صفحات سوريةمصطفى كركوتي

انحسار دور أوروبا في عالم تتعقّد قضاياه/ مصطفى كركوتي

 

 

خلال فترة وجيزة، باتت أوروبا قضية ينقسم حولها الأوروبيون في ما بينهم، كما بين سياسيي الدولة الواحدة. ولعل هذا ما يفسر تراجع الدور القيادي، الفعلي أو المحتمل، لهذه القوة الكبرى إزاء مشاكل العالم الملحّة، أكان في الشرق الأوسط، أم حتى في مناطق تتاخم أوروبا كأوكرانيا مثلاً. فغياب النفوذ والنُصْح الأوروبيين بات واضحاً في المشهد الإقليمي والمسرح الدولي، بل نلحظ انحساراً صادماً للدور الأوروبي تقريباً في معظم مواقع الأزمات ورداءةً في الأداء القيادي حتى إزاء قضايا محلية تهم الاقليم الأوروبي نفسه، كما إزاء قضايا تتناثر بكثرة حول العالم.

قد يقول بعضهم إن نوعية القيادة الأميركية هي المسؤولة مباشرة عن تردي القيادة الأوروبية، إذ أن انحسار الأولى يغيّب الثانية. وقيادة باراك أوباما المنحسرة، ولو آنياً على الأقل، عن الانشغال بقضايا العالم تحدد تلقائياً سقف التحرك الأوروبي ونوعه. لكن هذا لا يعفي أوروبا من مسؤوليتها الأخلاقية أولاً، والسياسية ثانياً، والاقتصادية ثالثاً، كي تلعب دوراً ناهضاً في مجتمعات جوارها. والمحزن أنك ترى سياسييها، في المقابل، منهمكين في شجارات لا معنى لها وقضايا سطحية أو مسائل هامشية.

بات أوروبيون كثر يرون الفرق الهائل بين مستوى قيادات راهنة ومستوى جيل ما قبل عقد أو إثنين. فقيادات كفرنسوا ميتران ومارغريت ثاتشر وهيلموت كول تُفْتَقَد كثيراً اليوم. فهؤلاء الثلاثة، على رغم خلافاتهم وتنوع طموحاتهم، برعوا ليس في تعزيز مكانة أوروبا عالمياً فحسب، بل أيضاً ساهموا عميقاً في تثبيت صدقية الاتحاد الأوروبي وتماسك نسيجه العام في عالم كان يمر في مرحلة استثنائية. فالمستشار الألماني السابق مثلاً يبرز بين قادة أوروبا بسبب دوره الخلاّق عندما واجه أهم تحدٍّ في حياته السياسية، إذ صاغ إجراءات إعادة توحيد بلاده وتحديد مسار مستقبلها. تلك اللحظة كانت علامة فارقة في تاريخ ألمانيا، بل ربما في تاريخ أوروبا المعاصر، منذ الحرب الكونية الثانية.

وما كان لأوروبا أن تحقق هذا الازدهار المستمر على مدى نصف قرن لولا الالتزام الصلب لقادتها الروّاد. فأوروبا التي نعرف الآن وُضعت أسسها عام 1952 وعضويتها الآن تشمل 28 دولة من 500 مليون نسمة. فرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا واللوكسمبورغ، ست دول بدأت في ما سُمّي المجموعة الأوروبية للفحم والصلب قبل أن تعاد تسميتها بالسوق الأوروبية المشتركة بعد خمس سنوات. ومع كرواتيا، باعتبارها آخر دولة تلتحق بالنادي الأوروبي عام 2013، يُتوقع للاتحاد الأوروبي أن يتوسع أكثر بانضمام أعضاء جدد إليه. عام 1973 سجّل أول توسيع للاتحاد بانضمام بريطانيا وإرلندا والدنمارك، وتلى ذلك انضمام اليونان عام 1981. اسبانيا والبرتغال انضمتا في 1986 ولحقت بهما النمسا وفنلندا والسويد عام 1995. وفي 2004 انضمت ثماني دول كانت ذات مرة سوفياتية اللون، هي تشيخيا وأستونيا ولاتفيا وليثوينيا وهنغاريا وبولندا وسلوفينيا وسلوفاكيا، منهية بذلك التقسيم القسري لأوروبا بعد الحرب الكونية الثانية. وأصبحت جزيرتا بحر المتوسط، قبرص ومالطا، لاحقاً عضوين في أكبر توسع أوروبي، وفي 2007 التحقت بلغاريا ورومانيا.

مسيرة الاتحاد في أوروبا انطلقت بعد حرب 1945، حيث بدت للمرة الأولى منذ قرون، رغبة عارمة في تقريب دول أوروبا بعضها إلى بعض في إطار يحول دون حدوث صراع جديد قد يلحق الضرر بها. في خطاب له في 19 أيلول (سبتمبر) 1946 دعم الزعيم البريطاني البارز ونستون تشرشل هذه الفكرة واقترح إنشاء كيان أوروبي «يستطيع العيش بسلام وأمان وحرية… في إطار يشبه الولايات المتحدة الأوروبـــية». وحــــدد تشرشل بجرأة ووضوح دور من سمّاهم «عمالقة أوروبا» كفرنسا وألمانيا. الخطوة الأولى في سبيل إعادة إنشاء العائلة الأوروبية «يجب أن تكون نوعاً من الشراكة بين الدولتين (…) هذا هو السبيل الوحيد لاستعادة فرنسا مركزها الأخلاقي في قيادة أوروبا، إذ لا يمكن إنعاش أوروبا من دون إلهام فرنسا وألمانيا العظيمتين».

وقامت فكرة تشرشل على أن تصبح القوة الجامحة لأي دولة أوروبية أقل أهمية، إذ إن «الدول الصغيرة ستتساوى، من حيث الوزن والفعالية في خدمة الهدف المشترك لأوروبا، مع الدول الأخرى». ولكن، وكما أظهر التاريخ لاحقاً، فإن حلم تشرشل لم يتحقق واتخذت الأحداث التالية اتجاهاً لم يكن في الحسبان. فقد انكفأت بريطانيا عن اللحاق بمجموع الدول الست عندما اتُفِقَ عام 1951 على تأسيس المجموعة الأوروبية للفحم والصلب، ورفضت دعوة الانضمام إلى «معاهدة روما» عام 1957. وعُيّرت بريطانيا آنذاك بتفضيلها حماية مصالحها وبقاءها «القوة الامبريالية» التي تخيلت أنها لا تزالها، إذ اختارت حكومتها أن تبقى خارج المعاهدة كي «تُبقي» على تفوقها. وبعدما لحظت بريطانيا كيف أن فرنسا وألمانيا تتقدمان وتنتعشان وتكوّنان تحالفاً قوياً في أوروبا، تقدّمت بطلب الانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة عام 1961. لكن الطلب رُفِض مرتين بفيتو الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول الذي اعتبر بريطانيا معادية لفكرة قيام أوروبا موحدة، فضلاً عن قربها أكثر مما يلزم من الولايات المتحدة. ولم تحصل بريطانيا على عضويتها في السوق إلا عام 1973، وبعد خروج ديغول من الحكم، في عهد حكومة إدوارد هيث المحافظة.

في كل الأحوال، باتت أوروبا خلال وقت قصير هي المشكلة وهي قضية الخلاف بين سياسيي بريطانيا كما بينهم وبين سياسيي الدول الأخرى الأوروبية. والملاحظ أن الخلاف لم يكن، كما ليس هو الآن بالضرورة، حول الأفكار المتعلقة بتقدم التعاون بين الدول الأوروبية وتصليب موقعها كي تنطلق نحو معالجة مسائل تحتل المركز الأول من اهتمام شعوبها وشعوب العالم. ولكن بات واضحاً أن أزمة أوكرانيا مثلاً والموقف المتردد، إن لم يكن المتواطئ، إزاء موضوع «الربيع العربي» عموماً، والقتل المتوحش في سورية والعراق وسياسات الأرعن بنيامين نتانياهو، كلها تعرّي أبرز سياسيي أوروبا لتخلّفهم عن مواكبة تلك القضايا في عالم يزداد تعقيداً وتوحشاً.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى