صفحات الثقافةعلا شيب الدين

امرأة سورية

علا شيب الدين

لم تكن لتستسلم للغواية ذاتها التي طالما استسلمت لها الغالبية الساحقة في منطقتها، غواية التماهي مع هوية “كمّية” أقلّوية، ومع السلطة الأسدية في زعمها “حماية الأقليات”. ولم تكن لتستسيغ الانتماء إلى “هوية ثقافية اجتماعية دينية طائفية” لم تشعر قط أنها تخصّها أو تعنيها. هي لطالما أمضت شطراً من حياتها قبل اندلاع الثورة، ولا تزال بعد اندلاعها، باحثةً عن هويتها الأرحب والأعمق والأصدق.

دوماً، كان صعباً عليها أن تكون من ذلك الطراز من البشر، الأفقي، المتكيف، المتمدد مع الحياة بشكل أبله. لذا كانت الرغبة الجامحة في التأمل والتفكير في ما ليس مفكَّراً فيه، رفيقتها أنّى اتجهت، من دون أن تشرد عن ذلك في علاقات اجتماعية من مثل الزواج والإنجاب وغير ذلك. تأمّلها ليس من النوع المترَف، بل يمكن القول إنه سيرٌ على رؤوس الحواس، صمتٌ في زمن الضجيج، يعبُّ من كل شيء ولا ينفصل عما يدور في الحياة اليومية.

حدَثَ في “حافلة أقلوية”

كالعادة، لم يكن متاحاً لها ترَف الركوب في حافلة أفضل. اختارت مقعداً جلست فيه إلى جانب طالبة جامعية تدرس في كلية العلوم السياسية، كانت مثلها عائدة إلى محافظتها من العاصمة دمشق، إلا أنها لم تكن مثلها في ما يخص الموقف من الثورة. عرفتْ ذلك بعد نقاش قالت فيه الطالبة: “ما دَخَلْني بالسياسة”. جملة انضمَّت بدورها إلى ركام الأشياء التي دائماً ما تدفعها إلى التعصيب والانفعال والإرهاق الذي يفضي في كل مرة إلى وحدة أشدّ إيغالاً في نفسها. هكذا كانت طوال سني الدراسة الجامعية وما قبل الجامعية، يؤذيها النمط المعتكف من الحياة والمكتفي بالتماهي مع السلطة، أي سلطة. سنوات ما كانت فيها لتطيق فكرة أنه لا يمكنها الحصول على أي شيء ما لم تحترف أسلوب السلطة ومنافقيها، وأنه يجب ألا “تحمل السلّم بالعرض”، كما كان ينصحها القاصي والداني!

¶¶¶

لم تؤثِّر الجملة تلك على أعصابها توتراً فحسب، بل حملتها أيضاً على مغادرة المقعد، لتجلس في مقعد آخر خلف السائق. مقعد مطلّ على الواجهة الأمامية للحافلة، وعلى الطريق السريعة الماضية أمامها بلا هوادة، الطريق التي يتجلى فيها الماضي والحاضر والمستقبل دفعةً واحدة. في هذه المرة، كان جارها رجلاً أربعينياً، يحمل في يده محفظة تقليدية تشير إليه كموظف حكوميّ. لم يكلّم أحدهما الآخر، وخصوصاً أنها كانت لا تزال محبَطة ومتأثرة بحديث مزعج انتهى للتوّ في مقعد آخر.

¶¶¶

مضى نحو ربع ساعة على انطلاق الحافلة من الكاراج، قبل أن يوقفها في الطريق حاجز عسكريّ أمنيّ. صعد الحافلة عنصر تفصح هيئته عن عمر لا يتجاوز العشرين، وبدأ يطلب الهويات الشخصية من الركّاب. كانت هي أول من باشر مهمته معها، كونها تجلس في المقعد الأول. في أثناء إخراج هويتها من الحقيبة، حدجته بنظرة مستاءة وقالت: “اطمئن نحنا سوريين، غريب وعيب يكونو الناس مضطرين يوقفو على حواجز عسكرية ويطالعو هوياتهم الشخصية داخل بلدهم”، فأجاب: “نحنا عمندوِّر على مخرِّبين”، ردَّت: “روحو دَوْرُو عليهم داخل إسرائيل”. اشتدّ تنفسَّه وارتفع ضغطه، لكنه في ما عدا ذلك ثابرَ على طلب هويات الركّاب، وحين انتهى، عاد إليها سائلاً: “شو قصدك من كل شي حكيتيه؟”. كانت حانقة جداً إلى درجة الرد: “روح من وجهي”. حدَّق فيها بوجه كأنه قُدَّ من حجارة، ثم أمر السائق بأن يأخذ أقصى يمين الشارع، وقفز من باب الحافلة فوق درجتين، متجهاً إلى ساتر تُرابيّ، خلْفه ما يشبه الخيمة، فيها أسرّة حديد “عسكرية”، انتصب أمامها عمود رُبِطت إلى وسطه بواسطة حبل، صورة من كرتون لبشار الأسد يلبس فيها نظارات شمسية سوداء، وعلى قمته ترنَّح علم “الدولة”، متشحاً ببقايا شحم أسود، وقد التهم الاهتراء جزءاً من الخطّين الأحمر والأسود.

¶¶¶

عاد العنصر برفقة أحدهم، يبدو أنه كان الأعلى سلطة في ذلك الحاجز. كان مدجَّجاً برشاش، وعلى خاصرته اليسرى تدلَّت قيود معاصِم (كلبشات) معلَّقة بالحزام. كانت مبلبلة الذهن. شعرتْ بنبض قلبها يتسارع. تساءلت في سرِّها عما يمكن أن يحدث. جال عقلها بين الخواطر: أَتتصل بالهاتف الخليوي بأخيها تخبره أين هي الآن وماذا يحدث؟ أَتبعث رسالة؟ أَتواجِه أم تصمت و”تعدِّيها”؟ هناك، في أعماق صدرها، كانت تشعر كم هي وحيدة في هذا العالم ومرمية بطريقة قاسية، وكانت تفكر في أن الوحدة نفسها هي التي تجعلها دوماً تدلي بما لا يجسر أحد على الإدلاء به. فهي ليست من النوع المشاغب أو المشاكس، ولا تتقن الاحتيال، ولا تقصد المغامرة المجانية ولا المجازفة العبثية، بل ببساطة، هي تجد نفسها تفعل هذا وتقول ذاك من دون سابق تخطيط، كرغبة في “ممارسة” ما تتأمله في فكرها، وتوقاً إلى معنى ما.

¶¶¶

بينما كان الجميع في حال ترقّب وانتظار ما ستؤول إليه الأمور، راحت ترقب من النافذة مشهد استجداء السائق عنصر الأمن “ذا الكلبشات”، ودفعه برفق بكلتا يديه إلى الوراء والتوسّل إليه، في محاولة منه لمنعه من صعود الحافلة. بدا لها المشهد مجرّد تمثيل يقصد ممثلوه إخافتها فقط ربما، ثم سرعان ما قفزت إلى ذهنها ذكرى تتقاطع كثيراً مع المشهد نفسه. ذكرى أمها التي كانت تدفع أباها عنها قبل أن يوسعها ضرباً، راجية: “خَلَصْ سامحها هذي المرة، بتوعدكْ ما تعيدها مرة تانية. مجنونة لا تعتَبْ عليها”. وقفزت إلى ذهنها أيضاً ذكرى المدرِّسة في الصف الخامس، التي جاءها مرة تلاميذ يشكونها إليها، فنصحتهم: “خوثة، أتركوها لا تردّوا عليها”. وقد زاد على تشابه المشاهد تشابهاً، أن الرجل، جارها في المقعد، قال لـ”ذي الكلبشات” حين صعد أخيراً إلى الحافلة، وبدأ التحقيق معها: “خَلَص اتركها، بتوعدكْ ما عاد تعيد هذا الموقف التافه”، ثم ختم كلامه بأن طلب إليها أن تعتذر من “ضابط الأمن” بحسب وصفه. لم تستجب طلب الرجل في الاعتذار – مع أنها كانت خائفة- بل لبثت هي و”ذو الكلبشات” قرابة ثلاث دقائق يحدِّق أحدهما في الآخر. كانت نظراته ممعنة في الحقد، والارتباك أيضاً، عندما قال لها بقصد تكريس مزاعم النظام عن “الخونة والعملاء” في أذهان مَن يسمعه من الركّاب في آن واحد: “عبتقولي روحو دَوْرو على المخرِّبين في إسرائيل؟! شو إعملك إذا كل إسرائيل هون؟”. لاحظت أن “ذا الكلبشات” كان غير جاد في أذيتها، إذ لم تكن هناك أوامر على ما بدا لها، تسمح بـ”شحط” “أقلوي/ة” كما يحصل لـ”أكثري/ة”!.

¶¶¶

بدت الحافلة كأنها نموذج مصغَّر عن “مجتمع أقلوي”، وما دار فيها كان ربما يكثّف “موقف” المجتمع نفسه من الأحداث التي تعصف بالبلاد، إذ ظل قسم من الركّاب صامتاً لم ينبس ببنت شفة، ولم يطرف له جفن، كأن ما يدور من حوله لا يعنيه في شيء، وانقسم البعض الآخر بين مؤنِّب ومعاتِب، ومتعصِّب، ومساوم، وراغب في التهدئة، وكاره، ومتثاقف، ومستعرض، ووسطي، ومتطرف…إلخ. بدا ذلك كله عندما حاولتْ بشكل تلميحي غير مباشر، الاستعانة بالركّاب واستمالة عواطفهم عبر القول بصوت مسموع: “أنا بشو غلطت؟”، فقاطعها في اللحظة نفسها صوت نسائي كاره ويعتمله الغضب: “بَس تكوني وحدك تصرّفي على كيْفك، ما حدا مضطر يدفع الثمن معك”. أما الغالبية فقد آثروا تأنيبها. وكان التأنيب نابعاً على ما بدا لها، من ذهنية أبوية طائفية تنظر إلى الشخص بوصفه ابناً لـ”الجماعة”، لا يجوز له الانفراد بالرأي أو الشذوذ عما تتبنّاه الجماعة، وتعتبر الحالة الفردية، الفريدة والمتفردة، توريطاً للجماعة بكليتها، وإساءة لسمعتها أمام “الخارج”.

¶¶¶

عندما علّق أحد المزايدين بلؤم يقصد التناهي إلى سمع “ذي الكلبشات”: “معارَضة زبالة، البلد مليانة عصابات، وفيه كَمْ كلب بدْهم ترباية”. وشحَنَ آخر الأجواء المحمومة أكثر بالقول: “يا جماعة ما عاد حدا متحمِّل غلاء المعيشة وأجرة المواصلات صارت نار، كلّو بسبب هالحرية إلّي طلعولنا فيها”؛ عَلا صوت الرجل الجالس إلى جانبها: “هلّق مش كل واحد يعمل حالو بطَل زمانو على المخلوقة! رجاءً أُسكُتو”. ثم وجّه الكلام إليها: “إذا بدْهم ياخذوكي ما رح نسمحلهم لأنك بنت بلدنا وما منْكون رجال إذا ترَكْناكي”. غير أنه، كمَن تدارك خطورة ما يقول وضآلته أمام ما يطرح، أضاف: “أو يمكن وقت الجد نتركك، الواحد ما بعود يسأل غير عن نفسو. شو بعرِّفني!”. أما هي، فقد احترمت الجملة الأخيرة. لا لأنها تستحق، بل لأنها أصدق من سابقتها.

¶¶¶

شرد فكرها قليلاً في “الرجولة” بمنطقتها الغارقة في أقلويتها. الرجولة التي طالما صُدِّعت الرؤوس بها قبل اندلاع الثورة، ثم تصدَّعت بعد اندلاعها، ولم يبق منها سوى بعض الاستعراض الذكوري الهشّ في “حماية نساء الجماعة”. قطعت شرودها يدٌ ربتت كتفها من الخلف. استدارت، فتلاقى نظرها بنظر امرأة تقول لها بلهجة ودّية: “الأمن عبيطلب هوياتنا بقصد حمايتنا، لا تفهمي الأمور خطأ”. بيد أنها كانت تفهم الأمور جيداً إلى درجة إشاحة وجهها بسرعة عن المرأة. فهي ابنة المنطقة والثقافة نفسهما، وتعرف ما عنته المرأة بـ”حمايتنا”، لذا لم تشأ أن تدخل معها في أيّ نوع من التواطؤ، حتى لو كان مجرّد مساومة بواسطة النظر بالعيون فقط. مع أنها كانت في أمس الحاجة إلى “احتضان اجتماعيّ” ينتشلها من شعورها المتعاظم بالوحدة، والرفض والنبذ.

¶¶¶

أصخت السمع إلى صوت أحدهم يتحدث إلى المرأة التي كلّمتها للتوّ. نتفٌ صغيرة من الكلام الذي بلغ سمعها، من مثل: “ما بيطلَع بإيدنا نعمل شي، ما إلنا غير نبقى مع النظام (القوة) لنشوف لوين رايحة الأمور، نحنا مش طالِعلْنا شي من حدا”. شرد فكرها ثانية في ذلك “الابتزاز الأقلّوي” القاصد إلى اصطناع تصديق النظام وروايته عن “العصابات المسلحة”، و”حماية الأقليات”، بغية تحصيل ما يمكن تحصيله من أيٍّ كان، عبر ادعاء “الضعف الأقلوي”، و”الحاجة إلى الطمأنة”. بدا التصديق ذاته، بالنسبة إليها كأنه “عقد سياسي أقلوي”، اتُّفِق عليه ضمنياً، رمزياً، ومن دون قصد.

¶¶¶

سألها “ذو الكلبشات”، بعدما ألقى نظرة سريعة على الكتب التي تحضنها بين ذراعيها: “ما علَّمتكم سوريا؟!”، ثم أدار ظهره، وبشكل سمج يعوزه الأدب والتهذيب، قال للسائق في أثناء نزوله من الحافلة: “حرِّك يا معلِّم”. كانت تعلم أنه سأل ولم يكن ينتظر إجابة، ولا هو في وارد احترام العلم والمتعلِّمين أصلاً، إنما ألقى بسؤال أمنيّ ملغَّم، يشير إلى “خيانة” مَن يعارض “سوريا الأسد”، هذه التي لطالما “علَّمت” الناس “مجَّاناً”، و”أطعمتهم” و”عالجتهم” من وجهة نظر “أمنيّة”!.

¶¶¶

مع أنها ارتاحت بعض الشيء، حينما غادر “ذو الكلبشات”، وانطلقت الحافلة من جديد، إلا أنها لم تستطع حبس دموعها التي هطلت على خدّيها فجأة. أدارت وجهها صوب النافذة على يسارها، وراحت تبكي بحرقة. لم تكن الدموع فقط نتيجة لحظات عصيبة مقزِّزة عاشتها. فقد كان “السؤال” الأخير الذي رماه “ذو الكلبشات” بسرعة قبل أن يغادر موجِعاً أيضاً، وخصوصاً أنه أجَّج في داخلها ذكريات التشرد والبؤس، وقسوة البحث عن عمل في “سوريا الأسد” وذلّه، والمعاناة التي تحمّلتها في سبيل إنهاء المرحلة الأولى من الدراسة الجامعية بالاعتماد شبه المطلق على ذاتها، والمسابقات التي كانت تنجح فيها مراراً من دون أن يتم تعيينها، وبقاءها بلا عمل يمكن أن تعتاش منه ويساعدها في تحقيق حلمها في متابعة الدراسة في الماجستير.

¶¶¶

كان ذلك كله، قبل اندلاع الثورة. لكنها بعد اندلاعها، ما عادت تفكر في وظيفة حكومية، على الأقل قبل أن يسقط النظام. وما عادت تفكر كذلك في متابعة الدراسة في الماجستير، ليس فقط تضامناً مع كل تلميذ أو طالب اعتُقِل أو استُشهِد أو تركَ الدراسة بسبب قصف مدرسته أو جامعته مثلاً، بل لأنها باتت مقتنعة في أن مجرد ولوجها “مؤسسات” النظام، أو قبض معاشات من “المال الحرام”، هو اعتراف معيّن بشرعيته، وخيانة للثورة والثوار، ولدماء الشهداء.

¶¶¶

هكذا، أمضت الربع الأخير من “الرحلة” في الحافلة، وهي تهذي بالتغيير، وبالتعرّف إلى أولئك الذين يشكِّل التعرف إليهم فرصة مهمّة لاستفزاز شيء ما في داخل الآخر. أولئك الذين يتركون بصمة، وما انفكّوا يعودون إلى الأذهان مهما انقضى من السنوات.

¶¶¶

أمضت الرحلة وهي تبحث عن معنى. يحصل أن يفكّر المرء في البحث عن معنى حيث لا يمكن أن يكون ثمة معنى.

* كاتبة سورية

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى