أحمد عمرصفحات الناس

انتحار حلال/ أحمد عمر

 

 

ما جرى لي في عيد “الفاشينغ” في ألمانيا قصة حقيقية، غير متخيلة، وقد وقعت وقائع أشدُّ من واقعة عيد الفاشينغ الألماني اللطيفة مقارنةً بها. ففي إحدى سنوات أوائل الثمانينيات، مرّتْ سيارة سوداء فاخرة جداً، لا أعرف “الفاشينغ” تبعها، من أمامي، في الشارع العام، وكانت تنطلق بسرعةٍ خطرة، فنظرت إلى سائقها نظرة احتقار، فالتقط نظرتي التي ساءته بغريزة الذئب، وكبح السيارة كبحاً جعل الطريق يئن من الألم، وظهر أثر الكبح في جلده الأسود كدمةً سوداء، وخرجت منه رائحة حريق، خرج وكان مسلحاً، وصرخ يُنكر عليّ نظرتي، فأوضحت له بحلاوة الروح التي صارت في الحلقوم، أنَّ سيارته رائعة، وظننتها مركبةً فضائية، وحمدت الله أنه صرف النظر عن قتلي، إمّا لجوابي الذليل الذي استحسنه وأرضى غروره، أو لوجود شهودٍ على جريمة قتلي، إن أقدم عليها. سأظل أروي هذه القصة، كما كان دوستوفسكي يروي قصة خلاصه من حبل المشنقة.

وفي سنة 2000، سعيت إلى استخراج وثيقة اسمها “خلاف المقصود”، والتي حملتْ عنوان روايتي الوحيدة، وهي قصصٌ يرويها راوٍ واحد. من جملة الدوائر التي قصدت، مركز الشرطة في العاصمة، لاستكمال الثبوتيات والبراهين، على أني شخصٌ غير المقصود بالمطلوب للعدالة العمياء، ويحمل اسمي الثلاثي، فحقق معي شرطي قبل الدخول، ثم سمح لي بالدخول إلى مبنىً كتب في أعلاه “الشرطة في خدمة الشعب”، دلّني الشرطيّ على المكتب المقصود، وكنت قد بدأتُ ما يسمونه في سورية “المعاملة”. شرحتُ للضابط ما المقصود بالوثيقة المطلوبة، وكان جلُّ الموظفين من الأقليات، فلما عرف بالواقعة، أخرجَ قيد الكلبشة من نطاقه، ووضعها في يدي، وقيّدني بشبكة التدفئة المعدنية، فذعرت، آه من قيده أدمى معصمي، وما أبقى عليّ. أخرجتُ له بطاقة مهنتي، بيدي الثانية الحرة، فأنا موظف من الدرجة الأولى، وحاصل على شهادة جامعية محترمة، وثنيتُ عليها ببطاقة صحفيةٍ من إحدى الصحف المستجدة، الأنذل من هذا الضابط برتبة مساعد، كان القاضي المشرف على متابعة قضية سميي المطلوب في قضية نشل، رفض مساعدتي، وطلب مني إحضار الشخص المطلوب.. سميي، كان يريد رشوة ابن الحرام.

وفي سنة 2004، وكانت سورية واحةً للأمن والاستقرار والأعراس والاحتفالات، كنت واقفاً على مفرق قريةٍ من قرى حمص، غايتي زيارة صديق يعمل حلاقاً، قريب من موقع عملي الجديد، وكان عملاً في البرية، فوقفت سيارة سوداء كتيمة النوافذ، لا أعرف الفاشينغ تبعها، والزجاج الأسود ممنوع في سورية، إلا على أولاد الأكرمين. فيها رجلان، سألني الثاني بجانب السائق، بغضب عن سبب وقوفي في هذا المكان.

قلت مذعوراً بهدوء تلميذٍ لم يكتب واجبه: أنتظر وسيلة نقل.

قال: هات هويتك… سبب وقوفك هنا؟

قلت: أريد زيارة حلاق القرية. ضحكتُ، وقلتُ ألاطفه، كما يُلاطَف الوحش: شعري طويل، أنا مهندس، ونحن نركب شبكات كهربائية، وذاك هو مخيمنا.

صار وجهي على الأرض من الذل. رمى لي بالهوية، غادرتْ السيارة الشبح “الفاشنغ”، فبصقتُ على أمّ السائق ومرافقه القبيح.

وصلت إلى الحلاق، كان وجهي مقلوباً مثل الجراب، سألني عن “الفاشنغ” الذي أريده لشعري، فقلت: احلق شعري على الصفر، مثل النسّاك البوذيين.

كان مزاجي قد تعكّر، فعدتُ وشعري طويل من غير حلاقة، وكان الناشط الدرعاوي الفدائي، أيمن الأسود، قد نذر ألا يحلق شعره حتى تتحرّر سورية، وأخشى أن يغرق في شعره. لقد جعله النظام من “السيخ” الهندوس.

في الشهر الأول من الثورة السورية، جرى حوار قصير بيني وبين أحد رفاق الطغمة المحتلة للشام، وكان عدد الشهداء وقتها قابلاً للعدّ، وبالعشرات والمئات، فقال لي: أنتم تنتحرون يا غالي.. سنحرق سورية على رؤوسكم.

كان صادقاً، وكان يدرك أن الحرية ستجعل الشعب السوري شعباً يابانياً من الساموراي، ينتحر على الطريقة الإسلامية بقولة حقٍ أمام سلطان جائر.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى