلسطينية وصف ما تكبدته أثناء محاولتها التحايل على الحصار للحصول على الخبز قائلةً: “كان منظراليرموك مرعباً بعد الدمار الجديد بالحملة الأخيرة، لما وصلنا عند حلوة زيدان فتحوا الرصاص قدامنا وصاروا يطخو جنبنا، وصاروا القيادة العامة يحكولنا من وراء حيطان حلوة زيدان ارجعوا لورا، وهاي آخر مرة تشوفوا أول المخيم فيها، والمرة الجاي إذا بتطلعوا ما بترجعوا الا على التربة ويا ويلو اللي بقطع ساحة الريجة من اليوم وطالع”.

 تهديدات لا تبالي بها كثيراً أم محمد على غرار باقي نساء المخيم، اللواتي يستيقظن في الخامسة صباحاً من كل يوم ويتجمعن عند ساحة الريجة لمحاولة تدبير الخبز. ام محمد تعلم جيداً أنها أثناء قطعها “مسافة الموت” خلال محاولة تجاوزها تلك المئة متر لتصل من الساحة الى حاجز الأمن السوري قد تخذلها قدماها، أو قد تصاب برصاصة قناص لا يفرق بين حامل السلاح وبين أم تحاول العودة برغيف خبز.

 وبعد أن تتجاوز أم محمد الحاجز وتتوقف مع باقي النسوة عند مقر حلوة زيدان الموجود عند بوابة اليرموك، تبحث عن حصيرتها التي تركتها البارحة مثلها مثل كل النساء، اللواتي يخرجن ويدخلن الى المخيم واللواتي يعلمن كيف يحاربن الحصار.

تقول فاطمة، وهي العكاز الذي تستند الحاجة أم محمد عليه أثناء “مسيرة الموت”: “حصيرة، أو حرام عتيق، أو أي مديدة توضع على الأرض كفيلة بكسر الحصار المفروض علينا منذ أكثر من ستة أشهر”.

 في البداية لا يستطيع المرء أن يفهم ضحكة فاطمة التهكمية التي تصاحب كلماتها البسيطة، إلا أنّ المشهد عند حاجز الأمن السوري وحاجز أمن القيادة العامة، يوضح مغزى تلك الضحكة الساخرة المليئة بالتحدي.

 بمجرد أن تجاوزت النسوة حاجز الأمن، خاطبت أم محمد فاطمة قائلةً: “يلا يمّا روحي جيبي الأغراض وأنا بستناكي هون، متنسيش الملوخية ها، ولا تجيبيها مقطوفة علشان نتسلى فيها ونحن واقفات على الدور”. وهنا تظهر أهمية هذه الحصيرة القديمة، عندما ترى منظر النساء الجالسات عليها بانتظار السماح لهن بالعودة إلى منازلهن. مجموعة تقطف الملوخية، وأخرى تعمل على فرز حبات البازلاء، وأخرى تقطع الباذنجان والبطاطا. وبعض النساء الأخريات فتحن أكياس العدس المجروش أو البرغل التي أحضرنها من منازلهن وبدأن بإخراج الشوائب منها.

 الطبخة خلصت، هكذا تقول إحدى النساء بعدما اقترب دورها لدخول المخيم. تضع حبات البطاطا المقطعة في الكيس وتتجه نحو رجل الأمن، الذي يقوم بتفتيش دقيق للأكياس. يفتح الكيس الأول ويعد أرغفة الخبز الموجودة؛ واحد، اثنان … سبعة. يصل الى هذا الرقم ويرمي كل الأرغفة الزائدة التي بعده. تخاطبه المرأة لثنيه عن فعلته، مؤكدةً أنها لا تستطيع الخروج من المنزل غداً فزوجها مريض. وفي نفس اللحظة تخاطب نفسها “لعمى كيف نسيت أعطي الأربعة أرغفة الزائدة لجارتي علشان تفوتهم، ما أحمرني”. ورغم علمها أنها مخطئة لم تسكت لرجل الأمن بل علا صوتها أكثر “يا حبيبي والله هيك ما بصير، كلهم أربعة أرغفة خبز”. حينها يأتي شاب من عناصر القيادة العامة ويصرخ في وجهها “يلا فوتي وبلا حكي كتير”. تصمت المرأة هنا لعلمها أن هذا الشاب لن يتردد في إذلالها إذا ما رفعت صوتها أكثر. وقبل أن تهم بالدخول تحدث مشكلة بين امرأة أخرى وأحد رجال الأمن، فيقرر هذا الأخير أن الدخول الى المخيم ممنوع بسبب وجود اشتباكات.

 تمر الساعة الأولى والثانية ويبدأ الظلام بالهبوط. النساء بدأن برفع أصواتهن أكثر؛ نريد الدخول الى بيوتنا، عندنا أطفال يجب إطعامهم. “يا أولاد الحلال ما عندكم أطفال”، تقول إمرأة لأحد شباب القيادة العامة، الذي يتخذ موقفا أكثر تشدداً من رجل الأمن السوري. وتضيف “يا خالتي مش أنت فلسطيني، أنا جارتكم إمو لسعيد ما عرفتني”. الشاب يصرخ في وجهها ويدفعها الى الوراء، عندها تنتفض أم سعيد في وجهه قائلةً: “أصلاً كلكم كلاب هون، قال أولاد مخيم. الله يلعنك ويلعن يلي حطك هون”.

 بعد أن يفقدن أمل الدخول الى المخيم، تتجه كل امرأة نحو البدائل التي اتخذتها لحظة خروجها، منهن من تذهب الى الجامع القريب من الحاجز، أو الى مدرسة قريبة تستقبل النازحين. وهناك من لها أقرباء ترى في إغلاق المخيم فرصة لزيارتهم. وهناك من تحجز لنفسها مكاناً بجانب الحاجز غير عابئة بصوت الرصاص والقذائف التي تصبح أقوى أثناء الليل.

 هذه القصص ليست ليوم واحد، ولا هي أحداث عابرة تحكمها المصادفة، بل هي حدث يومي تعيشه نساء المنطقة الجنوبية منذ ستة أشهر. قصص تجعلك تدرك تماماً أن التاريخ سوف يسجل لهؤلاء النسوة أنهن بارادتهن هزمن مئات الرجال المدججين بالسلاح.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى