صفحات سوريةميشيل كيلو

انتخابات تحت المدافع!


ميشيل كيلو

في تبرير فشل انتخابات مجالس الإدارة المحلية، التي جرت قبل أكثر من أربعة أشهر، قال الرئيس بشار الأسد إن الوضع الأمني الذي فرضته «العصابات المسلحة» على البلاد منع المواطنين من القدوم إلى مراكز الاستفتاء. في وصفه لواقع الحال آنذاك، تحدث مهندس الحل الأمني عن طرق دولية مقطوعة ومدارس منسوفة، وخطوط توتر عال مدمرة، ومراكز حزبية مخربة… إلخ. واليوم، وبعد مرور هذه الفترة غير القصيرة على تلك الأيام، وبعد تزايد انتشار السلاح وأعداد المسلحين، وازدياد جسم الجيش السوري الحر صلابة ومناعة، بعد أن نجح على مدار أكثر من شهرين في احتواء هجمة ضارية شنتها بمختلف صنوف الأسلحة قوات متفوقة كثيرا عليه، هل يعقل أن تتم انتخابات تشريعية في سوريا، التي خرج قسم لا بأس بمساحته من أرضها، وعدد لا بأس بضخامته من شعبها، على السلطة، وصار عمليا خارج قبضتها أو سيطرتها؟ أطرح هذا السؤال على صعيد إجرائي صرف: أين مثلا ستتم الانتخابات في مدينة حمص، التي دمر ثلثاها، وهجرها معظم شعبها، وتحولت إلى مدينة خراب وأشباح وقتل؟ أم أن الانتخابات لا تحتاج إلى الهدوء والأمان، وقبل كل شيء الحرية المفقودة تماما اليوم في سوريا بدلالة المعارك اليومية التي تتم في مراكز مدينة دمشق، التي لطالما تغنى النظام بخلوها من المظاهرات، لكنه يجد نفسه الآن مجبرا على الإقرار بامتلائها بالسلاح والانفجارات والمسلحين! وأين سيتم في بلاد يبلغ عدد الملاحقين من خيرة شبابها وشاباتها قرابة مائة ألف، وعدد قتلاها وجرحاها عشرات الآلاف، ومفقوديها نحو سبعين ألفا، ومن دخلوا السجون وخرجوا منها قرابة نصف مليون مواطن؟ ثم من هم الذين سينتخبون، إن كان عدد من تطولهم يد الأمن وبنادقه على هذا القدر المخيف من الضخامة، وكان استهدافهم يعني استهداف أفراد أسرهم وأقاربهم، الذين يؤخذون رهائن إلى أن يسلم الملاحقون والمطلوبون أنفسهم، وهم بدورهم عشرات آلاف النساء والرجال والأطفال، الموزعين إلى أركان الأرض السورية الأربعة، التي يتسع فيها حجم التمرد والثورة، وينتشر الجيش والأمن في كل مكان منها؟ وهل توجد بعد في إدلب وريفها، ودير الزور وريفها، وحمص وريفها، وحماه وريفها، ودرعا وريفها، ودمشق وريفها، والرقة وريفها، والحسكة وريفها، وحلب المنتفضة وريفها، مبان تصلح لأن تستخدم مراكز انتخاب أو اقتراع أو استفتاء؟ ومن الذي سيخاطر بحياته ويذهب لانتخاب شخص يعلم علم اليقين أنه سيكون «رجل كرسي»، كما يسميه السوريون بسخرية، «لا خير فيه، لا يقدم ولا يؤخر، وليس له رأي ولا يستشار في شيء»، بل هو «كمالة عدد»، كما يقال، لذلك لن ينال ذرة احترام أو تعاطف في الشارع، لمجرد أنه رشح نفسه في الظروف الحالية، التي لم يعد أحد يجادل في أنها ظروف نشأت عن عقلية «أحكمكم أو أقتلكم»، التي ليست بحاجة إليه أو إلى أمثاله لستر حقيقة نواياها ومواقفها من الشعب، بعد أربعة عشر شهرا من سفك الدماء في كل مكان!

هل يخاطر السوري بحياته كي ينتخب شخصا يكن له الاحتقار، يخدم نظاما يكرهه، ويعلم أنه سيؤدي دورا معاديا له يسهم في اضطهاده وإذلاله وإفقاره، رسمته أجهزة أمنية تطلق النار عليه؟ يقتصر دوره كمواطن على منحه صوته لا لكي ينتخبه، بل ليثبت تعيينه الأمني في مجلس هتافين شتامين لم يقل إلى اللحظة حرفا واحدا ولم يفعل أي شيء خلال نيف وأربعين عاما لصالح الشعب، ولم يدافع، ولو مرة واحدة عنه، مجلس لم يكن له بل عليه، ولم يشعر غير عدد قليل جدا من أعضائه بالإحراج، ولم يقولوا شيئا ضد ما يتعرضون له من تهميش، ويرتكب باسمهم من مجازر صارخة تستمر منذ أربعة عشر شهرا دون توقف أو هدنة! ثم، ما الخدمات التي قدمها هؤلاء للشعب خلال السنوات الأربعين الماضية، ومن شأنها أن تجعل المواطن يخاطر بحياته كي ينتخبهم من جديد، علما بأنه قد يقتل على حاجز أمني، أو يعتقل وهو خارج من قريته أو مدينته المحاصرة أو داخل إليها، وأنه سيخضع لمختلف صنوف الإذلال في طريقي الذهاب والإياب؟ وهل ينتخب مواطن يموت من أجل حريته شخصا يعاديها ويقف إلى جانب من سلبوه إياها، ويتصدون له بالسلاح كي لا ينجح في استعادتها منهم بالذات؟

يريد السوريون برلمانا يقوم على أنقاض ما يسمونه «مجلس الشعب»، والشعب منه براء. يريد الشعب برلمانا يدخله أناس ينتمون إليه، يدافعون عن مصالحه ضد السلطة ولا يقفون مع السلطة ضده، يستطيع تغييرهم بإرادته الحرة ولا يُفرضون عليه من الأجهزة الأمنية لأنه بلا إرادة. ويريد السوريون برلمانا يكون جزءا من نسيج وطني وليس مجلس شعب هو فرع من فروع السلطة التي تعين أعضاءه وتوجهه وتشرف عليه وتعاقب من يشق عصا الطاعة من أعضائه أو ينتقدها، مثلما فعلت في الماضي مع نائبين معروفين.

إلى أن يقوم هذا البرلمان بعد انتصار الثورة التي ستأتي به، لن ينتخب أحد أو يخاطر بنفسه وبسمعته من أجل ممثلي أجهزة سيمضون أربعة أعوام في مكان لا يستحقون الدخول إليه، ارتبط في وعي السوريين بالحرية ومقاومة الطغاة، هو مبنى البرلمان، الذي وقف إلى جانب الشعب، وأرغمت مواقفه الفرنسيين على قصفه وقتل حراسه الثلاثين، مثل مفخرة من مفاخر الشعب السوري قبل أن يصير قبة يتجمع تحتها هتافون باعوا ضمائرهم، لا هدف لهم في هذه الحياة الدنيا غير كسب رضا من اشتراهم بأبخس الأثمان!

ليس لانتخابات مجلس الشعب غير معنى وحيد يحاول النظام التستر عليه: هو تصميمه على أن لا يغير أي شيء، وعلى رفض تطبيق أي إصلاح، بما في ذلك ما أعلنه هو نفسه. هنا، وليس في أي شيء آخر، تكمن دلالة الانتخابات البائسة، التي ستبين مرة أخرى حقيقة موقف الشعب من النظام، وحقيقة النظام التي لم يعد بمستطاع أي ورقة توت ستر عوراته المفضوحة!

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى