صبحي حديديصفحات الرأي

اليونسكو: صراع عوالم أم حضارات؟/ صبحي حديدي

 

«الأمر أشبه بزوجَين ظلا منفصلين طيلة أعوام، ثمّ قررا أخيراً تثبيت الطلاق»، يقول ريشارد غوان، الباحث في المجلس الأوروبي للعلاقات الدولية، في توصيف قرار انسحاب الولايات المتحدة من اليونسكو. والسبب بالغ البساطة، في الواقع: منذ سنة 2011، حين وافق المؤتمر العام للمنظمة، بأغلبية ساحقة بلغت 107ـ 14 صوتاً (رغم امتناع 52 دولة)، على ضمّ فلسطين بصفة العضو الـ195؛ قامت الولايات المتحدة بتخفيض عضويتها، وامتنعت عن سداد مساهماتها في ميزانية المنظمة، ففقدت حقّ التصويت في المؤتمر العام.

قرار إدارة دونالد ترامب المعلَن اتكأ على اعتبارَين: واحد زائف، وديماغوجي، هو أنّ المنظمة في حاجة إلى إصلاحات جذرية؛ والثاني صريح، ولكنه لا يقلّ ديماغوجية، مفاده أنّ اليونسكو باتت معادية لإسرائيل. السبب الثالث، غير المعلَن، هو أنّ ديون الولايات المتحدة لصالح المنظمة تجاوزت الـ 500 مليون دولار، وليس أفضل من الانسحاب، لاسترضاء اللوبي اليهودي في أمريكا، وتوفير نصف مليار دولار، في آن معاً! لهذا فإنّ إسرائيل اقتفت أثر واشنطن في الانسحاب من المنظمة، ولم يتردد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في التصريح بأنّ المنظمة باتت «مسرح عبث، تزيّف التاريخ بدل الحفاظ عليه».

ليست هذه هي المرة الأولى التي تشهد انسحاب الولايات المتحدة من المنظمة، إذْ سبق أن فعلها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، في سنة 1984؛ حين اعتبر أنّ اليونسكو منحازة أيديولوجياً للاتحاد السوفييتي، ضدّ الغرب. وفي سنة 2002 أعاد جورج بوش الابن النظر في قرار ريغان، لكنّ المندوب الأمريكي، بيتر سميث، الذي كان أيضاً نائب المدير العام والمسؤول عن قطاع التعليم في المنظمة، مارس سياسة ثأرية منهجية؛ ولم يألُ جهداً في حرف ميزانية المنظمة بعيداً عن احتياجات الدول النامية، بصدد الثقافات الأخرى التي لا تتماثل بالضرورة، أو لا تتقارب حكماً، مع المفاهيم التربوية والتعليمية الأمريكية ـ الأوروبية.

على سبيل المثال، اقتطع سميث مبلغ 200 ألف دولار من ميزانية محو الأمية في فلسطين والعراق وموريتانيا (لاحظوا دلالة هذه البلدان، تحديداً!)، لا لكي ينفقها على محو الأمية في اليمن أو السودان أو الصومال؛ بل لكي يموّل مؤتمراً في نيويورك افتتحته لورا بوش، السيدة الأمريكية الأولى آنذاك، واستغرق… نصف نهار! ولم تكن تلك الواقعة خالية من السياسة المباشرة، أي السياسة الداخلية في أمريكا أساساً، لأنّ سميث كان أحد أتباع بوش (الذي عيّنه في المنصب). في تلك الفترة، أيضاً، كانت المجلة المالية الفرنسية «كابيتال» قد نشرت تقريراً مثيراً عن عجائب سميث، استند إلى ما تردد في كواليس المندوبين من أحاديث ــ كانت تدور همساً تارة، وعلانية طوراً ــ حول وقائع المخالفات القانونية والمالية الصارخة التي ارتكبها المندوب الأمريكي.

والحال أنّ فكرة اليونسكو، منذ التأسيس في العقود الأولى من القرن الماضي، انطلقت من مفهوم غربي صرف للتربية وللثقافة، قبل أن يُصاغ الميثاق التأسيسي سنة 1945 وتنضمّ إلى المؤتمر التأسيسي دول أخرى غير غربية، بينها الهند ومصر والعراق. وعلى نحو ما، ظلّت المنظمة تخضع لضغط المفاهيم الغربية ذاتها حتى عام 1946، حين أصرّ جوليان هكسلي، عالم الأحياء البريطاني وأوّل مدير عام للمنظمة، على صياغة «إيديولوجيا كونية موحّدة» تكون بمثابة الفلسفة العليا للمنظمة، وتُلزم بالتالي جميع الدول الأعضاء. ولكنّ السؤال الذي أثير يومها، ما يزال يُثار اليوم أيضاً، بالمشروعية ذاتها، وأشدّ ربما: هل نجحت المنظمة في تجاوز ضغوط الفكر الواحد، الفكر الغربي تحديداً، وهل من مكان فسيح عادل للقِيَم الأخرى؟

تاريخياً، في المقابل، بات من المعروف أنّ ولاية الإسباني فدريكو مايور (1987 ـ 1999) شهدت سلسلة «إصلاحات»، كانت في الواقع سلسلة «مراجعات»، للسياسة التي كان قد انتهجها السنغالي أحمد مختار أمبو (1974 ـ 1987)؛ وجلبت على اليونسكو اتهامات «التسيّس»، وشيوع مناخات وُصفت بأنها «عالمثالثية» و«معادية للغرب»، الأمر الذي تسبّب في انسحاب أمريكا ثم بريطانيا وسنغافورة. واستطراداً، هل يدور «صراع ثقافات» في اليونسكو، هو الوجهة الأخرى التطبيقية، التربوية والتعليمية والعلمية، لمفهوم «صدام الحضارات» الأشهر؟ أم هو صراع عوالم، بدليل عجز الدول النامية (باستثناء السنغال، لأنّ الرئاسة المكسيكية لدورة 1848 ـ 1952 كانت تكميلية في الواقع) عن بلوغ موقع المدير العام؛ بصرف النظر عن العوامل الذاتية التي تخصّ تبعية أنظمة، أو بؤس حملاتها، أو ضعف مرشحيها، أو صراعاتها البينية؟

وإذا كان المؤتمر العام للمنظمة قد نجح في اتخاذ بعض القرارات، الثقافية والتربوية والآثارية، التي تخدم قضايا أمم غير غربية، بسبب مبدأ التصويت بالأغلبية؛ فمن الصحيح، أيضاً، أنّ تحكّم القوى الغربية الكبرى في الحصص الأعلى في ميزانية المنظمة، ظلّ يمنحها ما يشبه حقّ النقض، إنْ لم يكن سلطة الفرض، في رسم سياسات كبرى عريضة، ومصيرية. ومع انتخاب أودري أزولاي في موقع المدير العام، مؤخراً، تكون فرنسا رابع قوّة استعمارية سابقة (بعد بريطانيا وإيطاليا وإسبانيا) تتصدر هرم المنظمة؛ وليس هذا بالمحكّ العابر، أو لا يصحّ أن يكون معياراً ثانوياً، بالمعنى الثقافي والتربوي على الأقلّ!

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى