صفحات الرأي

انهيار الشرق الاوسط العربي المديد: ضدية حازم صاغية في مقاربته ‘الفكر الضدي’

 

فراس كيلاني

لا يخرج كتاب حازم صاغية ‘الانهيار المديد’ الصادر حديثاً عن ‘دار الساقي’ كثيراً عن مشروعه الذي بدأ العمل عليه خلال العقدين الماضيين، ونشر ابرز خلاصاته في كتب اثارت الكثير من الردود كما في ‘العرب بين الحجر والذرة’ و’وداع العروبة’ و’وقوميو المشرق’ وغيرها من دراسات.

لكنه في ‘الانهيار المديد’ يذهب ابعد في تنقيبه في ‘نفايات’ الشرق الاوسط العربي تحديداً، ليخلص -كما يشي عنوان الكتاب- إلى ان ‘الانهيار’ المتوقع ان تشهده دول المنطقة لا يزال مفتوحاً على هاوية يصعب سبر قاعها، وذلك نتيجة امراض ‘بنيوية’ يعتبر ‘الاسلام’ أحد اهم اسبابها على ما يؤكد صاغية.’وهكذا تراه يتنقل بين العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والاردن وصولاً لمصر، ليعيد قراءة الكثير من البديهيات، ويقدمها بعد أن ينفض عنها ‘ثوب الايديولوجيا’ وما حجبه من فظائع واخطاء وعورات كانت السبب ‘وراء الكثير من الكوارث التي ألمت بشعوب هذه الدول منذ الحرب العالمية الاولى وحتى اليوم.

في معرض نبشه لأفكار قادة ومفكرين رحلوا، وآخرين ممن لا يزالون على قيد الحياة، يقدم الكتاب ما يسميه ‘الخلفية التاريخية لانتفاضات الشرق الاوسط العربي’، وعلى غزارة واهمية المادة النقدية التي تتضمنتها دفتي الكتاب، وضرورتها الراهنة في معرض التخبط والضياع الذي تمور به المنطقة، إلا ان ذلك لم يحل دون بعض التعسف ولي عنق الحقائق هنا وهناك في قراءة هذه المرحلة أو تلك، ملاحظة لا بد من تسجيلها مبكراً، كما لا بد من التنبه إلى ان صاغية اعتمد على مصادر ودراسات غربية وروايات إسرائيلية وكتابات لمسيحيين مشرقيين في غالبية بحثه الممتد على ثلاثمائة وثلاث عشرة صفحة من القطع الكبير.

‘الضدية الفكرية’

ينطلق صاغية من ‘مسلمة’ ستحكم مسار تتبعه لتطور الفكر السياسي في الشرق الاوسط ونماذج الحكم التي اوصلها إلى السلطة عبر انقلابات عسكرية دمغت المشهد برمته بديماغوجية عنفية ادت لكوارث لا تزال مفتوحة على المجهول، ‘مسلمة’ تحتمل الكثير من الاخذ والرد، وهي أن ‘الشرق الاوسط دخل الى السياسة من باب ضيق، هو الصراع مع الاستعمار، فجاءت سياسته مفصولة عن الاصلاح الديني او التنوير ‘او الثورة الصناعية او العلمية’، وهو ما دفع الى تطور، ما يسميه الكاتب، بامتهان قادة هذه الدول لـ ‘سياسة ضد السياسة’، تجد مبرراتها في تبلور ‘فكر ضدي’ نتيجة لعوامل كثيرة، اهمها ‘بنيوي’ يضرب جذوره في الثقافة الاسلامية كما العربية، بالاضافة لبعض المبررات الخارجية ‘الكولونيالية’ التي دفعت لتطور هذا الفكر بين الحربين العالميتين، وذلك بحسب ما يوضح صاغية في مقدمته الموسعة للكتاب، والتي تكاد تكون الجزء الوحيد الذي يعرج فيه على الاسباب الموضوعية لتطور مسار الفكر السياسي العربي المعاصى في اتجاه هذا ‘الانهيار المديد’.

يخصص الكتاب بعد ذلك عدة فصول لتتبع آثار هذا ‘الفكر الضدي’ على الدول قيد الدرس ليبدأ من مصر عام 1882، وهو التاريخ المتفق عليه اكاديميا باعتباره بداية الاستعمار في الشرق الاوسط العربي، ليعيد سبب هذا الاستعمار الى الحركة التي اقدم عليها الضابط المصري احمد عرابي ذوي الاصول الفلاحية وخريج مؤسسة الازهر ايام الخديوي توفيق،’وذلك حين تنطح ‘لمهمة التغيير بالطريقة التي يفهمها’،’بالسيطرة على السلطة من خلال ‘شعبوية’ ادت لتفكيك المجتمع المصري، ليخلص بان الرجل ليس سوى قوة ضدية لا تملك اي تصور ايجابي، تمعن في تفتيت المجتمع المصري نفسه، فالرجل بـ’تمرده’ والتعبير لصاغية قاد الى اصطدام مباشر بالبريطانيين انتهى لاحتلالهم البلاد، دون ان’يتطرق في هذا الحيز لاي من تطلعات الامبراطورية البريطانية لاحتلال مصر قبل ذلك بعقود.

وحال عرابي كما يرى صاغية، كحال وزير الدفاع السوري يوسف العظمة الذي خرج مع بضع مئات من المقاتلين في موقعة ‘ميسلون’ الشهيرة’لمواجهة الفرنسيين الذي كانوا في طريقهم لدمشق لينهوا حلم الدولة العربية في سوريا.

غياب مفهوم الدولة

يرى الكاتب بأن’العرب لم يطلبوا الاستقلال عن السلطنة العثمانية بوصفهم دولا امما، بل اقتصر هدفهم على نيل اللامركزية.’وبأن ‘تعبير تركيا عن وطنيتها في صورة شوفينية عقب انقلاب 1908 هو ما حرضهم على طلب استقلال غامض’.

ايضاً هنا يغفل صاغية الكثير مما جرى في اروقة السياسة السورية والدولية، لصالح الإعلاء من دور ما يسميه”استخدام العواطف المتأججة والتسلح باوهام اسلامية وامبراطورية”لدفع الملك فيصل ‘مكرهاً’ لخيار المواجهة مع فرنسا، رغم ‘البازار السياسي’ الكبير الذي دخله الملك الهاشمي في مؤتمر الصلح في باريس مدعوما من مجموعة كبيرة من سياسيي الكتلة الوطنية، والذي وصل حد توقيعه اتفاقاً مشروطاً بدعمه تطلعات الحركة الصهيونية في فلسطين حال حصوله على مطالبه باستقلال سوريا.

ورغم ايراده لاحدى خطب فيصل المبكرة والتي اشار فيها لان”العرب هم قبل موسى وعيسى ومحمد’، إلا انه لا يستخدم ذلك لنفي الضدية في سياسة فيصل، وإنما في سياق ما يسميه إكمال الملك الهاشمي ‘العمل بالمفهوم الثقافي المسيحي النشأة للرابطة العربية التي اراد لها المثقفون المسيحيون في جبل لبنان ان تكون بديل الرابطة الاسلامية العربية’. وهو قول يتكرر كثيراً في الكتاب دون اي تحليل معمق للفوارق بين اسلاميي ومسيحيي الشرق الاوسط العربي الذين سيتضح بعد عدة عقود انهم ليسو بمنأى عن الميل البنيوي للعنف في ارث المنطقة الذي يتشاركه الجميع.’

يرى صاغية ان’الفكر الضدي ازداد بعد ماسسة الاحتلال عبر عصبة الامم، ليصل درجة المحرك الوحيد للسياسة في الشرق الاوسط، وترتب عليه رفض اي افكار اصلاحية او انفتاح على الغرب الذي حُمّل مسؤولية التخلف الذي تعيشه المجتمعات العربية، كما تمثل ذلك في نشأة جماعة الاخوان المسلمين في مصر، ‘والتي وضعت الاسلام وجها لوجه امام الحداثة، فعارضت الوطنية ورفعت شعار القرآن دستورنا’.

وعلى ذات المنوال يتابع صاغية مراجعته للثورات التي قامت ضد الاحتلالات الغربية،’فكذا الحال فيما يتعلق بتجربة رشيد عالي الكيلاني الذي تحالف في ضديته مع مفتي فلسطين الحاج امين الحسين، مع الاشارة لاعجاب الرجلين بالتجربة النازية.

يقول الكاتب بان’الصدام مع الحركة الصهيونية والذي بلغ ذروته في انتفاضة 1936- 1939 كان له دورٌ كبير في رفع درجة الضدية داخل مجتمعات الشرق الاوسط العربي فالانتفاضة كانت لحظة تحول من مقاومة الهجرة اليهودية وحدها الى مقاومة الانكليز ايضاً، ونتائجها ‘جاءت كارثية على المجتمع الفلسطيني’.’

وحده الأردن استطاع مبكراً، بحسب صاغية،’ارساء دولة ابوية على يد الامير ولاحقاً الملك عبد الله، ابوية ‘معنية بإرضاء البدو لفصلهم عن القوميين بقدر ما هي معنية بفوائد الانتماء إلى مكان بعينه’، ونجح في تشكيل سلطة لا تكون قمعية بالمعنى الذي شهدته الدول التي حكمها العسكر في الدول المجاورة.

عبد الناصر والسعيد

ومع الشحنة القوية التي عززت الضدية بقيام دولة اسرائيل يرى الكاتب ان الخمسينات شكلت عقدة الصراع المفتوح بين مدرستين سياسيتين، اختصرتا وكثفتا طريقتين في النظر، وهما مدرسة جمال عبد الناصر ‘التي تستمد السياسة من المشاعر العربية الجريحة، لكنها تبقيها في اطار المشاعر فحسب’، ومدرسة السياسي العراقي نوري السعيد التي ‘تتكامل مع مدرسة الحبيب بورقيبة في المغرب العربي’.

يبرر صاغية سياسية السعيد بانها قامت على فكرة ان ‘العراقيين وبالتالي العرب لن يستطيعوا نيل الاستقلال والتقدم في ظل علاقات عدائية مع الغرب’، وأن على يده وحده سوف يغدو لهم نصيب في التعليم والتقنية، ومن هذا المنطلق يعرض لسياسة السعيد القائمة على محاولة استغلال الحرب الباردة بين الغرب والكتلة الشيوعية، بحيث يعطي العرب الغرب في معركته مع الاتحاد السوفييتي مقابل ان يأخذوا منه في فلسطين على حساب الإسرائيليين. والغريب في هذا السياق ان الكاتب إذ ينتقد بعض سياسات السعيد الداخلية فإنه يشير على وجه التحديد إلى ‘سلوكه الاستبعادي والطارد حيال يهود العراق’.

بيد أن الوعي الضدي كان حليفاً لعبد الناصر الذي صار بطلاً لا ينازع، رغم هزيمتين ووحدة فاشلة وازداواجية سياساته الداخلية والخارجية، بينما قتل السعيد باكثر الطرق وحشية اثر الانقلاب الجمهوري في بغداد يوم 14 تموز/ يوليو 1958.

ويرى صاغية ان الضدية العربية ارتقت لاعلى درجاتها بوصول البعث لسدة الحكم في سوريا والعراق، وتعثر مصر رغم نفض الرئيس انور السادات اعباء الناصرية بضدياتها عبر رد الاعتبار لمدرسة نوري السعيد، فشن مع سوريا حرب اكتوبر 1973 انتهت بهزيمة عسكرية ونصر سياسي تحقق عبر ولوج حيز المحرمات بالتوصل لاتفاق سلام مع اسرائيل، لكن الضدية الاسلامية كانت اقوى منه فخر صريعاً برصاص الجماعة الاسلامية، وليئن خليفته حسني مبارك تحت وطأة هذه الحقيقة، رغم عدم ادخال اي تغيير جوهري على سياسة سلفه، لكن دون المضي بها إلى نهاياتها ايضاً.

الضدية البعثية

ستجلب هذه السياسة الكارثة المفجعة بكل تلاوينها على العراق الـذي سيدخل بقيادة صدام حسين حروبا دونكيشوتية خلفت مئات الاف القتلى، ولتنتهي بغزو غربي، لستباح جثة الوطن المدمى من قبل صقور الحرب الاهلية بابشع صورها الطائفية، ما يذكّر بما كان قاله الملك فيصل قبل عقود من أنه ‘لا يوجد شعب عراقي داخل العراق، هناك فقط جماعات مختلفة من دون عواطف وطنية’ والاستعارة بالطبع لحازم صاغية.

لكن هذه الضدية، ربما بابهى تعقيداتها، ستتمثل في سياسة البعث السوري الذي لن يتورع، بعد الغائه السياسة من التداول العام، عن استخدام كل الاوراق المتاحة بعد صدامه مع ‘بعث العراق’ وخروج مصر من البيت العربي بتوقيع ‘معاهدة السلام’، لتصبح الساحتان اللبنانية والفلسطينية التي لم تنجو هي الاخرى من هذه العقلية، مكان لعب اثير سيستزف قدرات ومصائر اجيال ودول، لا تزال فصولها تتوالى على الهواء مباشرة.

ارث عفن

بهذا الارث الذي لا تفوح منه إلا ‘رائحة العفونة’ يلج الشرق الاوسط العربي عصراً جديداً في العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، وكل المقدمات، بحسب صاغية، تؤكد الـ’انهيار مديد’.

ورغم اشارته إلى’أن العالم الإسلامي قد يكون كله مأزوماً، لكن المؤكد برأيه ان منطقة الشرق الاوسط العربي هي اكثرها، وليس هذا فحسب، بل انما ايضاً طرح امر وجودها على بساط البحث، لذا يطالب صاغية بـ’نزع القداسة عن الحدود الاستعمارية كما ارتسمت بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية’، فالثورات برأيه ‘يمكن ان تحض على إعادة اختراع الوطنية إن لم يكن في مضمونها ففي اشكالها’، وذلك رغم اشارته في مقدمة الكتاب إلى ان ‘الثورة ليست فعلاً شرعياً، بل هي فعل اضطراري املاه افتقار الوضع القائم إلى الشرعية او استنفاذ الشرعية القائمة وتخشبها ومن ثم ميلها إلى صد السياسة والحيلولة دون اي حراك سياسي’.

*كاتب فلسطيني – لندن

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى