صفحات الثقافة

اليوم

 

عباس بيضون

أن نفكر بطه حسين اليوم أو بالمتنبي اليوم أو بأبي نواس اليوم أو بالمعري اليوم، حق أكيد لنا إذ إننا لا نستطيع أن نفكر بهؤلاء أمس أو في الماضي، فنحن أبناء يومنا، والزمن الذي ننظر منه أو نبدأ أو ننطلق هو هذا الزمن. مع ذلك لن يكون الأمر سهلاً علينا كما انه ليس سهلاً على أحد. ان ترى الكاتب في زمنه وأن تراه في زمنك ليس بسيطاً. ذلك يستدعي متابعة تاريخية، أن ترى ماذا يبقى من التاريخ في اليوم، وبأي صورة يحضر الماضي وبأي روح وأي لغة وأي رموز. انها قراءة انتروبولوجية للأفكار ولا تُعنى فقط بمعرفة مصدر الفكرة وإنما سيرورتها وتحولاتها والصور التي تتلبسها. من يخطر له ان يتعيّن مثلاً ماذا ترك المتنبي أو أبو نواس أو المعري في الجملة العربية. ثم من يحاكم هؤلاء بمنطق اليوم فتكون أهميةُ الواحد منهم هي في قربه، الذي قد يكون اتفاقا أو صدفة، من مفردات العصر أو أغراضه. قد لا تكون هذه أفضل الطرق لمقاربة نص موروث، لكنها قد تكون زائفة خادعة. فالقرب المزعوم قد لا يكون حقيقياً، ثم ماذا يعني هذا القرب، هل على الكاتب ان يكون مستشرفاً، هل عليه ان يخترق عصره وزمنه أو ان يتعداهما. من قبيل ذلك ان يكون عنتر سبارتاكوس العرب لمجرد انه كان عبداً. من غريب ذلك ان يطعن على المتنبي لأنه وصم كافور بالعبودية. من قبيل ذلك ان نكرم الصعاليك لأنهم في نظرنا اليوم ثوار. هكذا ندخل في خلط تاريخي، ولعب بالتاريخ ينتفي فيه زمنه وظرفه فإن يكون جل ما نطلبه لدى أديب قديم هو أن يتنبأ بأيامنا وان يكون في زمن الجاهلية والإسلام متحرراً ديموقراطياً إنسانياً تنويريا. ليس في هذا سوى توظيف للماضي يغدو فيه مطلقا ونهائيا أو تكريس للحاضر يغدو فيه أيضاً مطلقا وجوهرانيا. نفهم من هذا فقرنا في هذا النوع من الدراسات. نفهم لماذا يبقى الماضي، مجرد أنشودة، أو صنماً بينما نحن نزدري أنفسنا في الحاضر، بل نفهم هذا النوع من تقديس الماضي الذي يزداد كلما تعمق انفصالنا عنه، وكلما غدا مجهولاً أكثر منا بل يبدو وكأن جهلنا بالماضي شرط لتقديسه، الإنسان هكذا يعبد ما يجهل وما يجهله يزداد مهابة وإجلالاً ما دام يملك زعماً سره الخاص، سر هذه المعرفة الخفية التي ينطوي عليها وينغلق.

هل نستطيع ان نستصرح المتنبي عما يحدث في حلب أو نستصرح المعري عما يحدث في المعرة وهل نسأل أبا نواس عما يحدث في بغداد أو العراق اليوم. وهل نجد في كلام المعري أو المتنبي أمر اليوم، لنبحث عنهما في لغتنا، فهي كل ما تركوه لنا وهي ما تركوا فيها لنا. انها صناعة الأجيال وهي الزمن الحي المستمر المثابر، وهي حوارنا الممكن معهم ومع أنفسنا.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى