صفحات الثقافة

انفجار أميركي لاتيني جديد أبطاله كاتبات/ أحمد عبد اللطيف

 

 

“الانفجار”  أو “البووم” هو الاسم الذي أطلق على جيل الواقعية السحرية اللاتيني: ماركيز، يوسا، فوينتس، كورتاثر، رولفو، والعديد غيرهم، إذ حقق هذا الجيل انفجارًا أدبيًا هز العالم بكتابة غير مسبوقة، وبتيار سردي ناطح تيارات قديمة ومترسخة مثل الواقعية. لكن بعد الانفجار عادًة ما يأتي الخمول، فكل الحركات التي تليه تبدو خافتة لأنها غير قادرة على تحقيق نفس الأثر. هذا ما حدث أيضًا في الكتابة اللاتينية، إذ لم يعد أمام كُتّاب السبعينيات إلا الانضمام للهوجة أو الانزواء في الظل، وبداية من الثمانينيات، مع البحث عن وسائل جديدة للتعبير، لم يتكون تيار بل ظواهر فردية. هنا يظهر مثلًا ريكاردو بيجليا وثيسر آيرا وروبرتو بولانيو، لكنهم يبقون في النهاية كُتّابًا خارج “المجموع”، أصواتًا استثنائية.

لكن مؤخرًا ظهر انفجار جديد؛ كاتبات من مواليد السبعينيات والثمانينيات بدأن الكتابة مع الألفية الجديدة وشكّلن تيارًا سرديًا بدأ يقتحم العالم. إحدى علامات تحققه وصول سامانتا شويبلين (بوينوس آيرس، 1977) إلى القائمة القصيرة في المان بوكر العالمية البريطانية بروايتها “ما بعد النجاة”، وهذا نادرًا ما يحدث مع كتاب صادر بالإسبانية وكاتبته أميركية لاتينية. لم تفز شويبلين بالجائزة، لكن كتابها لفت الانتباه بقوة وكتبت عنها النيويورك تايمز مقالات نقدية تمتدحها، لتنضم شويبلين إلى ابنة بلدها ماريانا إنريكيث (بوينوس آيرس، 1973) وبولا أولوساراك (بوينوس آيرس، 1977)، بحسب ما ذكرت “الباييس” الإسبانية.

بالإضافة، ثمة قفزات أخرى كبيرة حققتها كاتبات شابات مثل التشيلية المقيمة في إسبانيا باولينا فلورس (سانتياغو دي تشيلي، 1988) بروايتها “يا للخزي”، والبوليفية ليليانا كولانثي (سانتا كروث، 1981) برواية “عالمنا الميت”، والمكسيكية لايا خوفريسا (مكسيكو سيتي، 1983) برواية “أومامي”. وهي كلها أعمال نجحت نجاحًا نقديًا في الشهور الأخيرة.

“الباييس” تشير كذلك إلى قائمة بوغوتا 39 هاي فستيفال، حيث اختيار أفضل كتاب أميركا اللاتينية تحت سن الأربعين، وهي قائمة ضمت الأسماء السابقة بالإضافة إلى المكسيكية غابرييلا خاوريجي (مكسيكو سيتي، 1979) وبريندا لوثانو (مكسيكو سيتي، 1981) والإكوادورية مونيكا أوخيدا (جواياكيل، 1988). لكن لا تزال أسماء الكاتبات أقل من أسماء الكتاب رغم ارتفاع عددهن في هذه القائمة (26 كاتبًا في مقابل 13 كاتبة) لكن المؤكد أن الكاتبات لم يحققن من قبل هذا الكم من النشر والجوائز والانتشار في إسبانيا، إذ يتعاونّ أيضًا مع دور كبيرة مثل بنغوين راندوم هاوس وسيكس بارال وأناغراما. والحقيقة أن هذا أول جيل أميركي لاتيني بعد جيل ماركيز وكورتاثر يحقق هذا الإنجاز ليس فقط داخل اللغة الإسبانية، بل بلغات أخرى عديدة، ما يطرح سؤالًا: هل هناك انفجار أميركي لاتيني نسائي؟

كاتبات الانفجار

تقول الكاتبة باولينا فلورس:”الحقيقة أن هناك نوعًا من الانفجار في السنوات الأخيرة، “انفجار آخر” بشكل ما. أعتقد أن لدور النشر دورًا كبيرًا إذ فتحت الأبواب للنساء، وأنا مع من ينتظر أن تأتي لحظة لا يكون فيها وجود “كاتبة” حدثًا، أو مفاجأة، وأن ينظر للأدب باعتباره أدبًا جيدًا أو لا بغض النظر عن كاتبه”.

وترجع المكسيكية لايا خوفريستا السبب إلى تراجع “الأحكام المسبقة” من جانب الناشرين على الكاتبات، لكنها تحذر من التفاؤل الكبير، إذ ترى أن “الطريق لا يزال طويلًا وأن نشر أعمال الكاتبات وترجمتها لا يزال أقل بكثير من أعمال الكتاب”.

وتؤكد الناشرة لاولاندي باتايه مديرة دار “راتا” أن الانفجار موجود بالفعل رغم أن أرقام المبيعات أقل من سنوات السبعينيات وليس مع اللاتينيات فحسب، بل مع الكاتبات بشكل عام. “والسبب القوي والبسيط هو الفضول، إذ إن القراء يريدون التعرف على أنفسهم ولا يمكن أن يحدث ذلك من دون قراءة ما تكتبه النساء”. وتبدي باتايه تفاؤلها بكتابة الكاتبات لأن لديهن الكثير لقوله. وتطرح سؤالًا: كيف ستكون قصص بورخس أو رواية “الحجلة” لو كتبتها امرأة؟ كيف يحكي صوت نسائي حكاية ماكوندو؟

وبالإضافة لمصادفة السن التي تجمع الكاتبات وأصولهن اللاتينية، ثمة سبب آخر للانفجار، هو قدرتهن على الدخول في المناطق الإنسانية القاتمة ومعالجة قبح العالم الذي يحيطنا. ففي مجموعة “الأشياء التي نفقدها في النار”، مثلًا، تتناول ماريانا إنريكيث الأحياء الأكثر فقرًا، وهو الجانب السري في الأرجنتين المتباهية. وفي “عالمنا الميت” تتناول كولانثي مذبحة الحيوانات. وفي “أومامي” تتعمق خوفريسا في الألم والغياب، كما تفعل المكسيكية بيرونيكا خيربر في “مجمع فارغ” عقب انتهاء علاقة غرامية. وفي “شيء شنيع” تطرح مونيكا أوخيدا بكل جرأة مسألة البيدوفيليا بكل ما فيها من مكونات مفزعة؛ فيما تكتب الأرجنتينية باولا بوروني في “تلميذة مثالية” عن الفشل والعقاب الذاتي حين نصل إلى سن يجب أن نحقق فيها نجاحًا ملموسًا.

هذا الاهتمام بالقسوة والعنف، في رأي باتايه، انعكاس لمجتمعات ولدت فيها الكاتبات، وبالنظر إلى تاريخ أميركا اللاتينية سننتبه إلى واقعها القاسي، وتناول هذا الواقع بحساسية أدبية كبيرة هو ما يمنح الكاتبات تميزهن.

من جانبها، تعتقد سامانتا شويبلين أن هذه الموضوعات هي الأدب في نهاية المطاف، “هي الطريقة الأكثر شعورية التي نغوص بها في الظلام، في مخاوفنا الأشد سوادًا، في كل ما لا نعرفه ولا يمكن تسميته، لنعود بعد ذلك للواقع بمعلومات جديدة وبأقل ضرر ممكن”.

وتتفق غابرييلا وينر، الكاتبة البيروفية، مع سامانتا. صاحبة “أقمار جديدة” تناولت الأمومة في عملها. تقول: “دائمًا ما لفتتني الكتب التي أنفعل معها وتحرك مشاعري وتجعلني أثور، هذه الكتب ذات التجليات العميقة حول وجودنا الإنساني، هي الكتب الوحيدة التي تجذبني وتقول لي شيئًا، كتب تحدثني عن نفسي. أظن أن ما يحركني هو الرغبة في المعرفة فقط”.

لكن باولينا فلورس تحذر من الوقوع في كليشيه المرأة والحميمية السردية، وتوضح أن البطريركية حصرت الكاتبات في الكتابة عن الحياة الخاصة ونسبت لهن مهارات سردية تبدو الآن شبه فطرية. “مع أني أعتقد أن المرأة تتمتع برؤى كثيرة، ولا ينبغي أن نقع في كليشيه أننا نكتب عن حميمياتنا فحسب، كأننا بذلك لا نستطيع إلا كتابة يوميات”.

وتقول لايا خوفريسا عن كتابتها “أنا لا أعمل بحسب الموضوع، ما يعنيني أن أحكي حكايات وأبني شخصيات ورواة بشريين يمكن تصديقهم، من دون أن أهتم بنوعهم”، وتعترض على فكرة عبثية تنظر إلى المؤلف على أنه “إنسان” فيما تنظر إلى المؤلفة باعتبارها “أنثى”، وتؤكد أن “النساء لديهن قدرة أكبر على استعارة أصوات الرجال من العكس، إذ كبرنا ونحن نقرأ أصوات الرجال”.

بدايات البووم

يقول كلاوديو لوبيث لامدريد، من بنغوين راندوم هاوس، إنهم ينشرون لكاتبات من أميركا اللاتينية منذ سنوات دون أثر، ويشير إلى أن التغير حدث في السنوات الأخيرة مع مانشيت صحافي، رافقه صدور رواية “ما بعد النجاة” لسامانتا شويبلين ومجموعة “الأشياء التي نفقدها في النار” لماريانا إنريكيث ورواية لبولا أولوساراك، وهي أعمال نالت حظًا كبيرًا من الاهتمام النقدي والانتشار في الصحافة الأميركية، بالإضافة لوصول رواية شويبلين إلى القائمة القصيرة في المان بوكر.

الناشر مالكولم أوتيرو، من دار مالباسو التي نشرت للعديد من اللاتينيات مثل مارغريتا غارثيا روبايو وغابرييلا وينر، ليس متأكدًا من وجود هذا الانفجار، رغم وجود كاتبات مميزات جدًا ومن طراز مختلف وموهبة كبيرة. هو يشير إلى وجود الانفجار في أميركا اللاتينية، لكنه يرى أنه لم يصل إلى أوروبا بعد، ويشير إلى كاتبات مثل ماريا مورينو وعملها “بلات أوت” الفائز بجائزة معرض بوينوس آيريس 2016، وفرناندا ملتشور ورواية “موسم الأعاصير” المنشورة في المكسيك، و”ضد الأبناء” للينا مرواني.

واقع القارة

في النهاية، وجود مجموعة من الكاتبات والكتاب من نفس السن تقريبًا ومن نفس البلدان واللغة خلق انفجارًا في أميركا اللاتينية، خاصًة وأن موضوعاتهم المطروحة هي واقع القارة نفسه على تنوعه واختلافه من بلد لبلد، ولعل الأرجنتين، كالعادة، صاحبة نصيب الأسد في هذا الانفجار. المؤكد أن قوانين الاتحاد الأوروبي التي لا تسمح بحرية انتقال الكتب من أميركا اللاتينية لأوروبا تقف عائقًا أمام انتشار هؤلاء الكُتّاب، ولعل ذلك هو السبب في أن أشهر الكتاب اللاتينيين هم المقيمون في إسبانيا أو الذين لجأوا لدور نشر إسبانية.

على أي حال، ثمة حركة سردية كبيرة في أميركا اللاتينية، ربما من أسبابها التخلص من عقدة الآباء والتصالح مع جيل الواقعية السحرية بعد عقود من محاربته من أجيال سابقة حتى تجد لنفسها مكانًا، كذلك الانفتاح على العالم والقدرة على السفر والتنقل والإقامة في دول أخرى، والقدرة على تناول القضايا الجمعية من منظور فردي، والاقتراب مما هو إنساني حتى لو كانت الثيمات ذات أبعاد محلية.

بشكل أو بآخر، نحن أمام جيل يستحق النظر إليه، وانتظار الكثير منه. وليس فقط الأسماء الواردة في التحقيق الذي تركز على الكاتبات، بل أيضًا من كُتّاب أمثال باتريثيو برون وأندريس نيومان. فهؤلاء هم مستقبل الأدب اللاتيني.

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى