صفحات مميزة

انتخاب ميشال عون رئيسا للبنان وتأثيراته على الحدث السوري -مقالات مختارة-

 

عهد لبنان الجديد واللاجئون السوريون في ضوء ما قاله الرئيس للصحافة الغربية/ حازم الامين

يبدو واضحاً أن قضية اللاجئين السوريين إلى لبنان ستكون أحد الملفات الرئيسة التي سينشغل بها عهد الرئيس ميشال عون، وهو أمر غير مستهجن إذا ما وضع المرء نفسه أمام حقيقة أن بلداً كلبنان استقبل عدداً من اللاجئين يساوي نحو ثلث عدد سكانه، مع ما يطرحه ذلك من تحديات لم يسبق أن واجهها بلد في التاريخ الحديث.

لكنه أيضاً سيكون مأسوياً إذا ما استعاد المرء خطاب الكراهية العوني حيال اللاجئين والذي مثل ذروته صهر الرئيس، الوزير جبران باسيل.

ومن المفيد أن يبدأ المرء بالنقاش مع «العهد الجديد» في هذا الملف تحديداً، بعبارة قالها الرئيس السوري بشار الأسد أمام مجموعة من الصحافيين الأجانب في اليوم الذي أعقب انتخاب عون رئيساً للجمهورية اللبنانية، وهي: «إن النسيج الاجتماعي السوري اليوم أفضل مما كان عليه قبل الحرب».

وبغض النظر عن الموقف الأخلاقي من كلام الأسد، فإن الترجمة العملية اللبنانية لهذا القول يجب أن تعني أن الحكومة السورية لا ترى أن في إعادة اللاجئين إلى بلدهم فائدة لسورية، بل أن عودتهم تعني بالنسبة إليها «إفساداً للنسيج الاجتماعي الذي تحدث عنه الرئيس».

والحال أنه من غير المتوقع أن يباشر العهد اللبناني الجديد تناوله هذا الملف انطلاقاً مما تمليه هذه الحقيقة من خطوات. ذاك أن خطاب العونية، على ما خبرنا، جزء من خطاب الترانسفير الذي كشفت مقولة من بات بعضهم يصفه برئيس «نظام الإبادة الجماعية» عن أنه في طريقه للتحول مقولةً رسمية للنظام.

ما إن وصل ميشال عون إلى بعبدا حتى تضاعفت مخاوف اللاجئين السوريين في لبنان، وترافقت مع تساؤلات عن المصير. فرئيس في سورية يقول إن سورياه لم تعد بحاجة إليهم، ورئيس في لبنان يطمح إلى إبعادهم عن ملجئهم اللبناني، والمجتمع الدولي يمارس ضغوطاً هائلة للحؤول دون دفعهم إلى دول اللجوء الغربية.

وإذا وضع المرء هذه الخريطة أمامه ليستنتج منها نيات العهد اللبناني الجديد حيال هذه القضية، فالسيناريو الذي سيخلص إليه يتمثل في أن «سورية الأسد» أو «سورية المفيدة» لم تعد تتسع لهؤلاء، و «لبنان حزب الله» سيمثل وجودهم فيه خريطة ديموغرافية لا تنسجم مع الطموحات المذهبية للحزب، وأوروبا ليست في وارد استقبالهم، فلا يبقى والحال هذه سوى نقلهم إلى شمال سورية، تلك المنطقة التي يرى الأسد أنها خارج سورياه.

كلام كثير بدأ يرشح عن تطلع العهد الجديد إلى ملاقاة الأسد في رغبته إبعاد اللاجئين عن تخوم «سورية المنسجمة». والمهمة وإن انطوت على قدر جامح من الخيال، من غير المستبعد أن تراود المخيلة الجامحة لمتوهمين نصراً من نوع ذلك النصر الذي حققوه في الانتخابات الرئاسية، لا سيما أن هؤلاء يقفون أمام خصوم لبنانيين سنّة أعلنوا استسلامهم واعترفوا بهزيمتهم.

في خطاب «الهلع اللبناني» من اللاجئين السوريين انعدام نزاهة مستفز حقاً. فلبنان الرسمي متورط حتى عنقه في مأساة هؤلاء، ذاك أن حزباً لبنانياً رئيساً، وهو شبه حزب حاكم، مسؤول عن هرب هؤلاء من مدنهم وقراهم. وهذا ليس تشبيهاً بعيداً، فاللاجئون السوريون إلى لبنان، معظمهم من مناطق في سورية قاتل فيها «حزب الله». فالقُصير والزبداني ويبرود وحمص، وأرياف هذه المناطق، يشكل أبناؤها أكثر من نصف عدد اللاجئين إلى لبنان! والحزب يسيطر الآن على هذه المناطق، من دون أن يكون مُطالباً من الحكومة اللبنانية بإعادة اللاجئين إلى بلداتهم مع ما تتطلب هذه الإعادة من ضمانات.

لكن انعدام النزاهة في التناول اللبناني لقضية اللاجئين لا يقتصر على غض النظر عن الدور «اللبناني» في مأساتهم، إنما يمتد إلى تضخيم الكلفة التي يدفعها لبنان جراء استقباله لهم. فالاتحاد الأوروبي يقول إنه يدفع سنوياً نحو 700 مليون يورو لتغطية أكلاف اللجوء إلى لبنان، وكذلك تفعل مؤسسات دولية أخرى، وهي مبالغ تتولى الحكومة اللبنانية وقنوات الفساد والهدر فيها تصريفها وفق مصالح جماعاتها.

اللغة العونية بحق اللاجئين تبقى لغة مشبوهة اذا ما استبعدت حقيقة المسؤولية اللبنانية عن مأساة هؤلاء. فالحزب الذي يقاتل في سورية يُمثل أكثر من نصف لبنان بين مناصر وحليف، وهو ممثل في كل مؤسسات الدولة والنظام، ولم يجد في هذه المؤسسات من يعترض مهمته في سورية.

لا يمكن استبعاد هذه الحقيقة عن تناول قضية السوريين اللاجئين إلى لبنان، فالقضية هذه ليست إنسانية فحسب، إنما هي في لبنان شديدة الارتباط بقرار «حزب الله» إلغاء الحدود وفتحها على الحرب في سورية، والبلد الذي لم يطرح على نفسه مهمة الوقوف في وجه قرار الحزب القتال هناك يجب أن يتحمل تبعات هذا القرار.

لكن، وبعد كلام الأسد الأخير، أصبحنا أمام حقيقة مختلفة. فلا عودة للاجئين إلى بلدهم. من الواضح أن هذا قرار قد اتخذ، ووفق هذا القرار فإن «حزب الله» سيوظف «الضغينة الاستقلالية» في مهمة جديدة، وهي العمل على مشروع تصدير اللاجئين إلى مناطق أبعد، وهذه من المهمات التي لا يرى الحزب أنها مستحيلة في ظل ما تشهده المنطقة من عمليات ترانسفير هائلة.

أما أن يوكل الحزب هذه المهمة إلى قوة سياسية وأهلية مسيحية، ففي ذلك لعب بمصير هذه الجماعة. ذاك أن الضغائن التي يمكن أن تولدها خطوة من هذا النوع، قد تتحملها أقليات كبيرة تساوم في نهاية المطاف على حصصها في الخرائط التي تُرسم للمنطقة، أما الأقليات الصغرى وغير المستقرة فاحتمال تحولها كبش فداء في صفقات الخرائط لن يحد منه غياب الفطنة لدى قادتها.

المهمة أكبر من قدرة المسيحيين على تأديتها، ونجاحهم في تحقيقها سينطوي على فشل أكبر، واستئناف العهد اللبناني الجديد لغة كراهية في حق اللاجئين سيكون مؤشراً إلى نهايات مأسوية.

الحياة

 

 

 

 

“شعب لبنان العظيم”/ حسام عيتاني

يحتاج المرء إلى نظارات سوداء كتيمة كي لا يرى حجم الافتعال في التفاؤل المعمم بين اللبنانيين. أو قد يحتاج إلى نظارات وردية زاهية ليقتنع بأن الأمور قد تتحسن ويتوقف الاندفاع نحو الدولة الفاشلة.

نزول أنصار التيارين، «الوطني الحر» و»المستقبل» إلى الشوارع للاحتفال بتولي ميشال عون وسعد الحريري منصبي رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء لا يزيد عن كونه إمعاناً في اصطناع فرح لا مكان له من الإعراب. ولعل التركيز على مظاهر الابتهاج غطى على تشييع أربعة عشر مقاتلاً من «حزب الله» لقوا مصرعهم (على دفعتين) في معارك حلب.

تقول ازدواجية الاحتفالات وسط الجنائز أشياء كثيرة عن الكيفية التي يتصور فيها حكّام لبنان الجدد القيام مهماتهم. سيكون لبنان وفقهم «عربة تسير بسرعتين»: الأولى هي استمرار المحاصصة بين زعماء الطوائف وممثليهم في الحكومة على غنائم المال العام، وإعطاء انطباع أن الأمور تسير على ما يرام في إدارة الشؤون الحياتية اليومية للمواطنين. والثانية الإصرار على الانغماس في حروب المنطقة والاعتقاد بأن وجود آلاف المقاتلين اللبنانيين في سورية واليمن والعراق، مسألة «تقنية» لا يجب أن تُعرض على النقاش العام ولا يجوز أن تؤثر في سير الحياة «الطبيعية». بكلمات ثانية: دعوا «المقاومة» تدافع عن لبنان في وجه التكفيريين في حلب وترسل المدربين إلى اليمن والعراق، واهتموا أنتم بالحصول على المزيد من القروض والهبات لتسيير عجلة اقتصاد متعثر وتأجيل الانهيار الاجتماعي قدر الإمكان.

يعتقد مروجو هذه الثنائية التي ستتبناها الحكومة المقبلة بالقدرة على القفز على أكثر من حبل في وقت واحد وفي إمكان عزل آثار التورط بالحرب السورية من خلال المزيد من القمع والإذلال ضد اللاجئين السوريين الذين تجري محاولات من أكثر من طرف لجعلهم موضع كراهية اللبنانيين مجتمعين.

بيد أننا نعيش في عالم يزداد الترابط بين مكوناته وتتداخل فيه العوامل المؤثرة. العالم الذي ينتظر نتائج الانتخابات الأميركية بعد غد الثلثاء، لا يهتم كثيراً بلبنان وما يجري فيه. لكن هذا الأخير سيضطر إلى تحمل عبء كل التغيرات التي ستفرضها نتائج الانتخابات الأميركية، وشكل العلاقات التي ستقيمها الإدارة المقبلة مع الأطراف الإقليميين وتصورها لإنهاء الصراع في سورية.

أمام وقائع شديدة القسوة تنتظر اللبنانيين، ليس لدى الطاقم الجديد – القديم غير الفولكلور ملجأ. فجرت استعادة زجليات عن «الرئيس القوي» الذي «صنع في لبنان» وهو في الوقت ذاته والد للجميع (الشعار الموازي لـ «كبير العيلة» الذي تغنى به أنور السادات)، في حين لا تفوّت إيران فرصة للتذكير بأن انتخاب ميشال عون انتصار صريح لسياساتها في المنطقة. صحيح أن الثبات على مبدأ ونهج ليس من صفات السياسيين اللبنانيين، لكن الصحيح أكثر أن الاعتقاد بسهولة إنهاء منظومة المصالح والعلاقات المكرسة منذ تفاهم مار مخايل في 2006، ينم عن تبسيط مُخلّ للأمور.

فوق كل ذلك، لا يندر أن يظهر على الشاشات من يستعيد كلمات من نوع «شعب لبنان العظيم» وهناءة العيش المشترك والاستقرار الذي ينعم فيه لبنان وسط عواصف المنطقة المرشحة أن تستمر لعقود مقبلة. ويبقى السؤال: ما الثمن الذي سيتعين على مواطني هذه البلاد دفعه، ثمناً لاستقرار شكلي يغطي التفسخ العميق؟

الحياة

 

 

 

 

 

صلاحية عهد ورغباته/ سامر فرنجيّة

نزل «الشباب» إلى شوارع العاصمة لتأمين سلامة مواكب مسؤوليهم المشاركين وراحتها في هذا اليوم التاريخي، حيث يُفترض انتصار الوفاق على الفراغ.

وتحضيراً للمعركة، أُفرغت المدينة من سكانها ليتمكن نواب الأمة من الوصول إلى المجلس المعطّل، ويبدأوا حربهم على الفراغ. وبعد بضع دورات من التسلية، اختاروا «بيّ الكل» كبديل عن الفراغ. بدأ «عهد جديد» بقيادة رجل بدا كأنه يدرك في لحظة إلقاء خطاب قسمه أنّ هناك بعض الرغبات التي تموت لحظة تحقيقها، ومعها كل الآمال والأحلام والانتظارات التي بنيت حياة بأكملها من حولها. تحقّقت الرغبة، وانتهى كل شيء.

صعد الرئيس إلى قصره، الذي كان في انتظاره منذ عقدين، وعاين مكوّنات عهده الجديد. هناك هذا الزعيم الشاب الذي يحمل إرث المشروع الاقتصادي، والذي ضحى بثروته من أجل الثورة. في الماضي، كما تذكّر الرئيس، كان هذا المشروع كفيلاً بحمل حكومات بأكملها ودفعها، وإن من خلال وعود لن تتـــحقق. فالإعمار والنهوض الاقتصادي شكّلا الرافعة لحكومات متـــتالية تاجرت بالتفاؤل الذي سببه انتهاء الحرب. بيد أنّ هذا المشروع تهرّأ مع مرور الوقت ليتحوّل النظام الاقتصادي إلى نظام أقرب إلى عملية سطو منظمة يقوم بها نوع من بورجوازية رثّة تدرك تماماً أن الانهيار بات قريباً. حتى القيّم على بقايا هذا المشروع، بات مصيره كمصير الاقتصاد، يبحث عما لا يزال يمكن تسليعه أو عن بعض مصادر الريع التي لم تجف. وقد يكون مطار عاصمة العهد الجديد أوضح مثل على تحوّل النظام من مشروع نيو – ليبرالي يحتاج إلى مطار فخم، إلى نظام ينظر إلى المطار كمعبر يمكن تسليعه من خلال خوات قانونية.

ربّما لاحظ الرئيس أن محاربة الفساد، التي شكّلت أحد مكوّنات خطابه، باتت شعاراً قديماً لا يصلح لنظام يشكّل الفساد عموده الفقري. بدأ يفكّر بهذه الأمور عندما فاجأه صهره ومعه مشاريع سدود، فضاعت الأفكار بين الخرائط.

بعدما خرج الصهر، عاد الرئيس إلى أفكاره، فنظر إلى المكوّن الثاني لعهده، المقاومة، وهي الركن الثابت الذي بنيت عليه جميع الحكومات السابقة. فانتصاره هو انتصار لخطها الذي هو أصلاً لا يُهزم. العهد إذاً آمن تحت عباءتها التي اضطر المرشح لأن يضحي بشعاراته السيادية لكي يحظى بدعمها.

بدأ يطمئن إلى عهده، لكنه تذكر الحرب السورية، وتحوّل مشروع المقاومة إلى مشروع حرب لا نهاية لها. حاول أن يتذكّر أولئك المقاومين المنظمين الذين شكّلوا هاجساً لباقي الأحزاب اللبنانية، لكنّ كل ما كان يراه حشود شعبية وسرايا فالتة وشهداء بالجملة. المقاومة باتت تحتاج الى من ينقذها من مآسيها، ولن تستطيع حمل هذا العهد الجديد، هذا إن لم تتفاقم أزمتها بعدما خسرت السلطة الرسمية للبلاد «عدوها» الداخلي الذي قدّم لها أفضل غطاء أيديولوجي على مدار السنوات الأخيرة. بدأ الرئيس يتوتر وهو يعاين هذا المأزق الذي ورثه، فيما عهده الجديد لم يبدأ، عندما ذكّره صهره الآخر بآلاف اللاجئين السوريين وضرورة محاربة الإرهاب.

بدأ يرتاح بعض الشيء وهو يتخيّل معركته لإلغاء الإرهاب، عندما تذكّر مأزقه الثالث، أي المكوّن الذي يقدّمه هو للعهد الجديد: استعادة المسيحيين دورهم وحقوقهم. خرج إلى شرفة القصر ليتذكر الآلاف من مناصريه الذين حوّلوا القصر الرئاسي إلى قصر الـــشعب. وربّما استشعر أن مسيحيي لبنان ارتاحوا بعض الـــشيء لكسر تقليد ما بعد الطـــائف الــــقائم على ترئيــــــس ماروني من خارج نادي السياسيين «الأقوياء». فهو، بهذا المعنى، أول رئيس فعلي لهذه الجمهورية تبعاً لمفهومه عن التعايش المؤسسي.

بيد أنه لم يبق الكثير مما يمكن أن يقدّمه لجمهوره على صعيد استعادة حقوق مغتصبة من دون أن يصطدم بصانعي الرئيس المتصارعين. يمكن أن يستكمل عملية تطهير التمثيل المسيحي من بعض «الدخلاء»، أو أن يعين بعض الموظفين التابعين له أو أن يصعّد شعبويته المعتادة. غير أنّ لحظة الاعتراف بأن الحقوق لم تغتصب من الآخر فقط، بل ضاعت نتيجة تحولات بنيوية من جهة وخيارات خاطئة من جهة أخرى، اقتربت، وقد تحدث ضمن عهده الجديد. كاد يندم لتحقيق رغبته، فدخل أعيان التيار ومعهم لوائح التوظيفات، فاستمع ونسي مأزقه لبعض الوقت.

وبعد خروج آخر عضو في الكتلة، ردّد الرئيس لنفسه أن هذا عهد جديد. لكنّه لم يستطع أن يتجاهل نكهة نهاية المرحلة التي تلازم عهده. فهناك جديد لم يستطع أحد أن ينكره: تحالفات سياسية تكسر اصطفافات السنوات الأخيرة، كتلة سياسية مسيحية قوية للمرة الأولى منذ نهاية الحرب، إعادة الحياة الى المؤسسات السياسية بعد سنوات من التعطيل، استبدال المشاريع السياسية المتصارعة بمنطق مختلف لم يتّضح بعد. هذا كله عائد الى صمودي، قال الرئيس، بيد أنّ نكهة الانتهاء لم تزل. فبدأ يراوده الشكّ في أنّه قد يكون صانع الجديد لكنّه ما زال ينتمي إلى القديم أو إلى ما قبل العهد الجديد. عنفوانه لن يساعده في وحدته الجديدة، شعبويته لن تتناسب ودوره كرئيس لما تبقى من البلاد، وأزمة مشروعه لم يعد من الممكن التغاضي عنها.

بدأ الرئيس يسأل نفسه عما إذا كان انتخابه اعترافاً بدوره في العهد الجديد أو عملية قربانية ضرورية للانتهاء من مرحلة عملية. جديد العهد هو التقاء الأزمات فيه، أما الخروج منها، فبات مستحيلاً ضمن المنطق السائد. أزعجته الفكرة، فصرخ لمعاونيه الذين جاؤوا محملين بصور الاحتفالات بانتخابه ومقاطع من مقالات التمجيد بالمحور المنتصر. نظر إليهم، وقرر فعل ما هو مقدور عليه، أي الهروب إلى أمام.

الحياة

 

 

 

 

الرئيس ميشال عون وطيف الشهابية المعلّق/ حسن شامي

عملية خلط الأوراق في لبنان جارية على قدم وساق. ويمكن التكهُّن بإعادة تركيب للمشهد السياسي بعد انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، وتكليف سعد الحريري تأليف حكومة وفاق وطني.

ومع أن الأمور جرت حتى الآن وفق ترسيمة تفاهمات متفق عليها منذ إعلان الحريري تأييده ترشيح عون، فإن وصول الجنرال إلى سدة الرئاسة في لبنان سيظل، في المدى المنظور على الأقل، حمّال أوجه ومسرح ظلال كثيرة. هذا ما يرشح من طرائق معظم اللبنانيين في مقاربة الحدث الانتخابي الرئاسي. وإذا كان اليوم الانتخابي مرّ بسلام ومن دون مفاجآت كبيرة مغايرة للتوقعات والحسابات، فإن الصورة المنبثقة من فوز عون تحفل بألوان تتعدى الأبيض والأسود المعهودين في زجليات الانقسام اللبناني. نقصد أن الحدث الانتخابي، أي فوز عون بموقع رئاسة الجمهورية، لا يصحّ اختزاله بالحديث عن رابحين وخاسرين، ترسم خانات ربحهم وخسارتهم على دفاتر قديمة وبأقلام طبشورية مبلّلة بالأهواء والنعرات الجاهزة.

والحال، أن مسارعة العديد من «فقهاء» الانقسام اللبناني ومؤدلجي نزاعاته المتعددة إلى تجهيز جردة الحساب كانت ضرباً من التسرّع. فاتتهم قاعدة معروفة هي أنه ليس في السياسة خصوم وأعداء دائمون. وليس هناك أيضاً أصدقاء وحلفاء دائمون.

والمفارقة، أن هذه القاعدة المستقاة من تجارب دول وأمم عريقة في السياسة وحسابات المصالح المتقلبة، ليست من النوع الذي يحتاج إدراكه إلى جهد معرفي كبير. فهو خبز السياسات اللبنانية اليومي قبل الوصاية السورية وأثناءها وبعدها. وهو خبز تسويات يومية يجري الإفصاح عنها بطريقة يختلط فيها الفولكلوري المتجذر في مخيلة الجماعات المتنازعة والمتنافسة وصفة السياسة المسقطة عليها في صورة اصطفاف إقليمي أو دولي أو الاثنين معاً. وقد يحصل داخل البيت اللبناني ذي المنازل الكثيرة، أن يجري إعداد الخبز في أفران حديثة أو على «الصاج» أو في خليط من القيم والممارسات المنتسبة إلى عالمين وزمنين متباعدين ثقافياً.

أقام لبنان مديداً، ولا يزال مقيماً، على الحدود الملتبسة بين الكيانية السياسية الحديثة ونظام الملل والجماعات الأهلية الموروث عن الحقبة العثمانية. وليست الطائفية ومنتجاتها الميثاقية المترنمة بالعيش المشترك سوى حصول الجماعة على صفة سياسية مستجدة. هذه الصفة تجد محدداتها ومسرح استعراضها في العلاقة مع الدولة وموقع الجماعة فيها.

في هذا المعنى تكون الطائفية السياسية ظاهرة تاريخية حديثة، وفق ما رأى بحق المؤرخ اللبناني أحمد بيضون. في سياق من هذا النوع، يصعب تثبيت الدولة في صورة المؤسسة المشتغلة وفق قواعد عقلانية وقانونية غير مشخصنة. فهي تظل أقرب إلى التصور الخلدوني الذي يعتبرها السوق الأعظم، أم الأسواق.

حكاية الطوائف اللبنانية مع الدولة تشبه حكاية جحا مع القط واللحم. والحق أن لحم الطوائف اكتنز إلى حد البدانة وبات من الصعب العثور على «قط» الدولة الجامعة. وإذا كانت التجربة الشهابية رائدة في رسم صورة عن الدولة كمؤسسة جامعة وحاضنة للكفاءات الإدارية ومتعالية عن الزعامة الأهلية المشخصنة والضيقة، فإن هذه التجربة وإرثها العتيد قضمهما زعماء التحاصص وأكلة الجبنة وفق خريطة نزاعات أهلية شهدت تبدلاً في أحجام الطوائف وأوزانها، كما يستدل من صعود الشيعية السياسية خلال الحرب الأهلية وسنوات ما بعد اتفاق الطائف وتوازناته الهشة.

قد يكون ضرباً من التفخيم أن نقول إن الجنرال هو آخر الشهابيين. غير أن تجنب البلاغة المناقبية لا يمنع من الاعتقاد بأن طيف الشهابية يلاحق الجنرال وبيئته المدنية انطلاقاً من تمسكهما بفكرة ثابتة عن الشرعية القانونية والدستورية وعن الاستقلال والسيادة الوطنيتين. وفي مسيرة ميشال عون الطويلة والحافلة بالمواجهات والحروب والمنفى الفرنسي، نجد على الدوام هذا السعي إلى المواءمة بين المعطيات المقيمة أو المستجدة وبين فكرته عن الـــشرعية والنظام القانوني. وكان عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، شدّد على ضرورة التمييز بين معنيين للفكرة الحقوقية، إذ يركز المعنى الأول على التفسير الاصطلاحي والتقني المتخصص، والثاني وهو سوسيولوجي، على التصورات المتداولة في المجتمع عن فكرة الحق والشرعية.

في هذا المعنى، يحق لكثر أن يتخوفوا، استناداً إلى تجربة الجنرال في حربي التحرير والإلغاء، من أن يطابق بين صورة المؤسسة العسكرية الوطنية التي قاد جيشها، وصورة المجتمع والدولة. الخشية من جعل الجيش مثلاً لبناء المجتمع السياسي ولعمل الإدارة، هي ضرب من «الفقه» العسكري الذي يقود إلى تكرار تجارب عنيفة تمتد من الأتاتوركية إلى استئثار النخب الأمنية والعسكرية بالسلطة في غير بلد عربي.

في المقابل، تقتضي النزاهة أن نلتفت إلى الوجوه الأخرى والإيجابية في مسار الجنرال. فهو بالتأكيد أحدث نقلة نوعية في المزاج المسيحي العام على الصعد كافة. فقد جدّد الصلة بين البيئة المدنية المسيحية بشرائحها الشبابية وطبقتها الوسطى الواسعة نسبياً، وبين الدولة المستندة إلى المؤسسات الوطنية الشرعية وفي مقدمها الجيش. وهذا ما أدى إلى اصطدامه بميليشيا القوات اللبنانية. وعلى صعيد المحيط الإقليمي، ساهم في قطع الصلة مع إسرائيل وفي خوض الصراع ضد الوصاية السورية على أرضية الخلافات العربية وارتباطاتها الدولية. قد يكون صحيحاً أن الجنرال خاض حروباً وفق قراءة تفتقد الواقعية. لكن مغامرته ساهمت في وضع السكة المناسبة لانطلاق قطار التسوية. وشاءت الصلافة السياسية المعهودة في لعبة الدول أن يسير القطار من دونه، وأن يترك في قلب مؤيديه الكثر شعوراً بالإحباط والمرارة، ما يعزز نزعات التطلع إليه كمخلّص.

من حق العونيين وحلفائهم أن يبتهجوا بما يحسبونه انتصاراً ومكافأة على انتظارهم وصبرهم وتهميشهم هم وكتلتهم النيابية الوازنة. ولا غرابة في أن يطغى البعد الرمزي للانتصار العوني على الأبعاد الأخرى. غير أن دلالات الحدث الانتخابي تفيض عن بهجة المبتهجين ونواح النائحين. فهي تجمع بين تفاهمات مستجدة مع خصوم الأمس وبين تفاهم قديم وثابت مع «حزب الله». لدينا إذاً، شرنقة تفاهمات تبدو للبعض عقدة ثعابين من طراز عقد وتحالفات أخرى. وهذا ما يجعل انتخاب عون يترجح بين أن يكون حدثاً مفصلياً في زمن الحرائق الإقليمية والتصدعات الوطنية، وبين أن يكون ثمرة تفاهمات عابرة. سنختبر ذلك ونرى.

الحياة

 

 

 

الهزيمة تسمى أحيانا “تسوية”/ يوسف بزي

يؤشر انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية اللبنانية، إلى أن «تفاهما» سعوديا ـ إيرانيا هو أمر ممكن، إن في لبنان أو في أي قضية أخرى. المسألة في لبنان أهون مما هي في اليمن أو في سوريا أو في العراق.

ما حدث في بيروت، بعد إرهاق دام سنتين ونصف السنة من الشغور في سدة الرئاسة، يوحي لنا أن التسويات ليست مستحيلة. وهي تظل أفضل من استمرار الاستنزاف، حتى ولو لم تكن «تسوية عادلة». هذا يشيع أملا ضئيلا لسكان منطقتنا. ليس فقط في تفاهمات إقليمية بل أيضا في تسويات «وطنية» مطلوبة لمجتمعاتنا، من السودان وليبيا ومصر إلى فلسطين والبحرين واليمن وسوريا والعراق.

لكن كل هذا هو إيحاء كاذب، فما جرى حقيقة هو «استسلام» فعلي. ما حدث هو أن هزيمة بلا حرب وقعت للطرف الذي رفض وصاية النظام السوري على لبنان ويرفض الوصاية الإيرانية المستجدة. هزيمة فادحة وواضحة اضطر معها المعارضون لـ«حزب الله» إلى الرضوخ لشروطه ولوصايته.

انتخاب ميشال عون هو انتصار لمرشح «حزب الله»، لا شك في ذلك. وإن بدا انتصارا محاصرا باحراجات واستحقاقات لا يريدها هذا الحزب. فاكتمال نصاب الدولة ومؤسساتها الدستورية يعيد لبنان إلى مسؤولياته والتزاماته. وهذا كان واضحا في «خطاب القسم» للرئيس الجديد، أي الالتزام بقرارات الأمم المتحدة وتبعاتها، الالتزام بموجبات عضويته في الجامعة العربية، الالتزام بمقتضيات الدستور ووثيقة الوفاق الوطني (1989)، كذلك ما يخص المعاهدات الدولية وما ينسجم مع ضوابط المجتمع الدولي.

ربما كان «حزب الله» يفضل أن يبقى عون مرشحه وحسب، مرشحا غير مقبول من الآخرين. مبادرة الآخرين إلى انتخابه، بدت وكأنها تقويضا مفاجئا للعبة الابتزاز التي مارسها الحزب طوال السنتين والنصف سنة من استعصاء الانتخاب: إما الحرب الأهلية أو الصفقة القذرة. كان «الفراغ الرئاسي» يمنح الحزب المذكور حرية في الحركة والعمل والسياسة من غير ضابط أو وازع، بل ووصاية غير مشروطة على اللبنانيين. الاستسلام كان أقصر الطرق لوقف الابتزاز.

لم يتوافر خيار آخر، الأمريكيون والعرب والفرنسيون شجعوا على قبول الهزيمة. الحماية الروسية للنظام السوري دفعت المعارضين اللبـــنــانيين إلى الإقـــرار بهـــزيمتـــهم. رئاسة ميشال عون صارت حتمية.

نظرا إلى تاريخه السياسي، السوريالي تقريبا والذي لا يخلو من الشطط، من الصعب جدا التكهن كيف سيمارس ميشال عون رئاسته، لكن يمكننا التكهن بأنه سيضيق ذرعا بمحدودية صلاحياته، ما قد يسبب أزمات متواترة بينه وبين أركان الحكم والسلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية. والأصعب هو التكهن بما سيفعله «حزب الله»، أكان داخل الحكومة أو خارجها، لكن حتما سيبقى حزبا يجر إلى لبنان تبعات تورطه في الحروب المعلنة والسرية، في المشرق العربي والخليج وحول العالم. لكن من السهل القول أن الزعيم السني سعد الحريري برئاسته للحكومة سيعود إلى النهج نفسه في حكومته السابقة وإن أكثر ضعفا وخذلانا: حد أدنى من الأمن والاقتصاد والدبلوماسية، والرضوخ لأمر واقع «دويلة حزب الله» الأقوى من الدولة، في قرار الحرب والسلم والحدود والسياسة الخارجية والمنظومة الأمنية والرقابية.

على الأرجح، يبدأ لبنان حقبة جديدة تترجم الشخصنة غير المسبوقة للتمثيل الطوائفي، بالتوازي مع الصقل التام للهوية الطائفية. لم يعد الماروني أو الأرثوذكسي أو الشيعي أو السنّي أو الدرزي..إلخ، ليعرّف نفسه إلا بهويته هذه. التجوهر في الهوية الطائفية الصافية بات تاما. وفي المقابل، انتهت كل طائفة إلى تنصيب «زعيم» أوحد مدى الحياة. زعامة قابلة للتوريث بطبيعة الحال. زعامة بالكاد تقبل أي منافسة. كل طائفة تتشخصن بذات زعيمها. ينطوي هذا الأمر على تفسير جديد لمعنى الوفاق الوطني: السلطة ستكون لأمد طويل قائمة على محاصصة دائمة ومعلومة بين زعماء الطوائف وحاشياتهم. قانون الانتخابات النيابية بل ونتائج هكذا انتخابات لن تخرجا عن هذه الحقيقة.

بهذا المعنى، الهامش المدني والعلماني والديمقراطي والليبرالي سيزداد هامشية في الحياة السياسية، ولو بقي مؤثرا في الحياة العامة ونضالاتها الحقوقية والثقافية. سيتراجع بالتأكيد نطاق الحريات السياسية والإعلامية وإن لم تمس الحريات الشخصية والاجتماعية. سنعيش في جمهورية تسودها أحط تفاسير الميكيافيللية للسياسة: إدارة الفساد. سيكون تمركز الثروات أشد بما يناسب تمركز السلطة بين هؤلاء الزعماء الحصريين، نرى ذلك منذ الآن مع التفاهمات والمحاصصات المتعلقة باستخراج النفط والغاز. سيكون توزيع الريوع والمغانم والمناصب الرسمية هو الشغل الشاغل لـ«الترويكا» الجديدة: نبيه بري، سعد الحريري، ميشال عون. ثلاثي السلطة الذي يترجم عمليا المثالثة الشيعية السنية المسيحية.

أدبيات ميشال عون وحزبه تنبئنا بحقبة تتصاعد فيها النعرة الطائفية بلا خجل، والأخطر هو التوجه الواضح لانتهاج سياسات عنصرية فجة تجاه اللاجئين السوريين والفلسطينيين، تفاقم من سواد الملف الحقوقي للدولة اللبنانية.

أخيرا، أظن أن «العهد الجديد» سيعود مرة جديدة ليكتشف الوهم نفسه بما يخص الفصل بين السياسة والاقتصاد أو «البيزنس» و«المقاومة». جميع اللبنانيين سيدفعون ثمن هذا الوهم مجددا.

القدس العربي

 

 

 

 

عناصر قوّة عون: أفواج الدفاع واللواء الثامن والوعد البشيري/ وسام سعادة

ظاهرة العماد ميشال عون كزعيم «مسيحي قوي» هي نتيجة مباشرة لعملية تحديث الجيش اللبناني في الثمانينيات من القرن الماضي، في سياقات الحرب الأهلية ومرحلة ما بعد الإجتياح الإسرائيلي.

في 19 تشرين الأول /اكتوبر 1982 زار الرئيس المنتخب حديثا أمين الجميّل واشنطن للقاء الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، وكان أوّل رئيس لبناني يدخل إلى البيت الأبيض. أطلقت هذه الزيارة عملية تحديث وإعادة تجهيز وتنظيم وتسليح للجيش لتمكينه من إعادة توحيد بيروت للمرّة الأولى منذ اندلاع الحرب الأهلية، وتمكين الشرعية التي عنت أيضا استعادة الغلبة المارونية في ذلك الوقت، والاستعداد لاحقا لاسترداد المناطق التي ستنسحب منها إسرائيل تباعا، وفي اطار توضيب صلح منفرد بين لبنان وإسرائيل. كان الجيش السوري في ذلك الوقت في حالة ضعف شديدة بعد الضربات الإسرائيلية التي أنزلت بمنصات صواريخه وطائراته وقواته قبل الاجتياح وعشيته وأثناءه.

بدأ التحديث بجمع «أفواج الدفاع» في الجيش التي كلّفت قبل ذلك بشهرين بالدخول إلى بيروت الغربية، وتأسيس «اللواء الثامن» مطلع العام 1983، وتزويده بكتيبة دبابات أمريكية حديثة الصنع، وبسلاح مدفعية متطوّر، والتدريب من قبل المارينز.

تسلّم العقيد ميشال عون، الرجل القوي في «أفواج الدفاع»، قيادة اللواء، مع ان الجميّل كان يسعى للحؤول دون ذلك. وكان سبق لعون أن عُرِف داخل المؤسسة العسكرية وخارجها بعناده واعتداده برأيه، وصعوبة التعامل معه من قبل الأعلى منه مرتبة في الهرمية، وأحيانا بتصريحاته «البونابرتية»، كمثل ارتجاله – بين الضباط، دعوة للانقلاب عام 1973على الرئيس سليمان فرنجية، احتجاجا على «تساهله» مع المنظمات الفلسطينية. كما كان عون من بين العسكريين الشرعيين الذين شاركوا في معركة تل الزعتر عام 1976، بتغطية غير رسمية من القيادة، وعرف بأنه أقرب العسكريين إلى بشير الجميل، الذي يبرز الان مينارغ في كتابه «أسرار حرب لبنان» أنه طلب من عون، ومن انطوان نجم، اعداد مخطط انقلابي مطلع الثمانينيات، تكون «أفواج الدفاع» أداته الرئيسية، وهناك من ظلّ يفتي في صيف الاجتياح، بأنه الأفضل فرض بشير الجميّل رئيسا، أو رئيسا للوزراء، بانقلاب عسكري، على مشهدية انتخابه في البرلمان!

لم تتمكّن عملية التحديث العسكري هذه من توسيع رقعة سيطرة الجيش، بل لم تمكنه من الحفاظ على وحدته، وعلى التوحيد القسري لبيروت، في ظل رئيس الجمهوريّة الكتائبي واتفاقية 17 ايار. لكنها طورت الألوية ذات الغلبة المسيحية، واللواء الثامن بخاصة، بشكل يعطيها أرجحية قتالية على سائر الميليشيات.

لم تكن الانسحابات الإسرائيلية المتتالية من الشوف ثم من صيدا وقسم كبير من الجنوب في مصلحة المسيحيين وإنما مهدّت لهزيمتهم وتهجيرهم منها. أما سوريا فعادت إلى موقع القوة، حيث سمحت الفترة الوجيزة التي تبوأ فيها يوري اندروبوف الزعامة في الاتحاد السوفييتي، وأجّج فيها الحرب الباردة مجدّدا، باعادة تجهيز الجيش السوري وتعويضه ما خسره وأكثر.

مع الانسحاب الإسرائيلي من الجبل (الشوف – عاليه)، تقهقرت «القوات اللبنانية» فيه، وتصاعد ضغط قادتها الميدانيون في حرب الجبل، مثل سمير جعجع، للدفع بالجيش اللبناني لانقاذ الوضع، وخصوصا في معركة بحمدون، ولم ير الجميّل ولا قائد الجيش العماد ابراهيم طنوس واقعية ذلك. ومع انهيار الوضع المسيحي بالجبل، وما أحدثه ذلك من مجازر وتهجير، تقدّمت الميليشيات الدرزية، والفلسطينية الموالية لسوريا، باتجاه سوق الغرب. واجه العقيد عون حينذاك قيادته العسكرية التي اوعزت بالاكتفاء بالدفاع عن منطقة الجمهور وبعدم القدرة على الدفاع عن سوق الغرب، بل اوصت بنقل القصر الجمهوري إلى المتن الشمالي، لاحتمال خسارة منطقته في بعبدا.

في أيلول 1983 تمكّن «اللواء الثامن» بقيادة العقيد عون من استعادة المواقع التي خسرها الجيش في سوق الغرب وضهر الوحش، وبمساندة من البارجة الأمريكية نيوجرسي، قبالة السواحل اللبنانية، وطلعات جوية للطيران الأمريكي فوق ميدان المعركة. منح الصمود أو الفوز في سوق الغرب رصيدا ثمينا لعون، داخل المؤسسة العسكرية، اضافة إلى تأييد شعبي واسع له بين المسيحيين كـ»بشيريّ من داخل الجيش»، في مرحلة كان قادة «القوات اللبنانية» بعد بشير، يرمزون للهزيمة العسكرية في حرب الجبل، وما نتج عنها من تهجير للمسيحيين، وينقلبون على بعضهم البعض.

رقي العقيد عون إلى رتبة عميد بعد معركة سوق الغرب، ثم كانت انتفاضة 6 شباط 1984 التي قادتها حركة أمل، وانشقاق الألوية المسلمة عن «الجيش الفئوي» أو «جيش اليرزة»، وتلت الانتفاضة ذات الطابع الشيعي في الضاحية وبيروت، تقهقر كل من الجيش والقوات في معركة الشحار الغربي، التي انحاز فيها مسلمو «اللواء الرابع» بقيادة وليد سكرية للمهاجمين الدروز، والفلسطينيين الموالين لسوريا، في ما سمي «عملية السيد عبد الله التنوخي» (ردا على عبث المسلحين المسيحيين بهذا المقام الدرزي).

انحسرت رقعة هذا الجيش الأساسية في منطقة المتنين، وتواصلت مع ذلك عملية استكمال تسليحه وتنمية قدراته القتالية في رقعة تركزه هذه. فرضت ظروف ما بعد الهزيمة في الشحّار الاتيان بقائد اللواء الثامن قائدا للجيش في حزيران 1984، مع ممانعة من الرئيس الجميّل، الذي كان يرغب في قائد للجيش أكثر مرونة.

صنع عون نواة شعبيته في تلك الفترة، وبالأخص من خلال جبهة سوق الغرب. بعد مقتل بشير، ثم وفاة الزعيمين التاريخيين للموارنة، الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل، اتجهت أنظار المسيحيين نحو الجيش الشرعي، أكثر مما اتجهت صوب «القوات اللبنانية» التي حمّلت بطريقة أو بأخرى مسؤولية الهزيمة في الشوف واقليم الخروب وشرق صيدا، اضافة إلى تخلّع التجربة الحزبية الجماهيري للكتائب.

تواصلت عملية تحديث الجيش في رقعته المنحسرة، بدعم أمريكي وفرنسي، وبارهاق كاهل الخزينة، إلى الحد الذي تم الربط فيه بين الانفاق على العسكر والسلاح وبين أزمة انهيار سعر صرف الليرة في تلك الفترة.

أطاح الثلاثي أمين الجميّل – سمير جعجع – ميشال عون بقيادة الياس حبيقة لـ»القوات» على خلفية دخول الأخير في «الإتفاق الثلاثي» برعاية دمشق. لكن رصيد الجميّل تقلّص، وظهر كرئيس ضعيف. لم تسمح الشطحات الأيديولوجية الدينية المغالية لجعجع وشعاراتية «الصليب المشطوب»، والممارسات الميليشياوية لمسلّحيه «الجرديين»، وتحميله وزر الهزيمة في الشوف، بأن يتحوّل إلى القطب الرئيسي في «المجتمع المسيحي». اتجهت الأنظار للجيش، وبالتالي صوب عون، الذي مع طرح اسمه في مروحة المرشحين المحتملين للرئاسة، قام بتعطيل الاستحقاق، بالتواطؤ مع جعجع، حائلا دون التئام النواب كي لا يصل مرشح موالي لدمشق كمخايل الضاهر.

وقبل ربع ساعة من انتهاء ولايته الدستورية، عيّن الرئيس الجميّل عون لرئاسة حكومة عسكرية انتقالية، كي يبقى الماروني على رأس الدولة، وتأسيسا على ما اعتبر عرفا يعود إلى العام 1952. في الداخل المسيحي، بدا الأمر اقرب إلى «انقلاب مشترك» أعدّه عون وجعجع، بحيث توجب على الجميّل مغادرة لبنان بعد ذلك بأيام معدودة وعائلته، وجرى التشهير به بقسوة. أما بالنسبة لسوريا وللمناطق الاسلامية، فقد رفضت الحكومة العسكرية، وسحب الضباط المسلمون منها، واعتبرت حكومة سليم الحص المنتهية صلاحيتها مع انتهاء عهد أمين الجميّل حكومة شرعية (زد على ان الحص كان قدّم استقالته للجميل قبل ذلك ببضعة اشهر).

العنصر الأساسي لـ»قوة عون» تشكّل اذا في بحر الثمانينيات، وقبل وصوله كرئيس حكومة عسكرية لقصر بعبدا في خريف العام 1988 هي ثمرة التحديث على قطاعات بعينها من الجيش اللبناني في ذلك العقد، وخصوصا تجربة اللواء الثامن، اضافة إلى حمله ملامح بونابرتية من تجربته في قيادة «أفواج الدفاع» التي اعتبرت بمثابة «أفواج بشيرية» داخل الجيش منذ نهاية السبعينيات.

لم يخف عون من يومه الأول في بعبدا في 23 أيلول/سبتمبر 1988رغبته برئاسة الجمهورية لنفسه، وسعى بهذا الاتجاه في الاتصالات مع دمشق، وعلى المستوى العربي، خصوصا مع مؤتمر تونس مطلع العام 1989، الذي فشل في معالجة أزمة الانشطار الحكومي اللبناني، وطالب فيه عون بجدول زمني للانسحاب السوري، كما كان لافتا آنذاك اللقاء بين عون ورئيس منظمة التحرير ياسر عرفات في تونس، وبالتوازي استمرت عملية تسليح الجيش بمساعدة عراقية سخية هذه المرة.

أدّى هذا الشعور بالاقتدار إلى اصطدام أول بالقوات اللبنانية (شباط 1989)، التي كانت وسعت منطقة نفوذها عنوة على حساب كتائب أمين الجميل. تمكن الجيش من ضرب القوات في المتنين في أيام قليلة، وبعد ان تصاعد التقاذف الكلامي إلى حد اتهام عون لجعجع بأنه كان يحضّر لمجزرة أهدن ثانية تستهدف عائلته، أقرّت القوات بنتائج المعركة الميدانية، وزار جعجع القصر الجمهوري، ووضع القوات بتصرف الجيش، وسلّم الحوض الخامس من مرفأ بيروت للدولة.

استعادة الحوض دفعت عون لاطلاق حملة محاصرة المرافئ غير الشرعية، وبالنتيجة، للتصادم الشامل مع الجيش السوري وحلفائه المحليين، لا سيما الحزب التقدمي الاشتراكي، «وجيش سامي الخطيب»، فكانت «حرب التحرير» الذي خاضها الجيش و»القوات» معا في 14 اذار/مارس 1989، وهي واحدة من أعنف جولات الحرب اللبنانية. ومرة أخرى سيجدّد عون «رصيده الحربي» لدى الناس باحباط جيشه، في سوق الغرب، للهجوم السوري – الدرزي.

وكما أن تحديث الجيش في عهد أمين الجميل قاد إلى طرد الجميل نفسه من لبنان بعد دخول عون إلى القصر، فان حرب التحرير، المعتمدة على تجربة تسليح، شارك فيها بالتزامن أو التعاقب، الأمريكيون والفرنسيون والعراقيون، وعلى الطموحات البونابرتية لعون، ورصيده الشعبي المستمر في التوسّع، كرمز لاستمرارية الدولة اللبنانية، قادت إلى نقيض ما قصده عون منها: فبدل ان يمهّد المؤتمر البرلماني الذي عقد في اتفاق الطائف بعد هذه الحرب إلى صيغة تفضي لتكريس عون رئيسا للجمهورية، ظهر ان المسار يميل لافقاد عون صفته الشرعيّة، فكان أن أطلق حرمه على اتفاق الطائف، الطائف الذي سيعود في خطاب قسمه، حال انتخابه رئيسا، بعد 27 عاما على هذا الاتفاق، للتعهد بتطبيق وثيقة الوفاق الوطني التي أقرّت فيه.

ارتكزت معارضة عون للطائف على اثنتين: ميوعة الاتفاق من ناحية «اعادة انتشار القوات السورية باتجاه البقاع»، من دون برنامج زمني واضح لانسحابها من لبنان، وانتقاص صلاحيات رئاسة الجمهورية. ثبت «بالوجه الشرعي» صحّة موقف عون فيما يتعلّق بمسألة انتشار الجيش السوري. فبعد دخول اتفاق الطائف حيز التنفيذ، وبعد التدمير الذاتي المسيحي المسيحي في حرب الالغاء بين عون وجعجع، ثم اقتحام الجيش السوري منطقة عون ولجوئه إلى السفارة، ثم نفيه إلى فرنسا، لم يجد الجيش السوري ما يجبره على اعادة الانتشار هذه، وحين سينسحب الجيش السوري من لبنان لن يكون لاتفاق الطائف أي أثر في حمله على ذلك، وانما القرار 1559، والتداعيات الشعبية والاقليمية لجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

لم يكن عون وحده الذي رفض اتفاق الطائف حين اقراره. رئيس حركة أمل نبيه بري اعتبر ان القبول به خيانة (20-10-1989) وكان وعد في وقت سابق بأن لا رئيس مارونيا بعد الآن، ثم اكتفى باعتباره «ترقيعا»، ولم تعتنق حركة «أمل» الطائف إلا بعد تواصل هزائمها على يد «حزب الله». وهذا الحزب الخمينوي عدّ من جهته حرب التحرير حرب ابادة للمسلمين، ورفع شعار «سنمزّق الطائف بأيدينا»، وجاء في بيان له في أيلول 1989 «نرفض رئيسا مارونيا ونرفض الذل تحت اسم التعايش مع النصارى» و»استسلام للمارونية السياسية ولإسرائيل» (تشرين الثاني 1989). في المقابل، كانت الطائفة السنية تحت وقع اغتيال النظام السوري للمفتي حسن خالد.

عندما ظهر لعون أنّ التقاطع الأمريكي السعودي السوري يأتي على حسابه، وعلى حساب برمجة الانسحاب السوري، في الطائف، اكتشف عنصر قوة آخر: تعبئة أنصاره من الناس. بدأ ذلك بتوجيههم أولا لمحاصرة السفارة الأمريكية، التي أجلت بعثتها، وسط تنديدات عون بالمؤامرة الأمريكية، وما ان اعتبر البطريرك الماروني بطرس صفير ان «الطائف هو أهون الشرور» حتى توجهت الجمهرة العونية نحو الصرح البطريركي وأساءت لصاحب المقام ببذاءة منقطعة النظير، فانتقل بعدها من بكركي إلى الديمان. ووسط هذه الفورة الشعبوية، أعلن عون في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1989 حل مجلس النواب (المنتخب عام 1972) داعيا لانتخابات نيابية جديدة وهو لا يسيطر إلا على مساحة قليلة من لبنان. وما كان ينقص المسيحيون في كل هذا الوضع سوى اصطدام عون بـ»القوات اللبنانية» بحجة أن موقفها من إتفاق الطائف غير واضح، فكان أن جرّت «حرب الإلغاء» جعجع للقول الصريح بقبول الطائف، في الوقت نفسه الذي صارت فيه «الخريطة الواقعية لتطبيق الإتفاق» مختلة تماما، ومائلة لحساب النظام السوري، وهو ما تضاعف مع اجتياح صدام، حليف عون، للكويت (آب 1990)، واستفادة دمشق من دخولها في التحالف الذي تقوده أمريكا، لانتزاع تغطية أمريكية لاجتياحها مناطق سيطرة عون في 13 تشرين الأول/اكتوبر 1990، وهو اجتياح ظلّ عون مقتنعا حتى اللحظة الأخيرة بأنّ فرنسا والفاتيكان ستحول دون اتمامه.

لم يخسر عون عناصر قوّته الشعبية باجتياح الجيش السوريّ للمتنين، ولجوئه هو إلى السفارة الفرنسية. فالجماعة المارونية الداخلة في «يتم وجداني» منذ اغتيال بشير الجميل، ورحيل بيار الجميل وكميل شمعون، وجدت بأكثريتها، في عون، رمزا، ورمزا مدمجا بمفهوم الدولة، كون «البطل البشيريّ» يخرج في حالته من داخل جهاز الدولة، من جيشها الشرعيّ. السجلّ الحربيّ لعون، وخصوصا في معركتي سوق الغرب (1983 و1989) غطيا على الهزيمة العسكرية في 13 تشرين الأول/اكتوبر. «نجاته» ولو بالفرار، كانت قيمة اضافية له بالنسبة إلى جماعة مارونية، ظلّ الكثير من أبنائها يرفضون التصديق بأنّ بشير الجميّل قتل بالفعل.

وكانت التعبئة الجماهيرية التي نجح في اجتذابها للتجمهر حول قصر بعبدا، عشية الاجتياح السوري للمتنين، عنصرا أساسيا لإكسابه «شرعية شعبية مسيحية مستدامة»، فهذا التحشيد المتواصل كان له أثر عميق عند جيل كامل من المسيحيين، عاشوا فيه «تجربة ثورية» برعاية الجيش وقائده، وكان الكثير منهم يصلون إلى قصر بعبدا آتين من مناطق واقعة تحت السيطرة السورية أو القواتية، ما عزّز الشعور بـ»الجماعة العضوية».

أمّا نفي عون، فجعله صنوا ليوسف بك كرم في التاريخ الماروني، وبعد نفيه بسنوات قليلة أعتقل جعجع وحوكم وسجن، ليتحول الخصمان العدودان عنوانا لـ»مظلومية مسيحية مشتركة». وفيما انتزع جعجع هالة رهبانية لصموده في سجنه، عاد «البطل المنقذ» المنفي وهو على قيد الحياة، وخاض الانتخابات عام 2005 ضد «قانون غازي كنعان» الانتخابي، الذي يؤدي لانتخاب أكثرية نواب المسيحيين من قبل المسلمين. يومها أساءت قوى 14 آذار تقدير الموقف، وأعتبرت أن الأولوية هي تحجيم عون، ولو كان بالتحالف مع «حزب الله» و»أمل»، في حين تحالف عون مع «مسيحيي ودروز الوصاية السورية» مثل ميشال المرّ وسليمان فرنجية وطلال أرسلان. حذّرت البطريركية المارونية من استحقاق انتخابي يحصل بهذا القانون، في حين ساجل الصحافي سمير قصير – قبل أسابيع من اغتياله على يد النظام السوري – مع هذا الموقف المارونيّ في مقالة يذكّر فيها بتضاؤل عدد المسيحيين وتحت عنوان «أتريدون تمثيلا؟». أما الزعيم الدرزي وليد جنبلاط فأبدى خشيته من «تسونامي» عوني، وهذا ما حصل باكتساح اللوائح المدعومة من عون لأغلبية مقاعد الدوائر المسيحية في جبل لبنان، وحصولها على معظم التصويت المسيحي دون التمثيل حيثما أجريت الانتخابات على أساس المحافظة، بحيث يختار المسلمون نواب المسيحيين.

لئن كابر الموارنة والمسيحيون على «قانون العدد»، فقد كابرت قوى 14 آذار طويلا وقبلها كامل «الطبقة السياسية» لعهد الوصاية السورية، على شعبية عون، العميقة لدى المسيحيين. أدى الاحتكاك بين المكابرتين للدفع بعون إلى أحضان «حزب الله» بعد ذلك ببضعة أشهر، ثم إلى دمشق وطهران، وحلف الممانعة، هو نفسه الذي حلّ ضيفا على الكونغرس الأمريكي قبل ذلك بأعوام قليلة، لتأييد «قانون تحرير لبنان ومحاسبة سوريا»، وزرع أرزة لبنانية في حديقة الكابيتول.

تراجعت شعبية عون في انتخابات 2009 دون أن يخسر أكثرية الشارع المسيحي، لكنّه اختار بدلا من ذلك سلوك درب «حلف الأقليات»، وهو ما تعزّز بعد الثورة السورية. ومع تخلّع حلف 14 آذار على خلفية القانون الانتخابي عام 2013، واتفاق عون والقوات على مشروع «القانون الأرثوذكسي» (كل طائفة تنتخب نوابها على حدة)، وتأييد «حزب الله» له، في مقابل معارضة الحريري وبري وجنبلاط، تأجّل الاستحقاق النيابي، ودخلت البلاد بعد ذلك في فراغ رئاسي. أمضى اللبنانيون العام الأول من هذا الفراغ وسمير جعجع مرشحا رسميا لـ14 آذار (وهو رشّح نفسه درءا لاحتمال توافق بين سعد الحريري وعون). وفي العام الثاني من الفراغ دفع تأييد الحريري لسليمان فرنجية «الحفيد» لسحب جعجع ترشيحه لمصلحة عون، المؤيد بشكل ازداد رسمية من طرف «حزب الله» في تموز 2015. بعد الاستمرار لأشهر طويلة في التسويق لفرنجية، عدل الحريري عن مبادرته هذه باتجاه تأييد عون. وصل «المنقذ الماروني» أو «الرئيس القوي» في نهاية المطاف، إلى الرئاسة، استنادا إلى جملة ظروف وتقاطعات جمع فيها عون بين «تفاهم تحالفي» مع «حزب الله» و»مصالحة تحالفية» مع «القوات» و»ميثاق» متجدّد مع «الطائفة السنية» (لعون الرئاسة وللحريري رئاسة الحكومة)، كما لعب الطابع الضعيف للرئاسة في عهد ميشال سليمان (بالنسبة إلى اميل لحود أو حتى الياس الهراوي) دورا في تقوية حجة أحقية من يتمتع بالشعبية الأقوى بين المسيحيين للرئاسة.

بقي أنّ وهج عون منذ الثمانينيات ارتبط بكونه «البشيري الصاعد من داخل الجيش»، قائدا له، ثم رئيسا للحكومة العسكرية، ثم قائدا للمعارضة السيادية من المنفى، ثم رئيسا لتكتل برلمانيّ لا يلبث أن يتحالف مع «حزب الله» وإيران، بعد أن كان حليفا لصدام والفرنسيين ثم الأمريكيين. ثبت وسط كل تبدلاته والمنعطفات على موقف واحد – موقف «الوعد البشيري»: الرئيس القوي مفتاح لحل المسألتين المارونية واللبنانية، وأنا هو المسيحي القوي الصاعد من رحم جهاز الدولة، والمتواصل مباشرة مع الجمهور المسيحي، اذا أنا هو الرئيس القوي. وفي النهاية، أنتخب عون رئيسا، على يساره «حزب الله»، وعلى يمينه «القوات اللبنانية»، وشريكه في السلطة التنفيذية سعد الحريري، وبالرغم من معارضة نبيه بري. فكم يستمرّ المشهد؟

القدس العربي

 

 

 

لبنان: هذي الضجة الكبرى… علاما؟/ صبحي حديدي

لأن انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان يتمّ عبر مجلس النواب، وفق أحكام الدستور، فإنّ وصول ميشال عون إلى قصر بعبدا كان حصيلة معادلات ذلك المجلس، وتوازناته، الداخلية: الطائفية والمذهبية، أوّلاً؛ ثمّ تلك السياسية والمناطقية، ثانياً. هذا في المقام الأوّل، الذي لا ينفصل البتة عن مقام ثانٍ، لعله أكثر نفوذاً من حيث الجوهر، كان على الدوام جزءاً لا يتجزأ من سيرورة الحياة السياسية في لبنان؛ أي ارتباط الداخل بالخارج، أو ارتهان المعادلات والتوازنات الداخلية بمحاور وقوى وسيرورات إقليمية ودولية.

ومن الخير، بادئ ذي بدء، أن يستذكر المرء حقيقة تاريخية لم تزعزع العقود صحة سريانها على معظم، إن لم يكن كلّ، انتخابات نيابية لبنانية: أنها تتمتع بمواصفات متقدمة، من حيث حرّية الترشيح وخوض الحملات والتصويت والرقابة القضائية؛ ولكنها لا تسفر، عملياً، عن رابح أو خاسر على مستوى التمثيل السياسي، حتى بعد أن تفرز فريق أغلبية وفريق أقلية من حيث الكُتل والأعداد. ومنذ انتخاب فؤاد شهاب، أوّل قائد للجيش اللبناني، رئيساً للجمهورية، خلفاً للرئيس كميل شمعون، في أعقاب الثورة الشعبية لسنة 1958؛ استقرّ الإجماع اللبناني على اعتماد محاصصة بين الطوائف تقوم على مبدأ «لا غالب ولا مغلوب».

ومن الجلي أنّ هذا المبدأ هو الذي أتاح وصول عون إلى الرئاسة، بالنظر إلى خلطة الأوراق العجيبة التي سبقت انتخابه، سواء على صعيد شخص الرئيس نفسه، وخريطة مواقفه المتقلبة المتغايرة، ولوائح خصومه وحلفائه؛ أو على صعيد المحاصصات السياسية والطائفية التي اكتنفت تلك الخريطة، ضمن الصفّ المسيحي ذاته، أو ضمن التركيبة الدينية والطائفية والمذهبية اللبنانية عموماً. وفي هذا، كان طريفاً ـ رغم أنه لم يكن جديداً، أو مستغرباً ـ أن يقف ممثلا الصفّ الشيعي، «حزب الله» و»أمل»، على طرفَيْ نقيض إزاء ترشيح عون؛ وأن ينتهيا مع ذلك إلى تسهيل انتخابه، عن طريق مبدأ الورقة البيضاء. في المقابل، لم يكن أقلّ طرافة، ولكن دون استغراب هنا أيضاً، أن تتباعد مواقف النوّاب السنّة والدروز والمسيحيين، على نحو فردي أو جماعي؛ ثمّ لا تحول التباينات دون تمرير عون، عند انتهاء التصويت.

وهذا، في نهاية المطاف، هو مجلس النوّاب الذي مدّد لذاته، وكان في الأصل، ساعة انتخابه، حصيلة نموذجية لمبدأ «لا غالب ولا مغلوب»؛ رغم أنّ الأغلبية السابقة (المؤلفة من زعيم غالبية السنّة سعد الحريري، وزعيم غالبية الدروز وليد جنبلاط، وحزب «الكتائب» و»القوات اللبنانية» الممثّلَيْن لقرابة نصف المسيحيين)، ظلت أغلبية بـ71 مقعداً من أصل 128؛ والأقلية السابقة (تحالف 8 آذار المؤلف من «حزب الله» وحركة «أمل» الشيعيتَيْن، وقرابة نصف المسيحيين كما تمثّلهم مجموعة ميشال عون)، ظلت أقلية فنالت 57 مقعداً.

وبمعزل عن الاعتبارات الخارجية التي أوصلت النواب اللبنانيين إلى انتخاب عون، وما إذا كانت أيضاً تلك الاعتبارات ستنقلب إلى عناصر فاعلة في الحياة السياسية اللبنانية على المدى القريب، في نطاق حكومة سعد الحريري وسلسلة الملفات الشائكة التي تكتنف استحقاقاتها المحلية والإقليمية؛ فإنّ مشهد ائتلاف النوّاب هكذا، بعد استعصاء في انتخاب الرئيس دام 29 شهراً، سوف تكون له مفاعيله المباشرة على مزاج الناخب اللبناني، في صفوف الطوائف كافة كما يُنتظر. وإذا صحّ أنّ زعامة آل الحريري للصفّ السنّي تتهددها، للتوّ، زعامة أشرف ريفي؛ فإنّ «حزب الله»، مستهدياً بالموقف الإيراني، كان يرجو استمرار غياب الرئاسة إلى أجل غير مسمى، أو ربما إلى حين فرض مبدأ المثالثة؛ وفي المقابل لن يخرج المسيحيون من المعمعة باتفاق أقلّ، بل بانقسام أكبر.

وهكذا، يوم انتخابات 2009 النيابية، كان يصحّ استدعاء تساؤل أمير الشعراء أحمد شوقي: إلامَ الخلف بينكما إلاما؛ وهو يصحّ اليوم أيضاً، بعد انتخاب عون، مع اقتباس الشطر الثاني: وهذي الضجة الكبرى… علاما!

القدس العربي

 

 

 

 

هل يكتوي الحريري بنار تسوية رئاسة الحكومة؟/ سعد كيوان

أخيرا، وبعد سنتين ونصف من الفراغ الرئاسي الذي شل المؤسسات ووضع الدولة اللبنانية على حافة الإفلاس، اكتملت “التسوية – الصفقة” بانتخاب زعيم التيار الوطني الحر، العماد ميشال عون، رئيسا للجمهورية، وتكليف سعد الحريري بتشكيل الحكومة الجديدة. كيف حصلت هذه التسوية، ومن هو عرّاب هذه الصفقة ومهندسها في زمن الصراع المحتدم إقليمياً، وفي مرحلة يكتنفها الغموض والترقب دوليا. كلام كثير قيل، وترجيحات متضاربة عجزت عن تفسير حصول تفاهم سعودي إيراني حول لبنان، في وقت تتواجه الدولتان على امتداد رقعة الشرق الأوسط، من سورية إلى العراق، ومن اليمن إلى البحرين.

وقد ثبتت هذه التسوية، وعزّزت اللعبة الديمقراطية مذهبياً، عبر جلوس “الأقوياء” كل في طائفته، من رئاسة الجمهورية إلى رئاسة الحكومة، وإلى رئاسة مجلس النواب، وهي مقولة يطالب بها عون نفسه الذي يعتبر أنه “الأقوى”، والأكثر تمثيلا بين المسيحيين، مدعوما في هذا الموقف من حزب الله الذي كان له اليد الطولى في نسج خيوط “معادلة الأقوياء”، المجسّدة شيعياً بنبيه بري، أحد قطبي “الثنائية الشيعية”. وكي تكتمل المعادلة، وتبرر نفسها، كان لا بد من عودة “الأقوى” سنياً الى رئاسة الوزراء، وإنما بشروطهم. لذلك، بعد إنجاز هذه “التسوية – الصفقة” انكفأ اللاعبون، تاركين نجل رفيق الحريري وحده في الساحة، يخوض غمار مجازفة تشكيل الحكومة ومواجهة العقد والشروط والشروط المضادة لمختلف القوى والكتل النيابية.

استعان الجنرال السابق الذي أصبح الرئيس الماروني “القوي”، على “حاجته”، بالتعطيل على سنتين ونصف السنة، مستقويا بمن بيده سلطة القوة والابتزاز داخلياً واقليمياً، متنكراً حتى لأقرب الحلفاء، فلم يجد حرجاً في الذهاب إلى تسويةٍ مع من طالبه بـ “مغادرة لبنان من دون تذكرة عودة”. وهو اليوم يحقّق حلمه بالجلوس في القصر الرئاسي. أما الشيعي “القوي” والمخضرم فهو يتربع على كرسي رئاسة المجلس منذ ربع قرن، مستعيناً بدهائه وباتقانه “أصول” اللعبة السياسية التي يعلم بخباياها وبكيفية حبك خيوطها، والأهم أنه مدعومٌ بتوأمه الأقوى في “ثنائية شيعية”، تستقوي بـ “حقوق الشيعة” تارة، وبالميثاقية تارة أخرى.

وهذا ما دفع المسيحيين “الشاردين” عن دورهم المؤسس للبنان، ولدوره الحضاري الجامع، إلى البحث عن “ثنائية مسيحية” مماثلة، تخرجهم من “إحباطهم” وتعيد إليهم “حقوقهم”، من دون أن يعرف بالظبط من هم “مغتصبوها”! وبما أنهم لم يتمكنوا من إنتاج قيادات جديدة إصلاحية استشراقية، عاد ميشال عون وسمير جعجع إلى الواجهة، ثم العناق بعد أكثر من ربع قرن من الخصومة والاقتتال. وشكل الاثنان “ثنائية مسيحية” على غرار “الثنائية الشيعية” مهدت لـ”عودة” الجنرال إلى “قصر الشعب”، بعد خروجه منه قبل 26 سنة.

وكان الثلاثي الممانع “الشيعي- العوني- الأسدي” قد أخرج الحريري من رئاسة الحكومة عام

“هذه التسوية عزّزت اللعبة الديمقراطية مذهبياً، عبر جلوس “الأقوياء” كلُّ في طائفته” 2011، واضطره إلى الابتعاد عن لبنان نحو خمس سنوات، زارعا بذور التململ والإحباط في صفوف قواعده السنية التي راحت تتقاذفها عواصف المد الأصولي في المنطقة الذي شوه انتفاضات “الربيع العربي”، من سورية إلى العراق واليمن، وراح يقترب من السعودية. عاد الحريري، وراح يبحث عن “ثنائية سنية” غير موجودة، ما اضطره إلى الاستعاضة عنها بجمع شمل سني (أرادته السعودية) لا يقدم ولا يؤخر، قبل أن ينفتح على سليمان فرنجية، ألد الأخصام وأكثرهم “أسديةً”، من أجل العودة إلى السراي. وحين سدت كل السبل في وجهه، نتيجة إحكام طوق “التعطيل والممانعة”، بدا حائراً هائماً على جهه، ولم يعد أمامه سوى الأخذ بنصائح بعضٍ ممن حوله من المتعطشين إلى السلطة والنفوذ الذين أوهموه أن “تعويض الثروة التي بدّدها في الثورة”، على ما جاء على لسانه، يكون بالعودة إلى السلطة، عبر صفقةٍ يعقدها تحديداً مع من أخرجه من الحكم، وتمنى رحيله نهائيا عن لبنان.

أنجزت “التسوية – الصفقة”، وحقق الجنرال حلمه بالجلوس على كرسي بعبدا رئيساً، ورد الجميل للزعيم السني بأن التزم تكليفه تشكيل حكومة العهد، مرخياً حبل التأليف على أكتاف الحريري الشاب، غير أن استشارات الترشيح تحولت إلى ما يشبه المبايعة بحصول الحريري على أصوات 109 من أصل 127 نائبا في البرلمان، فيما سارع شيخ “الثنائية الشيعية” إلى تعويض امتناع حزب الله عن ترشيح زعيم تيار المستقبل بإعلان “تسديده” ما اعتبره ديناً عليه تجاه تجاه رفيق الحريري، كان قد التزمه بقوله إنه “مع الحريري ظالماً أم مظلوما” (!).

بمعنى آخر، وهنا بين القصيد، يقول لسان حالهم إن ما يعنيهم من “التسوية-الصفقة” قد أنجز، وأنهم قاموا بما عليهم، وعلى الحريري الآن، أن يتدبر أمره طالما أنه، وبحسرة الجنرال، حصل على أكثريةٍ، فاقت ما حصل هو عليها عند انتخابه رئيساً، ولأن التزامهم هو فقط بايصال الجنرال إلى القصر الجمهوري، يقول حزب الله، فيما قام بري بما “أملاه عليه ضميره”. تقع مسوؤلية تأليف الحكومة، إذن، على عاتق الحريري الذي بدأ يواجه بالضبط عراقيل من عقد معهم الصفقة، في سيناريو يشبه، إلى حد بعيد، ما حصل معه عند تشكيل حكومته الأولى في صيف 2009. يومها، ظل التأليف معلقا خمسة أشهر، كرمى عيون صهر الجنرال جبران باسيل الذي كان يومها مغموراً.

تتكرر شروط “الثنائي الشيعي” اليوم فيما يخص الحقائب الوزارية والحصص، بالنسبة لرئيس

“أنجزت “التسوية – الصفقة”، وحقق الجنرال حلمه بالجلوس على كرسي بعبدا رئيساً” حركة أمل الذي يصر على وزارة المال، وأقله وزارة خدماتية، عنوانها وزارة الطاقة، وهما وزارتان يصر “التيار العوني” على الاحتفاظ بهما، ناهيك عن مطالبتهما بقانون انتخاب قائم على النسبية، لا يرضى به تيار المستقبل. أما الشروط السياسية فيتولاها حزب الله الذي يعتبر نفسه غير معني بإعادة “تعويم” الحريري الذي يناصبه العداء، ولا يتوانى عن وصف الأسد الذي يدافع عنه الحزب، ويقاتل إلى جانبه بالمجرم. من دون نسيان شروط الأطراف الأخرى المتضاربة والمتداخلة، مثل مطالبة جعجع أيضاً بحقيبة سيادية، كالدفاع أو الداخلية، وأخرى خدماتية، وهذا ما يرفضه حزب الله.

حاول الحريري، وفور تكليفه رسمياً تشكيل الحكومة، تعويم شعبيته وإثبات أنه الزعيم “الأقوى” سنياً، عبر احتفالات وتظاهرات في بيروت وطرابلس وصيدا وغيرها. فهل يعينه هذا على تحاشي الاحتراق في نار الشروط والشروط المضادة لـ “الأقووين”، مسيحياً وشيعيا؟

العربي الجديد

 

 

 

رئيس الجمهوريّة وبائع السمك المطحون/ حازم صاغية

يوم أمس اختصرت الرقعةَ العربيّة صورتان: في المغرب طحنت شاحنة للنفايات، في منطقة الريف الأمازيغيّة شمال البلاد، جثّة شابّ اسمه محسن فكري وعمره 29 سنة. السلطات صادرت أسماكه التي يعتاش من بيعها ثمّ باشرت إحدى شاحناتها للنفايات طحنها، لكنّ محسن فكري لحق بأسماكه محاولاً إنقاذها فطحنته الشاحنة هو أيضاً.

أمّا الصورة الأخرى، ففي لبنان، حيث انعقدت جلسة انتخاب ميشال عون رئيساً جديداً للجمهوريّة.

العلاقة بين الحدثين والصورتين إنّما تصنعها هزيمة الثورات العربيّة وظفر الثورات المضادّة. فالانتخابات اللبنانيّة لا تعدو كونها ثمرة من ثمار الهزيمة والظفر المذكورين، وكذلك طحن محسن فكري الذي يدمي القلب بقدر ما يصفع الوجه ويتحدّى العقل والكرامة الإنسانيّة.

لنتذكّر فقط أنّ الشرارة التي أطلقت الثورات العربيّة كانت إضرام شابّ تونسيّ اسمه محمّد البوعزيزي النار في نفسه يوم 17 كانون الأوّل (ديسمبر) 2010، أمام مقرّ ولاية سيدي بوزيد، احتجاجاً على مصادرة السلطات البلديّة في تلك المدينة عربة كان يبيع عليها الخضار والفاكهة كسباً لرزقه ورزق عائلته.

ولأنّ هذه الشرارة أطفئت جزئيّاً، كما انطفأت جزئيّاً، بات ممكناً أن تحلّ عليه وعلينا مأساة محسن فكري الرهيبة، وأن يُنتخب ميشال عون رئيساً للجمهوريّة اللبنانيّة. فالصفحة التي فتحها البوعزيزي بجسده أغلقها فكري بجسده أيضاً، وهو الإغلاق الذي تكرّسه تحوّلات مؤسّساتيّة يراد لها تأبيد تلك الخلاصات المُرّة، على ما نشهد في لبنان.

شيء واحد قد يوفّر بعض العزاء، هو أنّ المجتمع المغربيّ ربّما كان من أكثر المجتمعات العربيّة ديناميّة، والدولة المغربيّة ربّما كانت (والعتبة، هنا، منخفضة دائماً) من أكثر الدول العربيّة قدرة على الاستجابة لما يحصل في المجتمع والتفاعل معه. وربّما رتّب اشتغال هذين العاملين معاً شيئاً من التصحيح يطاول المسألة الاجتماعيّة والحقوق السياسيّة. هذا التعويل، الضعيف والبالغ النسبيّة، هو ما يمكن أن يبلغه سقف الأمل اليوم في هذه الرقعة العربيّة الغارقة بدمها وذلّها، وبزواج معقود بين قسوتها وتخلّفها، تضحياتها وتفاهاتها، برمها بحاضرها وانسداد المستقبل في وجهها.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى