صفحات الثقافةعزيز تبسي

اليوم التالي/ عزيز تبسي

 

 

نغبطهم، أولئك الذين يقضون ساعات السفر في نوم عميق. يفتحون عيونهم من وقت لآخر، كثعالب واهنة وجدت لنفسها دوراً في كل قصص الأطفال، ليستفسروا من المسافر الجالس قربهم عن المكان الذي وصلت إليه الحافلة، وما تبقى من مسافة الطريق، وعن احتمالية التوقف القريب لاستراحة، يترجل فيها المسافرون لقضاء حوائجهم، وتفقّد من بقي سالماً لمتابعة المسيرة، والجلوس بعدها للتدخين، واحتساء كوب شاي أو فنجان قهوة، لطرد الخوف بالكلام عن الشجاعة. ليست استراحة محارب يتهيأ لمعركة جديدة، هي استراحة “مسافر زاده الخيال”.

وحين يفهمون من حركة شفاه من يجيبهم، أن الرحلة لما تزل طويلة، وباقٍ زمن طويل للوصول للاستراحة. يعودون إلى نومهم، بعد أن يأتوا على أطعمة خفيفة حملوها في حقائبهم؛ “أيقظني قبل الوصول إلى الكراج”.

لم تعد طرقات السفر طويلة، سهلتها الطرقات المعبدة، الحافلات الحديثة، الاختصارات المستمرة في التعرجات التي كانت تتلوى بين القرى والمزارع. لكن ذلك، لم يحل ذلك دون مجازفات ومخاطر، تحول دون الوصول إلى المحطة الأخيرة.

يتجولون الآن في بيوتهم الضيقة، وقد حسبوها طرقات بين المدن، أو شوارع المدينة التي يعيشون فيها، التي تنفتح على شوارع وأزقة، تأخذهم رغبة ضمنية لدخولها كمتاهة، مع قناعتهم بالعجز عن الخروج منها، يفككون بتأنٍ خيوطاً، ويقطعون بانفعال أخرى، يرفعون أبنية، يوسعون طرقات، ويعيدون تشكيل حدائق وساحات، ومقاعد لاستراحة المتعبين.

كثيراً ما وصلت التجارب إلى نتائج غير مأمولة منها، كأن تتهاوى الرغبة في الطيران والتحرر من قوانين الجاذبية الأرضية، بسقوط مدوٍ، وتحطم أجنحته المستعارة، مبددة الوعد بتقريبه لوهلة، من خفق أجنحة الطيور وسمائها وذرى الأشجار، ليثبت قانون سقوط الأجسام، في هذه التجربة – المجازفة، أنه صلب ويحتاج لقوة دفع عالية للتحرر منه.

تظهر بعض الخيارات السياسية للوهلة الأولى، بوصفها خيارات في طرائق الاستحمام، بعد تنحية الصابون المشبع بزيت أوراق الغار أو زيت نواة اللوز، وإبقاء “شامبو سنان” الخاص بطرد القمل والصئبان، لمعالجة آثار الانقطاع الدائم للمياه وافتقاد النظافة، و”شامبو بول البعير” كوسيلة لمزاملة السلف.

تحولت، أسهل الطرقات وأشدها بهجة ومرحاً، إلى دروب آلام، لا تنتهي إلا بخسارات تتلوها خسارات، تبدأ بالمتاع المحدود، الزاد البسيط، المال الذي لا يتعدى مصروف الرحلة، بعض رفاق السفر، وقد تستكمل بإيقاف المسيرة برمتها، بإجهاز دموي على الحياة.

*****

اضطرتهم هذه المسيرة لمجاملات لا تنتهي، بأمل مضمر أنها قد تسهل إتمام هذه الرحلة الشاقة: الكف عن مجادلة من يطالبون طي صفحة الشعوب في حركة التاريخ، وتدشين دور الملائكة في الحركة التاريخية ذاتها.

ضبط ارتجافات البدن، وتصنع اللامبالاة، بعد سماع كلمة بطاطا. إغماض العين عن الاحتطاب الليلي لغراس أشجار توسّم فيها من غرسها مع الفجر، قامات الأمل وغرته. الحديث المقتضب عن جنائن الوطن أثناء النظر من النافذة المغلقة، التي تطل على سهول الحرائق والرماد. اعتماد “المجاملات الطائفية” التي تَذكرُ العيش المشترك، والقيمة المعنوية التي حققها تقاسم الخبز والملح عبر التاريخ، وتبادل أطباق الحلويات في الأعياد، وأفضلية رسائل الغرام على طعن السكاكين.

تلبية نداءات الاستغاثة للتبرع بما تبقى من الألبسة لشعوب أكثر عرياً. إعادة قراءة كتب التاريخ لتبين الدور التقدمي للمماليك في العمارة والفنون الأدبية والتصدي للغزوات الخارجية، ودور تجار العبيد في التآخي بين الشعوب.

رغم كل ذاك وسواه، لم يستطيعوا منع المباشرة بالقتل، كما لم يستطيعوا إيقافه والحد منه، ولا يعلمون إن ما زالوا يملكون المقدرة لإيقاف التحريض عليه، والسخرية من القتلى وإهانتهم. أولئك الذين لم يعرفوا بأي ذنب قُتلوا، حملوا في قلوبهم الأمل بقيامة جديدة، ستبعثهم في زمن ما من قبورهم العميقة، أو من تحت حفنات الرمل التي أهيلت بعجالة فوق أجسادهم، لا ليعيشوا حياة جديدة كتعويض عن الحياة التي خسروها، وهم في ريعان الصبا، بل لاسترداد أطرافهم المبتورة، والتمتع بسير لا انحناء في قامته، على ضفاف أنهار من عطور كونية.

*****

من يمثل الله في أيامنا، من الناطق باسمه؟ لنتقرب منه، نرضيه بذبح أولادنا كما فعل أجدادنا، قبل أن نتجرأ ونسأله هل حذف الربيع من الفصول الأربعة، بغفلة من شعوبٍ طالما تلمست تعاقب الفصول من كثافة الغيم، وزغب فراخ الحمام، وألوان أوراق الشجر؟.

أيأتي زمن تنحني فيه الصواريخ أمام بوابات البيوت طالبة الصفح؟ تجثو القذائف أمام قبور القتلى؟ يعتذر الملائكة لتغافلهم عن طبخ الشعوب داخل المراجل الملتهبة؟

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى