صفحات العالم

انتصار دمشق في … انقرة!

 


الياس حرفوش

قوة الدول تأتي من مناعتها في الداخل وليس من الوظائف والادوار التي تلعبها في الخارج. هذا ما تثبته مرة جديدة تطورات الازمة في سورية، وما يتبعها من تراجع للدور السوري في مواقع نفوذه السابقة، وهذا ما يؤكده من الجهة المقابلة الدور التركي المتعاظم في احداث وسياسات المنطقة، من فلسطين الى ليبيا، مروراً بموقف تركيا من الحدث السوري ذاته.

وبنتيجة هذا الدور المتعاظم، والثقة التركية الزائدة بالنفس، استطاع رجب طيب اردوغان ان يقف على شرفة مقر حزبه ليحتفل بانتصاره الانتخابي، ويعلن ان «انتصار انقرة انتصار لدمشق، وانتصار ازمير انتصار لبيروت، وانتصار دياربكر انتصار للضفة الغربية والقدس وغزة» …

على مدى عقود وظّفت دمشق امتداداتها الاقليمية، على الساحة الفلسطينية وفي لبنان والعراق، واحياناً وصولاً الى مصر ودول الخليج، في سبيل اكتساب دعائم خارجية تحمي النظام وتوفر له شرايين النفوذ. من التدخلات المتكررة في لبنان، الى مشاركة قوات النظام البعثي السوري الى جانب التحالف الغربي، ضد قوات البعث العراقي في حرب تحرير الكويت، الى توظيف العلاقة مع ايران في خدمة المشروع السوري، كانت المقايضات تقوم على استمالة الخارج، والغربي منه خصوصاً، من خلال لعب ادوار مطلوبة في مختلف الازمات، خدمة لمصالح هذا الخارج واهدافه، في مقابل توفير الغطاء للشرعية الداخلية. ولم تمنع هذه المقايضة المكشوفة الاهداف، في اية مرحلة من المراحل، الاعلام السوري من اظهار الدعم الخارجي وكأنه ممالأة للمناعة و «الممانعة» السوريتين، انطلاقاً مما كان يسمى «مركزية» دور دمشق في الوضع الاقليمي.

مع اكتساب هذه الشرعية الخارجية، لم يكن النظام يعتبر الداخل مهماً. القناعة كانت ان دعم الداخل، اي الشعب، للحزب «قائد الدولة والمجتمع» هو تحصيل حاصل، طالما ان هذا الحزب يؤدي الوظائف الاقليمية التي تتطلبها المعركة القومية، التي «لا صوت يعلو فوقها».

امام هذا الوضع يجد النظام السوري نفسه اليوم في مأزق. فهو خسر ورقة الدعم الخارجي التي كان يتسلح بها، ويسعى وراءها، لادواره الاقليمية، وخسر ورقة الداخل، الذي أهمله طويلاً بسبب الانصراف الى تلك الادوار، بدل الاهتمام بالقضايا السياسية والاجتماعية والمعيشية التي تشكل الهم اليومي للمواطن السوري، مثلما تشكل الهم اليومي لأي مواطن آخر، في بلد سليم البنية. اكتشف النظام السوري، كما ذكّره صديقه اردوغان قبل ايام، أن من الصعب الدفاع عن سلوكيات القمع في الداخل، من اية جهة، ولو كانت جهة صديقة للنظام السوري. فما بالك بالخصوم الذين باتوا يحذرون النظام السوري، بعد الاحداث الاخيرة، بأنه مهدد بـ «فقدان شرعيته».

في المقابل، تدفع الانتخابات التركية الاخيرة والالتفاف الجماهيري الذي حصده حزب «العدالة والتنمية» بزعامة رجب طيب اردوغان، الى استخلاص العبر من اهمية بناء المناعة السياسية الداخلية، التي تشكل القاعدة الاساسية في مواجهة المصالح و «المؤامرات» الخارجية، في حال وجودها. فقوة النظام الديموقراطي الذي تتمتع به تركيا حالياً هي التي تحميه في وجه الازمات التي تعرض لها في الفترة الاخيرة، من مواجهته للسياسات الاسرائيلية، الى مشاكل الاندماج التي يعانيها مع الاتحاد الاوروبي، وصولاً الى تحفظاته على الادوار المنوطة بالحلف الاطلسي، في ليبيا وسواها، وتركيا عضو فاعل في الحلف. ما كان لاردوغان ان يتخذ مواقف كهذه وان يرفع صوته في وجه القوى الغربية، لولا انه يشارك هذه القوى الوقوف على منبر واحد، هو منبر الشرعية الديموقراطية التي يحكم باسمها، حيث يستطيع ان يتحدث باسم 75 مليون مواطن تركي.

قوة القاعدة الشعبية هي التي تحمي النظام، لا العكس. وبانتظار ان ينعم السوريون بقوة كهذه تسمح لاصواتهم ان ترتفع، سيبقى النظام يبحث عبثاً عن وظائف خارجية يغطي بها انصرافه الداخلي عن شؤون شعبه.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى