صفحات الثقافة

اليوميات أسلوب حياة/ كمال الرياحي

 

 

منذ أن وضع المنظر الفرنسي فيليب لوجون تعريفه الجديد والمخاتل لليوميات زجّ بكل التعاريف السابقة في مأزق. فـ”لم يعد شيء يستبعد بعد اليوم” من فن اليوميات.

في كتابه الأخير “كتابة ذاته من الميثاق إلى التراث السردي” يعرّف بابا السيرة الذاتية اليوميات بـ”سلسلة من آثار مؤرخة” “série de traces datées” ويذكر أنه نسي أن يضع تعريفا لليوميات مدة اشتغاله عليها:12 سنة. حتى لا يعيد الخطأ الذي ارتكبه في كتابه الأول “السيرة الذاتية في فرنسا” والذي وضع فيه تعريفه للسيرة الذاتية قبل أن ينطلق في دراستها مما جعله يتراجع كل مرة ويوسع من المفهوم الذي وضعه والذي كان يخرج كل مرة بحقائق نقدية جديدة.

“سلسلة آثار مؤرخة”: المفهوم المطاط

إن هذا المفهوم يجعلنا نعيد النظر في العديد من النصوص التي استبعدها البحث والنقد من عالم اليوميات، والتي لم يلتزم فيها الكتاب بما ضبطه المنظرون من حدود لهذا النوع. لأن مفهوم فليب لوجون استبعد عنصر الحدث وسخونته من ناحية كما أسقط إلزامية الكتابة نفسها. فغدت اليوميات أكبر من الكتابة، إنها سلسلة “آثار”.

1* اليوميات ليست بالضرورة رواية لأحداث.

2 * اليوميات ليست كتابة فقط.

هذه الثورة في تعريف هذا النوع من الممارسة جعل فن اليوميات يتسع ليتحقق في أشكال ومحامل كثيرة غير الكتابة، بل في كل أشكال التعبير المتاحة.

اليوميات: تأريخ مضبوط

ولكن إن تخلى فيليب لوجون عن الكتابة كشرط ضروري لليوميات، واعتبرها واحدة من المحامل الممكنة، فإنه تمسك بعنصر التأريخ. فالتأريخ في اليوميات هو شرطها المؤسس والذي يجعل منها ممكنة. ويضطلع التاريخ في اليومية بدور الميثاق الأجناسي الذي يستبعد سواها من “مذكرات” و”سيرة ذاتية” و”تخييل ذاتي” و”رواية”.

وكأن لوجون هنا وخلافاً لبقية نقاد ومنظري اليوميات يقول: ضع التاريخ وقل ما تشاء.

ويأتي هذا رداً غير مباشر على تعريف الناقد الفرنسي جورج ماي الذي عرف اليوميات في كتابه السيرة الذاتية بقوله: “اليوميات، وهي مشتقة من اليوم، تكتب يوميا بانتظام، ولا يدون فيها صاحبها كل مرة إلا ما وقع له في الفترة القصيرة التي تفصله عن التدوين السابق”.

خلافا لما حدد به لوجون السيرة الذاتية بصفتها “المحكي الاسترجاعي النثري الذي يقوم به شخص واقعي لوجوده الخاص، عندما يركّز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة”.

تنهض اليوميات معه على فكرة التحرر من النوع، فيمكنها أن تكون نثرية كما في اليوميات الكلاسيكية التقليدية، ويمكن أن تكون شعرية كما يمكن أن تكون متنوعة بين سرد وشعر ورسم، وقد تكون خطاطات أفكار وأعمال فنية أو أدبية أو فلسفية أو علمية وقد تكون في محامل أخرى كالمدونات والأفلام واللوحات.

ففي اليوميات الكلاسيكية، وهي الأكثر انتشارا، يمكن أن نشير إلى يوميات الكاتب الجزائري مولود فرعون “اليوميات” والتي روت الثورة الجزائرية 1955- 1962 أو يوميات الشاعر أمجد ناصر حول حصار بيروت سنة 1982. ويوميات كافكا، ويوميات بول بولز، ويوميات الرسام رمبرانت. يوميات الإيطالي تشيزاري بافيزي “مهنة العيش” 1935-1950 ويوميات الناقدة سوزان سانتاغ “ولادة ثانية”..

أما اليوميات الشعرية فنسجل إحدى أهم التجارب العربية اللافتة في كتابة اليوميات شعرا، ما اجترحه الشاعر التونسي محمد الصغير أولاد أحمد والذي زاوج في يومياته التي خصصها للثورة التونسية، “القيادة الشعرية للثورة التونسية” بين الكتابة النثرية والكتابة الشعرية.

ويبدو أن أولاد أحمد اكتشف أن اللحظة الحية والملتبسة في المستقبل السياسي والاجتماعي القريب الغامض تليق بها القصيدة، باستعدادها أكثر من غيرها في التقاط الانفعال، فـ”اليومية بعدم بحثها إلا في الفوري والدافئ والقريب، وبكتابتها في حالة الاهتياج، كما تقول أنييس نن، قد طورت حب اللحظة الحية”.

وقد خاض الشاعر البحريني قاسم حداد تجربة مخصوصة لكتابة اليوميات في بيت الكاتب الألماني هنريش بول، غير أنه أسقط أهم شرط من شروط اليوميات كما ضبطها كل منظري هذا الفن، وهو التاريخ، فظل كتابه المعنون بـ”يوميات بيت هنريش بول” خارج بيت اليوميات على الرغم من عنوانه، ومما كتبه في مقدمة الكتاب باعتباره يوميات.

اليوميات الهجينة ويوميات المحامل الحديثة

إن اليوميات التي يقترحها الرسام الهولندي رامبرانت هي يوميات جمعت تجاربه الفنية والكتابة معا، وهو ذات الشيء الذي قدمته الرسامة المكسيكية فريدا كاهلو في دفترها “RK لوحة حميمة” مع طغيان الرسم على الكتابة.

أما الكاتب البرتغالي خوزيه ساراماغو فقد كانت له تجربة مع الكتابة اليومية في مدونته الإلكترونية التي فتحتها له زوجته بيلار وأخوها خافيير، ليسجل آراءه وتأملاته وما يخطر بباله فقبل وكانت مفكرة 2008 و2009 التي نشرت في نسخة ورقية بعد ذلك تحت عنوان”المفكرة” وسجل فيها الكاتب مواقفه من الساسة والسياسيين ورأيه في الكتاب والكتابة والكتب وعاد فيها لتأمل كتبه الشخصية.

بينما خاض الرسام فابريس نون مغامرة اليوميات عبر الصور المتسلسلة ليروي عبرها يوما بيوم حياته الغريبة في عالم المثليين، كما أقدم الكثير من المخرجين على تسجيل يومياتهم عبر الكاميرا وأنتجت يوميات كثيرة في شكل أفلام وثائقية وغير وثائقية، لعل أشهرها فيلم “يوميات حميمة Caro Diario” لناني موريتي. ونتحدث اليوم عن اليوميات عبر السيلفي والموبايل ومنصات التواصل الاجتماعي. وهكذا تتمدد ممارسة اليوميات لتصبح شأنا شعبيا عالميا، وهو ما يؤكد ما قاله فيليب لوجون بأنها الممارسة الأكثر ديمقراطية.

اليوميات مشروع حياة

لم تكن الكاتبة أنييس نين تعتبر اليوميات كتابة فقط، بل مشروع حياة. فقد ظلت تكتب يومياتها كشأن يومي مقدس وتعتبره واحدا من الرياضات اليومية للمحافظة على لياقة الروائي. تقول: “تعلمت درسا آخر من كتابة اليوميات هو الاستمرار الفعلي في الكتابة، لا انتظار الإلهام، والمناخ المناسب، وأبراج التنجيم، والمزاج، بل ممارسة الجلوس إلى الآلة الكاتبة والكتابة عدة ساعات. ثم حين تأتي اللحظة العظيمة، اللحظة الناضجة، تكون الكتابة رشيقة، متناغمة، دافئة”.

اليوميات مشروع خاص

قد تكون اليوميات تلوينا داخل المشروع الشامل، كما فعل ألبرتو مانغويل ضمن مشروعه للقراءة، فأنجز كتابه “يوميات القراءة” لا بقصد كتابة اليوميات، إنما ضمن مشروعه الأشمل عن القراءة فكانت التجربة تجربة تلوين شكلي على مشروع عام.

يقول في مقدمة كتابه “إذا ما أعدت قراءة كتاب كل شهر، فقد يمكنني أن أكمل خلال عام شيئا ما يقع بين اليوميات الشخصية وبين كتاب عادي” وقد أعاد هذه التجربة الروائي التونسي حسونة المصباحي في “يوميات الحمامات” كما أعاد تجربة مشروع هنري ميللر في كتابه “الكتب في حياتي” ليتحدث عن الكتب التي أثرت فيه وقادت تجربته الإبداعية وشغفه بالكتابة وكان قد بدأ تجربته في كتابة اليوميات بـ”يوميات ميونخ” والتي سجل فيها سنوات من حياته في مدينة ميونخ الألمانية وآراءه بالشأن السياسي والثقافي التونسيين.

يوميات الخطر

تقود التجارب الخاصة بعض الكتاب إلى تسجيل يومياتهم، مثل تجربة الحرب وتجربة المرض وتجربة السجن وكلها تجارب يمكن أن نضعها في خانة التجارب الخطرة. وهي يوميات لا تكتب كحالة ترف بل كنشاط من إكراهات التجربة، كما فعل أمجد ناصر في “بيروت صغيرة بحجم راحة اليد” فوجوده في الحدث والفضاء الخطر هو ما دفعه إلى نوعية هذه الكتابة بغاية تسجيل شهادة تاريخية عن تجربة جماعية وذاتية، وهو ما يؤكده غسان زقطان في مقدمتها حين يربط قيمة هذه اليوميات في “عدم ادعائها وباحتفاظها بطاقة الوهلة الأولى” وعدم بحثها عن بطولة.

وقد يدفع الشعور بالعزلة الكاتب إلى هذا النوع من الممارسة، وهو ما يتجسد في تجارب أخرى غير الحرب. كما حدث مع الكاتب المغربي محمد خير الدين الذي كتب ذاته وهي تخوض تجربة المرض بالسرطان في “يوميات سرير الموت”، ففي ذلك الشهر يجد الكاتب المغربي نفسه في حاجة ليكتب نفسه يوما بيوم ملاحقا تطور مرضه من ناحية ومتأملا في العالم والناس والموت والحياة من ناحية ثانية.

غير بعيد عن تجربة المرض وعزلة الأسر المارستاني يكتب صنع الله إبراهيم في “يوميات الواحات” تجربة الاعتقال. هذه التجربة التي قادته إلى حياة كتابية أخرى كانت نتيجة لحياة سجنية مخصوصة. فدارت اليوميات حول الحياة اليومية لكاتب معتقل في سجن الواحات المصرية في زمن عبد الناصر. كتاباته وقراءاته وترجماته وأنشطته داخل السجن وعلاقته بالخارج. حتى رفع السجن في يومياته إلى مرتبة الجامعة التي تعلم فيه إلى جانب “القهر والموت” و”الاستبطان والقراءة المتباينة”، وفيها قرر أن يكون كاتبا.

يوميات التجارب السياسية

من أشهر اليوميات في التاريخ هي يوميات المهام السياسية والدبلوماسية، ولكن أغلبها لا ينشر لجفاف مادته من ناحية وسريته من ناحية أخرى، فيبقى في أرشيف المؤسسات أو في رفوف الكتّاب.

الروائي التونسي البشير بن سلامة الذي تقلد مهام سياسية كثيرة، منها وزارة الثقافة، أطلق سراح يومياته كمسؤول تحت عنوان “اليوميات” وكانت شاهدة على نشاطه اليومي وعلاقاته ومواقفه وتخميناته وهواجسه أثناء تجربته المهنية. فكانت اليوميات شهادة تاريخية عن فترة مهمة من تاريخ تونس ثقافيا وسياسيا وعلى ذات ثقافية شاءت أن تكون في مهام سياسية، وهي يوميات يمكن مقاربة صورة المثقف داخل السلطة في زمن السلم.

يوميات الأفكار وخطاطات المشاريع

تتسلل مشاريع الكتابة المستقبلية في يوميات الكتاب والفنانين، ويمكن أن نمثل لهذا النوع بيوميات كافكا التي نتلمس من خلالها المراحل الجنينية لكتابة نصوصه الإبداعية، وكذلك الأمر في يوميات غسان كنفاني والذي يسجل بوضوح كيف يخطط لبناء قصته وشخصيته ويضع ملامحها وتطوراتها وأحيانا يسجل ملخصا لقصته أو فكرتها.

أما الناقدة والمخرجة والروائية الأميركية سوزان سونتاغ، فكانت تسجل في “ولادة ثانية، اليوميات المبكرة، 1963،1947 أفكارها الفلسفية حول جسدها والعالم والأفكار ذاتها التي كتب يوم 13 إبريل 1948: “الأفكار تعكر سطحية العيشة”. وهي بذلك تطلق فكرة مضادة حول السطحية باعتبارها قيمة.

ومثلها مثل غسان كنفاني وكافكا كانت تضع أفكارا لنصوص إبداعية لعلها لم تكتب أبدا. تكتب في يومية 1 يناير 1957 تحت عنوان أفكار لقصص، ملخصا لقصة مهاجر يهودي شهير من هارفارد يستلم جائزة من ألمانيا، وتروي القصة سقوطه في الأسر مدة الحرب حتى يحرره القصف الأميركي الإنكليزي.

وتضع سونتاغ مخططا للقصة: مروية بأسلوب تجريدي مع أقل ما يمكن من الواقعية. وتضع نموذجها كافكا.

يعكس هذا أن اليوميات التي يمارسها الكتاب المبدعون لا تنفصل تماما عن نشاط الكتابة الإبداعية، بل هي تمارين يومية لتقوية الخيال حتى تظهر الأفكار من تلافيف سطحية اليومي المكتوب والمعاش.

* روائي وناقد تونسي

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى