صبحي حديديصفحات الثقافة

انتفاضة سعد الله ونّوس

 


صبحي حديدي

أفردت أسبوعية ‘أخبار الأدب’ المصرية، في عددها الحالي رقم 935، مساحة كريمة للإنتفاضة السورية، تصدّرها غلاف حمل عبارة سعيد عقل التي خلّدتها أغنية فيروز: ‘شآم… ما المجد؟ أنتِ المجد لم يغبِ’. وبين أبرز موادّ العدد مجموعة من رسائل المسرحي السوري الكبير الراحل سعد الله ونوس (1941 1997)، إلى رئيسة التحرير، الكاتبة والناقدة عبلة الرويني، تُنشر للمرّة الأولى. وفي تقديم هذه الرسائل، وعلى سبيل تحية الإنتفاضة السورية أيضاً، قال تحرير المجلة: ‘سعد الله ونوس بيننا الآن .. . صيحته الممتلئة بالأمل والثقة تهدر في شوارع دمشق، ودرعا، وحمص ، وحماه، وبانياس، وجسر الشغور، والحسكة، ودير الزور . الشعوب التي راهن عليها ، تخرج الآن من صمتها، وتثور على ( الملوك ) و(الأفيال ). سعد الله ونوس الأبقى في زمن مليء بالغائبين … رسائله هنا هي بعض من عذاباته وبعض من رؤاه ‘.

موضوعات الرسائل تدور حول ضرورات فهم أعمق لهزيمة 1967، ومساءلة المشروع الناصري، وانطواء صفحة المعسكر الإشتراكي، وحرب الخليج، والمثقف العربي الذي أصابه ‘عري كامل’، وهشاشة القوى السياسية وضعف قدرتها على المقاومة. ولعلّ مزاج الراحل، في تلك الحقبة، تختصره هذه العبارة الصاعقة: ‘إننا مهزومون حتى العظم’؛ التي تستدعي مقارنة موازية مع عبارته الأخرى الأشهر: ‘نحن محكومون بالأمل’. وفي رسالة أخرى يتحدّث ونوس عن ‘الوحدة الداخلية . وحدة فيها تقزز، فيها خوف، وفيها حزن أيضاً ‘ ؛ ويضيف: ‘أتعرفين ما نحن فيِ مجتمعاتنا ! إننا نحن المثقفين سلطة ظلّ شاغلها الأساسي أن تصبح سلطة فعلية، أو أن تنال فتاتاً في السلطة الفعلية . إننا قفا النظام، ولسنا نقيضه أو بديله، ولهذا ليست لدينا طروحات جذرية، ولا آفاق مختلفة، والمراوغة تطبع عملنا وتشكل جوهر سلوكنا، يا للخيبة ! ويا للحزن ! ‘

أصداء هذه العبارة يمكن أن تتردد اليوم، أكثر من ذي قبل ربما، بصدد تنويعات مواقف المثقفين العرب من انتفاضات شعوبهم، حيث يرتقي بعضها إلى سويّة مشرّفة، كما ينحطّ بعضها إلى درك فاضح، ويراوح تنويع ثالث بين الصمت السلبي أو التواطؤ المقنّع أو الإنخراط المباشر في صفّ الإستبداد. بيد أنّ موقف ونوس من الليبرالية جدير بالإنتباه الشديد، لأهميته الخاصة في ضوء الحاضر، والنقاشات التي دارت خلال السنوات الأخيرة حول مفاهيم الديمقراطية والتعددية والمجتمع المدني والحقوق العامة والخاصة. يكتب ونوس، في سجال مع الرويني: ‘أدافع عن الليبرالية بمعناها السياسي العميق، بمعنى الحرّية والعقلانية والمجتمع المدني والمشاركة في مصير هذه البلاد التي يتعاور مصيرها قطاع الطرق والأميّون والطفيليون والأتباع’. ويضيف: ‘ألم تكن واحدة من أخطائنا الكبيرة نحن الماركسيين أننا لم نقدّر تراث الليبرالية حقّ قدره، وأنه دون الديمقراطية والعقلانية وحرّية السجال ما كان بوسع الإنتماء الماركسي أن يكون إلا شكلاً جديداً من أشكال الإنتماء اللاهوتي؟’.

في الرسائل، أيضاً، شكوى مريرة من طرائق استقبال مسرحية ‘الإغتصاب’، 1990، التي جلبت على الراحل تهمة التبشير بالسلام مع الدولة العبرية، وتحوّلت إلى ‘معركة’، وإلى ‘محاكمة سياسية’، كما تكتب الرويني. والمرء، هنا، يتذكّر شريط السينمائي السوري الكبير الراحل عمر أميرالاي، عن ونوس، وفيه يطلق الأخير عبارة أخرى صاعقة، تضيف المزيد من الرهبة على ذلك الحوار الثقيل والجارح الذي يتسيّد الشريط بأسره: ‘فلسطين قتلتني’! وكان مدهشاً أن ينتهي صراع ونوس الطويل مع السرطان يوم 15 أيار (مايو)… يوم النكبة، دون كلّ الأيام!

صحيح أنه قَتْل بالإرادة، بمعنى أنّ انخراط ونوس وأمثاله من آلاف المثقفين والكتّاب العرب في الهمّ الفلسطيني حتى النخاع، كان خياراً طوعياً، بل كان على نحو ما ذاتياً وموضوعياً في آن معاً. إلا أنّ من الصحيح أيضاً، في الماضي كما اليوم وغداً، أنّ ذلك الإنخراط اتخذ وجهة قصوى لمعنى الإلتزام والإنحياز والوفاء، وكان قاتلاً بالمعنى الذي قصده ونوس: قتلٌ لرفاه الكتابة المتخففة من أعباء التاريخ، وقتلٌ لرفاه المكوث في أبراج عاجية عالية من أيّ نوع… بعيداً عن ضجيج الأرض، وعذابات أهل الأرض.

.. وبمنأى عن انتفاضاتهم، أيضاً! ترى ما الذي كان الراحل سيقوله اليوم تحديداً، عن عذابات سورية في وجه الطغيان، وعن انتصارات السوريين على تلك الحال البغيضة التي وصفها في إحدى الرسائل: ‘ أما هنا فلا شيءِ إلا الكذب، والفساد، وموت الأمل’؟ وهو، الذي أغمض العينين على مشاهد أقلّ قتامة وقسوة وبشاعة ممّا يشهد وطنه اليوم، هل كان سيكتفي بالصمت، أم سيخرج على الناس شاهراً لافتة الأمل، دون سواها؟ وهل يجوز التفكير، برهة قصيرة واحدة، أنّ هذه ليست انتفاضة سعد الله ونوس؟ أو أنه ليس بيننا، يطلق صيحة الأمل، كما يقول أصدقاؤنا في ‘أخبار الأدب’؟ مَنْ يتخيّله متحذلقاً حول خروج التظاهرات من المساجد، أو متفلسفاً حول مسؤولية حزب البعث وليس ‘الرئيس المنتخَب’، كما فعل أدونيس؟

وإذا كان جسمه قد قارع السرطان حتى الرمق الأخير، فكم من جسوم كان سعد الله ونوس سيقسّم نفسه فيها، من أجل دحر الخوف والحزن والخيبة، وهزيمة المثقف/ قفا النظام لصالح البديل النقيض، ومقارعة ما يُدبّر لسورية من… سرطانات أدهى؟

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى