الحرية لرزان زيتونة، الحرية لمخطوفي دوماصفحات مميزةضحى حسن

اليوم أيضاً اختطفت رزان وسميرة ووائل وناظم/ ضحى حسن

 

 

اليوم أيضاً اختطفت رزان وسميرة ووائل وناظم أنا أعيش! وعندما لن يكون هناك ما أفعله..سأغلق باب بيتي علي، بيتي في المنطقة المحررة من بلدي

لا أتذكر الكثير، وفي بعض الأحيان لا أتذكر شيئاً. رحلة مضنية هي تلك المتعلقة بطرْقِ أبواب الذاكرة. لكني أذكر جيداً ما قلته لها قبل عام تماماً، حين يصر عقلي على تكراره بإلحاح، بالتوازي مع مسحه لذاكرتي البعيدة، ذاكرتي الحاضرة الخاصة بي.

أقول لها: “كل الأشياء السيئة بتجي مع بعض، وبعدين كل شي بصير أحسن”. تجيبني: “هالمرة حاسة إنو النحس صايبني..”. غداً سيكون يوماً أفضل، لكن الكثير من “الغد” قد مرّ، وتوالت الأحداث السيئة، واختفت رزان زيتونة بعد ساعات قليلة من ذاك الحديث عن الغد الأفضل.

يضجُ المنزل بالأشخاص؛ الأم والأب اللذان طالما حضنا الجميع في منزلهما الدافئ بدمشق، يحاولان اقناعها بترك جهاز الكومبيوتر والانضمام إلينا في غرفة المائدة. رزان العنيدة النحيلة، ترفض أن تتوقف عن العمل، فتحمل الأم صحن الطعام وتضعه بجانبها، فيما يجلس زوجها وائل هادئاً، ينظر إليها بتواتر، ويبتسم مكملاً حديثه مع ناظم.

اعتادت رزان أن تبعد القلق عن نفسها، بسرعة كبيرة، لتكمل عملها دون انقطاع. وإن أصبح “أنا” رزان مهيئ لعملية الإخصاء، إخصاء القلق، نتيجة تكرار إلغائه، أو تجاهله، عبر تفريغه بالعمل، إلا أنه في ذاك اليوم، كان حاضراً جداً.

كل ما حولنا يخلق حالات من القلق والتوتر والخوف، وجلّ ما نفعله تجاه تلك المشاعر، هو أن نكفها الواحدة تلو الأخرى. لكن ما يحدث بعد ذلك، في الحقيقة، لا يعالجها أو يزيلها، بل يثيرها مجدداً بأشكال مختلفة، ولا يلغي المسبب لها. لتصبح عند استرجاعها خوفاً أكبر، وقلقاً أعظم، وحدثاً غامضاً. مرّ عام كامل على اختطاف رزان وائل سميرة وناظم، لا يمكن تجاهل القلق الناتج عن ذلك، لأنه قد يغيّب الحدث ذاته، حدث اختطافهم.

تدخل رزان في منظومة النسف التي يمارسها دماغي على ذاكرتي، والتي يفرز تداعياتها في الكوابيس، مرضي الجديد. لذلك سأحاول أن أستعيدها في الصحو، وأنا في حالة الاستيقاظ القصوى. شعرها أشقر، عيناها زرقاوتان، جسدها نحيل، أذكر بأنه كان أكثر نحالة في لقائي الأخير معها. رزان التي تحب الباستا والموسيقا.

تضيع الصورة مجدداً، أحاول من جديد رزان زيتونة، رزان زيتونة.. الفتاة الثلاثينية الشقراء النحيلة، التي أصرت على مناداة الناشطين بالثوار، هي من مؤسسي لجان التنسيق المحلية في سوريا، ومركز توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا. كاتبة، ناشطة حقوقية. تهديد الإسلاميين لها في دوما. رزان اختطفت منذ عام.

علي أن أوقف هذه الذاكرة عنها، فليست ذاكرتي الشخصية، سأحاول مرة أخرى.

أعطتني أختي الهاتف، كان صوتي غائراً بعض الشيء، إذ لم أستخدم أحبالي الصوتية كثيراً في الأيام الستة تلك. سمعت صوتاً مجهولاً من الطرف الآخر، “الحمد لله على السلامة، إذا صار معك شي جديد خبريني، أنا رزان زيتونة”. أجبتها “الله يسلمك”، لم أدرك اسمها فوراً إلا بعد لحظات من انتهاء المكالمة.

المرة الأولى التي تواصلت فيها مع رزان، كانت بعد خروجي من المعتقل بتاريخ 2/4/2011، لاحقاً ذهبت لزيارتها.

داخل أحد الأبنية، فُتح باب المنزل ببطء شديد. أطلّت فتاة ثلاثينية من الباب بحذر، بادلتُها إيّاه على الفور. الموقف لا يحتمل الخطأ. تتدخّل “هرّة” شقراء وتُخرِج رأسها من الباب، وللحظة قررت أن أستدير وأعود أدراجي مؤنِّبةً نفسي على “دخولي إلى البناء الخطأ للمرة الثانية، وعدم تدقيقي في العنوان الذي أرسلَتْه لي”. قبل أن أتحرك نادتني باسمي.. حملت نفسي بهدوء ودخلت المنزل. فأنا لم أكن قد التقيتها وجهاً لوجه قبل ذلك.

لا أكاد أخطو هذه الخطوة نحو الذاكرة، إلا وأشعر بأن هناك ما يسحبني بعيداً عنها، النكران، وكأن عقلي يتوغل في الكثير من الأحداث، إلا تلك التي تصب فوراً في الجرح. يتشبث بالبدائل تشبثاً مذعوراً، حتى ينقذ نفسه. لكنه في الحقيقة ينقلب على ذاته.

تمشي الحشود في الشوارع المهدمة، أعرف كل الوجوه، ندخل إلى ساحة منزل قديم، يتحرك الجميع بشكل سريع، تزداد سرعة الحركة المتكررة للأشخاص. قدماي لا تتحركان، أتابع بعيني رزان وائل ناظم وسميرة، أصدقاء كثر. أسمع أصوات انفجارات قريبة، لا أحد ينظر إلى السماء، يتحركون بنفس الطريقة. يقترب الصوت أكثر، لا أستطيع التحرك. صوتي محشور في حلقي، يقف كل شيء، يحل السواد. أنظر إلى يدي المعلقة على الحائط، رأسي القابع وحيداً على الأرض، يدخل قطيع من الهررة إلى المكان. استيقظ..أقع من السرير، كابوس آخر.

“الاضراب حتى اسقاط نظام بشار الأسد”، هتفت رزان في إحدى مظاهرات حرستا بريف دمشق، “لو بيجوا الناشطين على الغوطة مثلاً بتغير الوضع كتير، المكان بحاجة للشباب”. أخبرتني بعد أشهر من انتقالها إلى دوما، “حاسة صايبني النحس هاليومين”، حدثتني، وأجبتها: “بكرة كلو بتحسن”. غداً ستصبح الأمور على مايرام، أي جواب هذا!. لا أدري كيف لم أنتبه حينها أن رزان لم تصر على فكرة النحس هذه، وملازمته، إلا يومها. رأسي الآن يطلب مني أن أتوقف عن التذكر والتساؤل، يحاول أن يمنعني من العودة في الذاكرة. إغراء النسيان.

لنمعن النظر في الواقع الراهن الذي يستحيل التعامي عنه، لم يعد خبر الموت جليلاً، كذلك الاعتقال والخطف، تحوّل الغياب إلى عادة، كما أصبحت الوعود التي قطعها البشر، باهتة أمام تلاشي الأمل. هناك من يدعوني للخروج من التعلق بالحلم؛ أن الانسانية قادرة على أن تحقق لنفسها حياة تطاق على هذا الكوكب. لكن علي أن أتذكر، أن أجابه عملية المسح الدماغي لذاكرتي.

بعد أيام من تهديد زهران علوش لرزان زيتونة وفريق توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، اجريت مقابلة مع رزان، قالت لي حينها: “لم أشعر بالخوف، لكنني أحسست في البداية بكثير من المرارة! فكرت لوهلة بالرحيل إلى مكان يعزلني ولا يمنعني من استمرار العمل في ما بدأت به. لكنها كانت لحظة إحباط لا أكثر.. أنا لست في مهمة هنا.. كما قلت، أنا أعيش! وعندما لن يكون هناك ما أفعله، سأغلق باب بيتي علي، بيتي في المنطقة المحررة من بلدي”.

صور كثيرة تتداعى، التظاهرات، التجمعات، مكتب لجان التنسيق المحلية، وائل يمر سريعاً من أمام أحد المقاهي يبتسم ويكمل سيره، ناظم، سميرة، البيت الصغير الذي حضننا جميعاً في دمشق. رزان تفتح الباب، القطة التي مازالت تتنظر، بريدي المليء بالرسائل، الصور بدأت تأخذ أبعاداً، ألواناً غريبة، القلق مازال واضحاً جلياً نافراً قوياً.

الساعة العاشرة صباحاً، لا أثر لرزان، أكتب لها أسأل عن سبب اختفائها، لنكمل حديث الأمس. اختفت، اختفوا جميعاً. عام مضى. كلما تذكرتها وقبل أي شيء، يضرب ذاكرتي الحديث الأخير “مابعرف ليش حاسة انو النحس صايبني هاليومين!!”. وأمقت جوابي ذاك. مرّ الكثير من الغد، والأحداث السيئة مازالت تتوالد. القلق يكبر أكثر.

الصفحة بيضاء، الإشارة التي تنتظر أن أكتب، مازالت تظهر وتختفي، تشبه دقات الساعة. ترتفع حرارة جسدي، يتغير المكان. “تنكة مخي تنكة ماعم يطلع شي”، تقول كلما ألححت عليها بأن ترسل المقال الأسبوعي. يدور كل شيء حولي، تنهال كلمات كثيرة على الشاشة أمامي، يداي مقيدتان إلى الخلف، تتحول الأحرف إلى ملامح، وجوه غريبة، تقفز يدان هرمتان من بينهم، تمسك وجهي تحاول اقتلاعه لتضمه إلى باقي الوجوه، لا أستطيع الحراك، صوتي محشور في حلقي، استيقظ. كابوس آخر.

“مرور عام على اختطاف النشطاء السلميين: رزان زيتونة، وائل حمادة، سميرة الخليل، ناظم حمادي”، صيغة قدوم الذكرى هذه، تقبع في قلب الغياب. إنه النداء، الذي يسمي الأشياء، يدعوها للظهور، لذلك سأنسف الجملة. صيغة الماضي في التذكر، تعني أنهم لم يعودوا موجودين في الحاضر، وعلى هذا، سأقول: “اليوم اختطفت رزان، ووائل وسميرة، وناظم في دوما”، غداً أيضاً سأقول: “اليوم اختطفت رزان وائل سميرة وناظم في دوما”. وبعد غد وبعده.. حتى يأتي ذاك “الغد” الأفضل في حديثنا الأخير.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى