صفحات الثقافة

انتظارات الشعوب الثلاثة

 

جهاد بزي

يضع الرجل طفلته على ذراعه، وباليد الأخرى يحمل حقيبة صغيرة.

ثيابهما ليست بالية، لكنها متسخة. أيام مرّت عليهما ولم يغتسلا. يمشي بها على الكورنيش البحري بلا هدى. بين الفينة والأخرى يشد أسفل كنزتها مخبئاً ما انكشف من ظهرها على البرد. لا يتسوّل. يبدو تائهاً مع ذلك. كأنه غريب ينتظر أمراً ما.

 كأنّه سوري آخر، هارب بحياة طفلته من الجحيم هناك. هذا ما يرجحه الناظرون إليه. لكنّه، مع ذلك، قد يكون فلسطينياً آخر، يلوذ  ببيروت من الجحيم عينه. وقد يكون لبنانياً. ما الذي حقاً يفرّقنا عن بعضنا بعضاً، إّذا ما وحدت اشكالنا المآسي؟ لا شيء.

 وفي بيروت، يطفو البؤس قاسياً. يبدو فاقعاً في التناقض بين الغنى الفاحش، وبين الفقر المدقع. ويبدو مُرهِقاً في أرتال لا تنتهي من المتسولين، أطفالاً وعجائز وذوي حاجات خاصة. ويبدو بؤساً عنيداً مقيماً في الملامح كلها، يمسحها بكآبته فتختفي.

 حزينة مدينة الشعوب الثلاثة، اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين، يلتقون فيها مجدداً على انتظار مصائرهم التي لطالما كانت واحدة غصباً عنهم في أحيان كثيرة.

 وهم متعبون من ثقل الإنتظار على القلوب. اللبنانيون ينتظرون ما سيكون حالهم. يرون السوريين ويسمعون حكاياتهم. ويفجعهم كم أن تجربة هؤلاء البائسة تخطت في سنتين كل مرارة التجربة اللبنانية في الحرب الأهلية. ويخافون من الرياح المُسمّة الآتية لا ريب، ومن التهافت اللبناني الأحمق على الإنخراط في الحرب السورية، بصفتها حرباً لبنانية، سنية ـ شيعية، اضاعت الطريق وانفجرت في المكان الخطأ. تهافت معتوه على استعجال جذب النار المرعبة إلى البلد الصغير الهش. تهافت أبله على شحذ السكاكين وعلى الاحتفال بالدم، من دون أدنى التفات إلى ماضٍ أو حاضر، أو بلد قريب.

 اللبنانيون الذين يقبعون في هواجسهم، بعضهم يذوب في نظام مستبد وقاتل، خوفاً من المجهول الآتي، وبعضهم المضاد يهلل ويكبر لقاطعي الرؤوس، ويرى فيهم المخلص من عدوّه الداخلي. والواقفون خارج الطرفين، هؤلاء الذين لا يعيدون الصراع إلى ألف وأربعمائة عام خلت، هؤلاء بلا حَيْل، ليس لهم إلا الفرجة والخوف، وانتظار الموت كقدر، أو الفرار منه كصدفة وحظ سعيدين.

 أما السوريون ففي تيه مضاعف. لبنان الذي لطالما كان مضيافاً للجيوش الغريبة كلها، لا يحب استضافة المدنيين الضعفاء. هذا حاله مع الفلسطينيين مذ وقعت النكبة، وهذا حاله مع السوريين الآن. لا شك أن اللبنانيين يعيدون اكتشاف السوريين خارج شعور الفوقية تجاه العمال والفقراء، وخارج الدونية تجاه ضابط البعث الحاكم بأمره.  يكتشفون عمق الشبه بين تلوّنات الشعبين، وانتماءاتهما السياسية واختلافاتهما الاجتماعية، وأحلام الشباب فيهما وآمالهم. لكنها اكتشافات تبدو أقرب إلى ترف ثقافي لا يحتاج إليه أحد، والجميع مشغول بالبحث عن تأمين البديهيات، كالخبز وتأشيرة الهجرة من كل هذا الشرق المجنون.

والسوريون الذين لا يعرفون متى ينتهي نزوحهم، ليسوا في أرض صديقة، ومضيفوهم اضطراراً منقسمون حولهم وعليهم. وقد يجددون حروبهم بسببهم، أو بحجتهم، وعندها لن يعود لهم ملاذ من الحرب الثانية.

 يبقى الفلسطينيون. أولئك الذين ظلموا أنفسهم كثيراً، لكن ليس بالقدر الذي ظلمهم فيه السوريون واللبنانيون بمعظم أطيافهم. المنكوبون مراراً وتكراراً، ملعونون بانتظارهم الأول، وبكل مآسي بلدي شتاتهم، من التمييز ضدهم في السلم، إلى اشراكهم بالقوة في انقسامات الحروب ودمائها. أولئك الذين يهربون من مخيم إلى مخيم، نتعامل معهم غالباً كأنهم ليسوا حقيقيين، بل كأنهم يعيشون في قصائدنا عنهم. أولئك المضطرون إلى ان يصيروا، اضافة إلى جنسيتهم، لبنانيين بالقوة، وسوريين بالقوة. عالقون في حروبنا ولا مفر لهم.

 نحن الثلاثة عالقون في مصائرنا الموحّدة. وعالقون في الإنتظار. هو انتظار واحد للشعوب الثلاثة في البلدين. وهو انتظار ملعون يكاد يكون مؤبداً. وليس لأحد الفكاك من طول هذا الانتظار، ولا من مآسيه المتعاقبة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى