صفحات الرأي

انفجار الصندوق السوريّ الأسود

 


حازم صاغية

يعرف واحدنا الكثير عن أسباب الانفجار السوريّ متى قرأ كتاباً لم يُعرف. الكتاب يحمل عنواناً يتراوح بين الكافكاويّة والأوريليّة: “سوريّا من الظلّ: نظرات داخل الصندوق الأسود”، صدر العام الماضي عن دار “جدار للثقافة والنشر”.

صاحبه أحد ألمع الكُتّاب السياسيّين العرب قاطبة: ياسين الحاج صالح. لقد دخل ياسين السجن وهو في العشرين ليقضي فيه 16 سنة، هي الجزء الأجمل والأكثر حيويّة من تاريخ أيّ كائن بشريّ. وفي 2000، مع وراثة بشّار الأسد السلطة، بدأ مهنة الكتابة.

لكنّ هذه التجربة بما فيها من تغيير مجاري الحياة والمهنة، والكاتبُ كان يوم اعتقاله طالب طبّ، لم تنتج أفكاراً مثقلة بالضغائن، أو أنّ مرارتها لم تتدخّل في أفكار صاحبها. ففي غير موضع يكرّر الحاج صالح فكرة أنّ “مستقبل حزب البعث مرهون بقدرته على التحرّر من نظام الحزب الواحد. بعث حزب البعث هو تحرّره من السلطة”، و”في مصلحة سوريّا والسوريّين أن يوجد حزب سياسيّ سوريّ اسمه حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ في… المجتمع المدنيّ”. وهو يلاحظ، كما لو أنّه ينبّه، أنّه كلّما تمّ التمسّك بالحزب الواحد زادت شهيّة الأكثريّة المعارضة والمهمّشة لاجتثاث البعث.

لكنّ المشكلة تقع هنا تحديداً. ذاك أنّ البعث لا يرغب في أن يكون إلاّ الحزب الواحد هذا. ولأنّه كذلك، صاغ الدولة والمجتمع على النحو الذي يدفع بهما راهناً إلى التداعي. وهذا ما تشرحه مقالات الكتاب التي وُضع معظمها خلال 2004 و2005.

فياسين يبدأ بضرورة التوصّل إلى عقد اجتماعيّ جديد بين السوريّين يحلّ محلّ الشرعيّة المتآكلة للوضع القائم، إذ المطمح الكبير للتغيير، في رأيه، هو تحوّل سوريّا دولة حقّ وقانون.

أمّا الوجهة المتعاظمة في دولة البعث فتنهض على نزع السياسة وشلّ المبادرة في أوسع معانيها. هكذا ينضب المثقّف الشابّ ويُصاب المسيّسون بالاكتهال ويُنحّى الطلاّب عن الشأن العامّ. وهذه الظاهرات جميعاً تبعث على ضعف في الأحزاب يفاقمه القمع وشيخوخة أيديولوجيّاتها، بحيث نجدنا أمام “زوال الشعب كفاعل سياسيّ”. والحال أنّ محنة سوريّا الأمّ التي تفرّعت عنها المحن الأخرى هي، بالضبط، إبعاد الناس عن السياسة، أي عن تقرير مصائرهم. وتبعاً لتشخيص كهذا نفهم أكثر لماذا تصدّر عنوانا “الحرّيّة” و”الكرامة” انتفاضة السوريّين. بل في مناخ كهذا، لا يعود الفساد إضافةً إلى الوضع العامّ أو ملصقاً به، بل يغدو بنيويّاً وعضويّاً: فـ”لأنّ السلطة باتت مخصخصة عمليّاً فإنها تصبح قابلة لأشكال مختلفة من التسويق والمقايضة”. وبسبب قيام النظام على التمييز، وتحوّل التمييز مصدراً يرفده، “باتت المواطنة سباقاً دائماً في النفاق والوشاية والتصفيق وعبادة الحاكم”.

بيد أنّ الحاج صالح يذهب أبعد من ذلك فيشرّح انعكاس حكم البعث على النوى القاعديّة في الصلب المجتمعيّ السوريّ، وعلى علاقاتها وتبادلها، حيث “صار الطالب أضعف أمام «اتّحاد الطلبة»، والأستاذ أمام إدارة الجامعة، والمواطن أمام الموظّف الحكوميّ…”. وعلى النحو هذا نغدو حيال وطن “يستفيد من كتابة التقارير [الأمنيّة] أكثر من كتابة المقالات والدراسات”. وأيّ وطن يكون هذا؟

ولا يلبث رسم هذا البناء الانهياريّ أن يقود إلى تمييزات دقيقة يمسّ بعضها أقانيم النظام أو محرّماته. ذاك أنّ الاستقرار “الذي خبرته سوريا خلال مرحلة ما بعد 1970 استقرار جهازي وليس مؤسّسيّاً، ركيزته هي القوّة وليس القانون، والإرادة المشخّصة وليس القاعدة العامّة المستقرّة”. أمّا الجبهة الوطنيّة التقدّميّة فلا تعدو كونها “جهاز الموت السياسيّ”. ومن تلك التمييزات الدقيقة والذكيّة ما يطاول الحقب والتحوّلات العريضة في التاريخ السياسيّ الحديث لسوريّا. فإذا صحّ أنّ “الإرادويّة” كانت عقيدة العهد البعثيّ المتطرّف خلال 1966-1970، فإنّ “الإدارويّة” صارت ديدنه في العهد البعثيّ التالي الذي دشّنه حافظ الأسد في 1970. أمّا سقوط البعث العراقيّ في 2003 فكان أثره سيّئاً على البعث السوريّ لسبب لم يستوقف الكثيرين، هو أنّه “كان لوجود البعث العراقيّ مفعول تطبيعيّ على شقيقه السوريّ، أي أنّه كان يقلّل من غربته ويجعله مألوفاً أكثر”.

والحاج صالح ليس ناقداً غير معنيٍّ بالمستقبل، تتغلّب فيه العدميّة على المسؤوليّة. فهو يخاف من ضعف السلطة بقدر ما يخاف من استفحال قوّتها، بل يرى “أنّ الدولة القمعيّة معرّضة أكثر من الدولة العاديّة (التي تقمع في إطار القانون) للتحوّل إلى دولة عاجزة عن القمع… والدولة القمعيّة العاجزة عن القمع أسوأ حتّى من الدولة القمعيّة المدمنة على قمع مواطنيها”.

ومن الإعلام الرسميّ والكذب إلى “اقتصاد السوق الاجتماعيّ” بوصفه “أعلى مراحل انحلال الاقتصاد المدوّل”، ومن متابعة أحداث وقرارات داخليّة مهمّة والتعليق على مدلولاتها إلى رصد المحاولات الديمقراطيّة التي حاولها السوريّون، يتابع الكاتب عناوين الانهيار والتداعي، رابطاً بين القمع في أشكاله الجديدة وبين “العمل على إلغاء مكتسبات ثورة الاتّصالات التي استفاد منها السوريّون في وقت زامن تغيّر العهد في البلاد”. وهو يفعل هذا وذاك بشجاعة لافتة كلّفته، بعد سنوات السجن المديدة، امتهاناً بوليسيّاً (زفّة) كتب عنها صفحات مؤثّرة تقنعنا بأنّ “شبّيحة” اليوم لم يولدوا في أمس قريب.

لكنّ أهمّ ما في كتاب ياسين الحاج صالح، وهو ما لا نجده في معظم ما يُكتب عن سوريّا، أنّه كتاب سوريّ. فهو لا يُلحق قضيّته الوطنيّة بأيّة قضيّة أخرى، وإن كان يعترف بالتقاطع بينها وبين قضايا خارجيّة وإقليميّة. ذاك أنّ ما يؤرّقه هو البرهنة على أنّ لبلاده داخلاً ينضوي فيه اقتصاد وتعليم وصحّة وإعلام وسياسة، وأنّ سوريّا ليست مجرّد وظيفة تختصرها “الممانعة” أو “الصمود”.

فهو يتوقّف طويلاً، وبألم غير مكتوم، عند ضعف التراكم المعرفيّ والكتابيّ عن سوريّا التي جعلها نظامها صندوقاً أسود. وهذا ما يزيد في حضّه على المضيّ في مهمّة التعرّف والتعريف الذاتيّين. والمهمّة الملحّة هذه موضوعة، مع ياسين، في يد أمينة.

الاتحاد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى