صفحات الثقافة

بابلو نيرودا.. المومس المنافق؟ أم الحساس العاشق؟!/ محمد حجيري

 

 

“نيرودا؟ انه مومس إيجاره أغلى من ان يتمكن بلد فقير مثل بلدنا من دفعه”.

نيرودا المقصود بهذه العبارة هو شاعر التشيلياني بابلو نيرودا صاحب “النشيد الشامل” وقصائد الحب والانسانية، الذي يعتبر رمزاً من رموز الثقافة العالمية واليسارية و”الشيوعية”، ومَن وصفه بـ”المومس” ليس البيت الأبيض الأميركي، ولا صحافة التابلويد الانكليزية، بل الزعيم الكوبي (الشيوعي) الراحل فيديل كاسترو، صديق غابرييل غارسيا ماركيز. أما مناسبة اصداره هذا الحكم على صاحب “النشيد الشامل” فهو اقتراح تقدم به بعضهم ذات يوم، حين كان نيرودا يشعر بالخطر في الغرب ويبحث عن ملجأ له في بلد اشتراكي (سوفياتي الهوى) بحسب مقالة لابراهيم العريس.

فلماذا كان موقف كاسترو على ذلك النحو، إزاء شاعر بجّلته الثورات الشيوعية واليسار الثقافي وحتى جائزة نوبل؟ بحسب الوارد كان نيرودا شاعراً يمزج بين الحب والقتل، بين الشعر الجميل والعمل الاستخباراتي القذر، ولا غرابة في ذلك فهو كان ستالينياً بامتياز ويقول عن ستالين: “ستالين/ كان يبني/ من يديه طلعت الحبوب والجرارات/ الدروس والطرقات… بساطته وحكمته/ بنية خبزه وفولاذه الذي لا يلين، كلها ساعدتنا وتساعدنا في كل يوم على ان نصبح رجالاً… ستالين هو شمس الظهيرة/ نضج الرجال والشعوب/ انه منارة لليمام/… ستالين كان دائماً أكثر حكمة من البشر كلهم مجتمعين”.

ومَن يقرأ تفاصيل علاقة نيرودا بالستالينية، تحضر في ذهنه الصورة التي رسمها الروائي التشيكي ميلان كونديرا عن بعض شعراء الحرية في رواياته. فهم شعراء الحرية، لكنهم في خدَمَة الطغيان والكوابيس. وبالطبع كونديرا نفسه لم ينج من السقطات الثقافية. كان شاعراً “مناضلاً”، يكتب مثلاً: “إلى أرض ستالين، سنذهب لنغرف قوتنا”. الى جانب أنه كان عضواً في الحزب الشيوعي، وقد هاجمه فاتسلاف هافل يومها، لأنه وجد مواقفه معتدلة في ما يتعلق بربيع براغ.

على أن صورة نيرودا لا تتوقف ضمن إطار محدد، فهو مزيج من التناقضات. قد تكون النزعة الستالينية لديه ابنة مرحلتها، وكثيرون تورطوا فيها، لكن في حياته من الصور ما هو أبعد من ذلك وأكثر تعقيداً والتباساً. ففي السنوات القليلة الماضية، كان الجمهور على موعد مع أكثر من قضية في حياة هذا الشاعر، من الصورة النوستالجية التي رسمها الكاتب التشيكي أنطونيو سكارميتا في روايته “ساعي البريد”، الى الصورة التراجيدية التي تجلت في العودة الى نبش قبر الشاعر التشلياني للبحث في الأسباب الحقيقية لموت الشاعر في خضم الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال بينوشيه يوم 11 سبتمبر 1973. وقد طُرحت مجموعة افتراضات تناقض الرواية الرسمية لموته… على أن الصورة الأشد فتكاً، والتي ربما لا يصدقها كثيرون من مبجّلي نيرودا، هي تلك التي رسمتها الروائية والشاعرة الهولندية هاخر بيترز في روايتها “مالفا”(*)، فهي تفتتح الرواية بالمقطع الآتي: “اسمي مالفا مارينا ترينيداد دول كارمن ريّس، لكن أصدقائي هنا ينادوني مالفيا. مالفيا فقط بالنسبة إلى الآخرين. استطيع من باب الدفاع عن النفس أن أقول إن هذا الاسم ليس من اختراعي طبعاً، أبي هو من ابتدعه. لا بد إنك تعرفينه، ذلك الشاعر العظيم. منحني أبي هذا الاسم مثلما يمنح قصائده وكتبه عناوين. لكنه لم ينطق به أبداً أمام الناس. بدأت حياتي الأبدية بعد موتي في العام 1943 في خودا. لم يحضر جنازتي سوى عدد قليل جداً من البشر، لم يتجاوزا أصابع اليد الواحدة. كانت جنازة مختلفة تماماً عن جنازة أبي التي مشى فيها آلاف البشر في سانتياغو في تشيلي بعد ثلاثين عاماً كاملة من موتي”.

مالفا هي الابنة المعاقة الوحيدة الشرعية، والسرية، لنيرودا، من زوجته الأولى الهولندية ماريّا هاغينار التي تعرّف إليها واقترب منها في جزيرة جافا عندما كان قنصلاً لبلاده في إندونيسيا أيام كانت مستعمرة هولندية. تعلق بها واصطحبها الى مدريد، وأنجب منها مالفا، وبعد فترة ترك الاثنتين لمصيرهما المجهول. وقد توفيّت الابنة في مدينة خودا الهولندية، قبل بلوغ الثامنة من عمرها، بسبب مرض ناجم عن تشوهات جينية في الدماغ يؤدي إلى تضخّم في الرأس  ويمنع النمو ويعطّل الحواس… هذه الحقيقة المُرّة، كشفها، قبل نحو عقد من الزمن، التحقيق الذي كتبه باحثون متخصصون في شعر نيرودا وحياته، وهما الكاتبة والصحافية التشيليانية إيزابيل ليبساي – Isabel Lipthay، والكاتب التشيلياني أنطونيو رينالدوس – Antonio Reynaldos. والحقيقة أن ما حاول الباحثان التأكيد عليه طوال دراستهما، هو أن العثور على ابنة نيرودا، في الذكرى المئوية الأولى لمولده، يعد اكتشافاً مثيراً وجديداً، ربما سيدفع البعض إلى إعادة قراءة منجزه الشعري والأدبي من خلال نظرة إنسانية جديدة. لكن السر كان معروفاً من قبل. يشير الشاعر عماد فؤاد إلى أنه في السيرة الذاتية التي كتبها نيرودا تحت عنوان “اعترف بأنني قد عشت”، والتي نقلها إلى العربية محمود صبح(***)، هناك أكثر من إشارة على لسان نيرودا نفسه، إلى ابنته هذه، وظروف مرضها ثم موتها. وهذه الإشارات تأتي سريعة وخاطفة، وكأن الشاعر يحاول جاهداً أن يهرب من الآلام التي تسببها له هذه الذكريات… وبكل الأحوال تلقفت الشاعرة الهولندية الاشارة الى ابنة نيرودا وبنت روايتها المثيرة والتي شبهت بـ”القنبلة المذهلة”.

في الرواية، تسأل مالفا عن السبب الذي دفع والدها، إلى التخلّي عنها وهي طفلة. قد تكون الإجابة البسيطة: لم يعد يتحمّل معاناة رعايتها وهي المصابة بمرض محكوم بالموت، بينما هو المغامر العاشق، والثائر من أجل الناس… و”كل لحظة من وقته ينفقها من أجل إنقاذ حياتي هي لحظة ضائعة من الأدب والخلود”.

لكنّها بذلك لا تبرّرُ له إخفاءه وجودها، بعدما جهدت في البحث عن ذكر لها في قصائده الشهيرة أو حتى مذكراته. تستحضر سقراط ليحاجج نيرودا، فيردّ عليه: “سقراط العظيم: من أنت لتخبرني بما كان يجب علي فعله مع ابنتي؟ لقد رفضتَ أمام القضاة البدائل التي أتيحت لتخرج من قضيتك وفضلت كوب السم على الاعتناء بأطفالك”.

وتبقى الأسئلة الصعبة تلحّ على مالفا: هل أبي يحبني؟ هل أحبه؟… “لن أكسب حب أبي، لن أستعيده أبداً؛ الفرصة الوحيدة التي كان يمكن أن يحدث فيها ذلك الشيء خلال حياتنا، انتهت”.

نيرودا الستاليني، والذي “طبل الدنيا” بشعر الانسانية والحب والعشق، كان سعيداً بولادة ابنته، وأطلق عليها اسم مالفا مارينا الذي يكنّ له الكثير من الود، فهو يجمع بين الزهرة واللون والأرض والبحر. وفي ذاك الحين، كتب فيها الشاعر الاسباني فيديريكو غارثيا لوركا، صديق أبيها، قصيدة صغيرة يصفها فيها بـ”دلفين حب وسط الأمواج القديمة”، قائلاً: “لا أريد أن أمنحك زهرة ولا صدَفة/ بل باقة ملح وحب، ضوءاً سماوياً، وكلها أضعها، بينما أفكر بك/ على فمك”. لكن سعادة نيرودا لم تدم طويلاً؛ لم يكن وارداً في حسابات نيرودا أن تكون مولودته مصابة بعاهة جسدية قاتلة. هذا ما يستدّل به من مراسلاته التي تتضمن مقاطع يصعب التخيّل أنها في حياة الشاعر. يقول في إحدى رسائله إلى صديقته وزوجة الشاعر الأرجنتيني بابلو روخاس: “… تفرّق شمل الكتّاب الذين توزّعوا على المصايف. فيديريكو (لوركا) بعث إلي من غرناطة قصيدة جميلة مهداة إلى ابنتي. ابنتي، أو هكذا أسمّيها، كائن في منتهى السخافة، أشبه بنقطة وفاصلة، مصّاصة دماء ضئيلة الوزن. تحسّن الوضع الآن أيتها العزيزة بعد فترة مديدة من العذاب…”.

ولم تنقض فترة طويلة على ولادة مالفا، حتى راح نيرودا يبتعد عن زوجته، وانقطع عن ذكر ابنته حتى أمام الأصدقاء، ويرجَّح أنه كان قد بدأ علاقة مع سيدة أرجنتينية سينتقل للعيش معها بعدما هجر زوجته وابنته. وفي لقاءٍ أجرته معها وكالة “إيفي” الإسبانية، قالت صاحبة رواية “مالفا”: “عندما كتبت هذه الرواية عرفت نيرودا كرجل كامل المواصفات، لأني كنت أعتبره بطلاً مثالياً. وهناك أدركت معنى الإنسانية، لأن جميعنا من البشر ولدينا نواحٍ ناقصة”. وتقول بيترز عن نيرودا أنه “رجل منافق، وغريب، لكنه حسّاس أيضاً”، وذلك بعدما اكتشفت علاقته بإبنته، والأسباب التي دعته إلى عدم الإعلان عنها أبداً.

وتروي بيترز أيضاً أن إزدراء نيرودا للصغيرة كان قد بلغ حداً كبيراً، الأمر الذي بدا جلياً في رسائله إلى صديقاته، وتؤكد بيترز أن أسلوب نيرودا في الحديث عن ابنته كان قد ألهمها لمنح شخصية روايتها صوتاً قادراً على توجيه العتاب لوالدها الذي تخلّى عنها.

ولقراءة الرواية وأسلوب كتابتها فصل آخر، مع التأكيد أن “فضيحة نيرودا” بخصوص ابنته ستكون موضوع جدل لوقت طويل، وستحمل الكثير من التأويلات والتناقضات، وتجلى ذلك في الدراسة التي كتبها عنه عماد فؤاد وصدرت قبل الرواية بسنوات.

(*) صدرت عن منشورات دار الساقي بترجمة لمياء مقدم.

(**)هاخر بيترز شاعرة في الأصل، وأصدرت أكثر من ستة دواوين شعرية فاز اثنان منها بجوائز شعرية راقية، حيث لفتت الانتباه بسرعة بعد صدور ديوانها الأول “ما يكفي من قصائد الحب اليوم” الذي صدر العام 1999، وحازت عن “مالفا” جائزة فنترو للأدب 2016.

(***) صدرت أوائل سبعينيات القرن الماضي عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” في بيروت.

المدن

هل لهذا السبب وصف كاسترو شاعر التشيلي الكبير بأنه “مومس” بابلو نيرودا جاسوس سوفياتي ضالع في اغتيال تروتسكي ؟/ إبراهيم العريس

5/8/2002

“نيرودا؟ انه مومس إيجاره أكثر ارتفاعاً من ان يتمكن بلد فقير مثل بلدنا من دفعه”. نيرودا المقصود بهذه العبارة هو شاعر التشيلي الأكبر بابلو نيرودا، الذي يعتبر صرحاً كبيراً من صروح الشعر والفكر اليساري في أميركا اللاتينية والعالم كله في القرن العشرين. أما قائل هذه العبارة فليس رئيساً أميركياً، او ديكتاتوراً يمينياً من طغاة أميركا اللاتينية، ولا حتى أحد عملاء وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية… مع ان عبارة من هذا النوع ما كان من الممكن توقعها الا على لسان واحد من هؤلاء. الغريب في الأمر ان قائل هذه العبارة ليس غير فيديل كاسترو، زعيم كوبا. أما مناسبة اصداره هذا الحكم القاطع على صاحب “النشيد العام” فهو اقتراح تقدم به بعضهم منه ذات يوم، حيث كان نيرودا يشعر بالخطر في الغرب ويبحث عن ملجأ له في بلد اشتراكي. يومها كان هذا هو جواب كاسترو على الذين اقترحوا عليه استضافة الشاعر التشيلي. وبالتالي لم تستقبل كوبا هذا الشاعر، على رغم شيوعيته ويساريته. فماذا في الأمر؟ ولماذا كان موقف كاسترو على ذلك النحو، ازاء شاعر بجلته أجيال متعاقبة من القراء والمناضلين الشيوعيين؟ وعلام بنى كاسترو موقفه؟ وكيف كان يمكن له ان يعتبر نيرودا مومساً؟

منذ البداية لا بد من القول انه لئن كان كاسترو قد سجل، ضد نيرودا، هذا الموقف الذي التقى فيه مع آخرين بحثوا طويلاً في ماضي الشاعر، فمن المؤكد انه كان واثقاً مما يقول، وعلى اطلاع واسع على ملف الشاعر الشيوعي الكبير. فما كان في ذلك الملف؟

بكل بساطة كان فيه ما جعل كاسترو يؤمن بأن نيرودا قد عمل، ولو لفترة محدودة من حياته، عميلاً لمصلحة الاستخبارات السوفياتية، “كا.جي.بي.” ومن قبلها تلك الأجهزة الاستخباراتية التي سبقتها مثل “الغرو” و”الأن.كا.في.دي.”. صحيح ان كاسترو لم يكن على عداء مع مثل تلك الأجهزة، بل انها ساعدته خلال مراحل معينة من ثورته الشعبية التي أوصلته الى الحكم في كوبا، ولكن كاسترو لم يكن ليستسيغ ان يكون هناك خلط بين كون المرء شاعراً وأديباً كبيراً مبجلاً، وبين انتمائه الى أجهزة استخبارات. فمن يمكنه ان ينتمي هنا عليه ان يكون محترفاً، وان يجعل من هذا الانتماء مهنته ومصيره. أما ان يقدم فنان وشاعر على ذلك فأمر غير مستساغ، يهبط بالفنان الشاعر من عليائه، حتى ولو كان الانتماء الى أجهزة حليفة لكاسترو.

ولكن، بعيداً من هذا الموقف الاخلاقي، والذي لم تنفه أوساط كاسترو، مع انه غالباً ما يستخدم لتثبيت “التهم” الموجهة الى نيرودا، ما هي المعطيات التي يمكن ان تكون في حوزة كاسترو حتى يتخذ هذا الموقف من ابن قارته وشاعرها الكبير؟

للاجابة على هذا السؤال، يبدو ان علينا ان نعود عقوداً من السنين الى الوراء، وذلك قبل ان ننتقل من الحديث عن ضلوع نيرودا في عمليات استخباراتية، الى مواقفه وأشعاره الستالينية الخالصة التي كان لها، هي الأخرى، دور أساسي في موقف كاسترو منه.

وفي سبيل ذلك، سنتوقف مع أصحاب كتاب “تاريخ الاستخبارات العالمي”، عند العام 1937، وشهر تموز يوليو منه على وجه التحديد. ففي ذلك الحين كان ريكاردو رييس اي بازو آلتو الذي عرف دائماً باسم بابلو نيرودا، قنصلاً لبلاده التشيلي في برشلونة في مدريد، وكانت الحرب الأهلية الاسبانية على أشدها. يومذاك عقد في اسبانيا “مؤتمر كتاب الأممية الثانية” الذي كان من أهدافه الأساسية ادانة الكاتب الفرنسي أندريه جيد، بسبب موقفه السلبي من الاتحاد السوفياتي بعدما تجول فيه وكتب عن عيوب تجربته الاشتراكية والممارسات الستالينية، وغياب الحرية. وكان نيرودا وراء انعقاد ذلك المؤتمر، والمتحدث الأساسي فيه ضد جيد. وهذا ما أتاح له ان ينتخب على الفور سيناتوراً على لائحة الحزب الشيوعي التشيلي، في وقت كان ينشر فيه قصيدته المميزة “اسبانيا في القلب”. وهكذا أمسك نيرودا المجد من طرفيه. فما المشكلة في هذا؟ ان نيرودا لم يخفِ أبداً ستالينيته، وعداءه لكل من يعادي ستالين وموسكو، غير ان المسألة ليست في هذه البساطة. ولا في هذه البراءة. ولنتابع هنا تسجيل الوقائع التي يخيل الينا انها كانت تجول في ذهن كاسترو حين وسم نيرودا بأنه مومس.

في العام 1939، اي بعد انهيار اليسار الاسباني، وربيع مدريد وبرشلونة، عاد نيرودا من جديد ليشغل منصب قنصل عام لبلاده التشيلي في فرنسا.. وكان هذا المنصب في ذلك الحين استراتيجياً في منتهى الخطورة، حسب مؤلفي الكتاب المشار اليه اعلاه. ذلك انه، بعد انهيار اليساريين في اسبانيا، كان مئات من قادتهم يسعون للحصول على حق اللجوء السياسي في التشيلي، وفي غيرها من بلدان أميركا اللاتينية. وفي الوقت نفسه، كانت الاستخبارات السوفياتية المعروفة يومها باسم NKVD، راغبة في ايصال العشرات من عملائها الى القارة الأميركية، من أجل مساندة الحركات الثورية واليسارية هناك. وكان دور القنصل نيرودا، تسهيل ادخال عناصر الاستخبارات السوفياتية الى هناك، وتحديداً من وراء ظهر الوزير التشيلي المفوض لويس آلدوناتي، الذي لم يكن متعاطفاً مع موسكو. ولقد قام نيرودا بمهمته باتقان وتكتم تامين، ولكن بعدما اتخذ لنفسه سكرتيرة خاصة تدعى شارلوت جانتيه. ولسوف يتبين لاحقاً ان شارلوت هذه لم تكن في الحقيقة سوى عميلة نشطة من عملاء الاستخبارات السوفياتية واسمها الحقيقي دولوريس غارثيا ايتشيفاريتا، وهي زوجة الشيوعي الاسباني خواكيم اولازو بييرا. وهذا الأخير كان معروفاً خلال الحرب الأهلية الاسبانية بعلاقته الوثيقة بالاستخبارات السوفياتية، وبدوره في تصفية اليساريين المتطرفين لا سيما التروتسكيين منهم خلال تلك الحرب الأهلية. فهل كان صدفة ان توصل دولوريس، بموافقة نيرودا، الى المكسيك المدعو أرنو جيرو، وهو شيوعي هنغاري كان يعمل بالتنسيق مع زوجها اولازو، ضمن اطار البوليس السري للحزب في كاتالونيا؟ وهل كان صدفة ان ترسل دولوريس ايضاً الى المكسيك المدعو فيكتوريو سالا، احدى أقرب مساعدي زوجها؟

فماذا عن هذين؟ ماذا عن جيرو وسالا؟ سنعود اليهما فوراً.

في شهر آب أغسطس 1940، وبعد محاولات قام بها رجال ستالين، من سوفيات وأميركيين لاتينيين واسبان، تمكن هؤلاء أخيراً من اغتيال الزعيم الشيوعي المعادي لستالين ليون تروتسكي، في المكسيك تحديداً. وكان تروتسكي قد وصل الى مكسيكو سيتي في كانون الثاني يناير 1937، بعد جولة أوروبية وآسيوية تلت الحكم عليه في موسكو. وبوصوله الى المكسيك والاستقبال الرسمي الذي أجري له هناك، وحماية الشيوعيين المنشقين له، خيّل لمؤسس الجيش الأحمر يومها انه قد أضحى في أمان. ولكن ما ان مضت سنوات ثلاث ونصف السنة، حتى قتل تروتسكي على رغم كل الحراسة المؤمنة له. ولم تلبث الشرطة المكسيكية ان ألقت القبض، في اطار تحقيقاتها حول مقتل تروتسكي، على واحد من أكبر فناني المكسيك ورساميها في ذلك الحين: دافيد آلفارو سيكييروس، وبدأت بحثها عن… أرنو جيرو وفيكتوريو سالا بوصفهما متواطئين مع سيكييروس في ترتيب خطة اغتيال المعارض السوفياتي الكبير.

من ناحية مبدئية لا يمكن القول ان نيرودا نفسه، كان متواطئاً في خطة اغتيال عدو ستالين الرقم واحد، وزميل لينين في أشعار ثورة أكتوبر. ولكن ألم يكن نيرودا هو الذي “سهّل” وصول جيرو وسالا الى المكسيك عن طريق سكرتيرته شارلوت اودولوريس؟ وحين أوصلهما الى هناك، هل تراه كان جاهلاً السبب الذي يدفع بهما الى التوجه الى ذلك البلد بالتحديد؟

لا ريب ان تساؤلات من هذا النوع كانت تعتمل في ذهن كاسترو حين وصف نيرودا بـ”المومس”. غير ان هذا لم يكن كل شيء. فصاحب “اسبانيا في القلب” و”اقامة على الأرض” وغيرها من الأعمال الشعرية الرائعة التي لطالما سحرت أجيالاً وربت أجيالاً من الشيوعيين، ما كان يمكنه ان يتوقف هنا من دون ان يكمل مهمته. أو على الأقل من دون أن يلتفت الى مصير صديقه سيكييروس. والواقع أن هذا الأخير الذي كان ابن أسرة بورجوازية مكسيكية ثرية، انخرط في النضال اليساري باكراً، ثم خاض الحرب الأهلية وأصبح الايديولوجي الأول لنقابات العمل، في الوقت الذي احترف فيه الرسم والنحت ثم صار سكرتيراً أولاً للحزب الشيوعي المكسيكي. وهو شارك في ذلك الحين في الحرب الأهلية، وهناك توطدت علاقته بنيرودا، وارتبط الاثنان بصداقة كبيرة. فهل يمكن الاستنتاج بأنه كان ثمة حديث بينهما، منذ ذلك الحين، عن ذلك التعاون الذي “أثمر” في نهاية الأمر، من بين ما أثمره، اغتيال تروتسكي كاستجابة لرغبة لم يكف ستالين عن العمل في سبيلها والدعوة اليها؟

ان تسلسل الأحداث وموقف كاستروا اللاحق يؤكدان ان نيرودا لم يكن بعيداً عما حدث. بل أكثر من هذا: سيكون نيرودا، شاعر التشيلي العظيم، من سيساعد سيكييروس على الهرب من سجنه. كيف؟ فور اعتقال “الرسام ذي المسدس” كما كان سيكييروس يدعي بعدما تورط في العديد من عمليات الاغتيال التي طاولت مناضلين تروتسكيين معادين لستالين، “اكتشف” نيرودا ان مدير السجن الذي أودع فيه الرسام صديق له، لذلك سعى لديه لكي تغض سلطات السجن الطرف عن محاولة للهرب سيقوم بها سيكيروس. لكن هذا كله سرعان ما تبدى ضرورياً، إذ ان المحكمة أسقطت فجأة، بقدرة قادر، كل التهم عن الرسام، وأطلقت سراحه. وهنا تدخل نيرودا من جدد، وأمن لسيكييروس “سمة دخول” الى التشيلي بوصفه لاجئاً سياسياً. وهنا طفح الكيل بالسلطات التشيلية، على رغم يساريتها، فقامت بطرد نيرودا من جهازها الديبلوماسي.

غير ان ذلك كله لم يوقف حكاية الحب العميق بين نيرودا وستالين. وكان من نتيجة ذلك ان راح الشاعر يتبنى مواقف “والد الشعب الصغير” بما في ذلك موقفه من تيتو، وهكذا مثلاً، حين احتدم الصراع بين ستالين ورجل يوغوسلافيا القوي، لم يتورع نيرودا عن كتابة قصيدة يقول فيها عن تيتو: “هذا الخائن المفرط في سمنته/ هذا الخائن الذي تغمره الدماء/ تيتو، انه لطاغية ذو جيوب نهمة”. هذا عن تيتو، فما الذين كتبه نيرودا عن ستالين؟

في واحدة من قصائده التي آثر معجبوه الشيوعيون نسيانها لاحقاً، كتب نيرودا عن ستالين يقول: “ستالين/ كان ينبي/ من يديه طلعت الحبوب والجرارات/ الدروس والطرقات … بساطته وحكمته/ بنية خبزه وفولاذه الذي لا يلين، كلها ساعدتنا وتساعدنا في كل يوم على ان نصبح رجالاً … ستالين هو شمس الظهيرة/ نضج الرجال والشعوب/ انه منارة لليمام/ … ستالين كان دائماً أكثر حكمة من البشر كلهم مجتمعين”.

ستاليني حتى النخاع

هل يمكننا أن نستنتج من هذه القصيدة، ومن قصائد مماثلة كتبها نيرودا في مراحل متفرقة عن ستالين، ان دوافعه كانت دائماً ستالينية، وان ما اقترفه – وما سيؤاخذه كاسترو عليه – انما فعله حباً بستالين ولييس خدمة للاستخبارات السوفياتية؟ كان يمكن ان يكون هذا ممكناً لولا ان نيرودا، خلال السنوات العشرين الأخيرة من حياته، تنكر لستالين تماماً، بحيث انه بالكاد كان يتحدث عنه بشكل ايجابي في مذكراته. ومع هذا، وقبل ان يفوز بجائزة نوبل للآداب، وسط احتجاجات العديد من الكتاب والأدباء وخصوصاً في الأوساط اليسارية غير الشيوعية فاز نيرودا بجائزة ستالين ثم بجائزة لينين. ومن المرجح ان فوزه هذا لم يكن مكافأة له على الخدمات التي قدمها للاستخبارات السوفياتية حين كان ديبلوماسياً، بقدر ما كان مكافأة على قصائد له، اعتبرها معجبوه “هنات” و”أخطاء عابرة” مثل قصيدته “أنشودة للقنبلة السوفياتية التي تبلغ قوتها 50 ميغاطون” ويقول فيها: “يا رجل البحار، يا عامل مناجم الأعماق، ألا لا يخفنك هذا الانفجار/ في الماضي رميت القنبلة على سكان أبرياء/ فما الذي قاله بابا الفاتيكان يومها؟/ لا شيء/ ظل المسكين غارقاً في صلواته/ اليوم ها هو الاتحاد السوفياتي يقود الغرف/ وقلوبنا معه/ وها هما رائدا فضاء يمخران عباب الجو حول الأرض…”.

ولم يكتف نيرودا، طبعاً بهذا، بل آثر دائماً ان يقدم خدماته الستالينية من دون ان يطالبه أحد بذلك. ولنقرأ، هنا، ما كتبه حين منحت جائزة نوبل للسوفياتي بوريد باسترناك عن روايته “دكتور جيفاغو”: “الحقيقة ان هذه الروية اضجرتني كثيراً. ومن الواضح ان الاكاديمية السويدية حين منحت كاتبها جائزة نوبل، بللت نفسها بوحول الحرب الباردة. ان باسترناك ارتكب أخطر الخطايا في حق وطن الاشتراكية، ومن هنا فإن القرار الذي اتخذه الكتاب السوفيات بطرده من اتحادهم، كان هو هو القرار الذي يمكن ان يتخذه أدباء أي بلد آخر، إذ يرون وطنهم يشتم ويشوه على يد كاتب يتوج في الخارج”.

ولاحقاً حين دخلت القوات السوفاتية الى العاصمة التشيكية لتنهي “ربيع براغ”، اجاب نيرودا حين سئل عن هذا الأمر: “ان الاتحاد السوفياتي أمي، وتشيكوسلوفاكيا خالتي… لذلك لن أتدخل في الشؤون العائلية”.

الشاعر والسياسي

أمام هذا كله هل علينا، أن نعيد النظر في شعر نيرودا ونثره؟

ان الأمر يبدو محيراً للغاية. فالواقع ان نيرودا كان أميراً من أمراء الشعر والكتابة في القرن العشرين. وحسبنا للتيقن من هذا أن نقرأ “اقامة فوق الأرض” و”اسبانيا في القلب” و”اعترف انني قد عشت” و”ولدت لأولد” وغيرها. وإذ نقرأها ونقرأ الشعر العظيم الذي يملأ صفحات “النشيد العام” وهو النشيد الذي أوحى للموسيقي الكبير ميكيس ثيودوراكيس بالموسيقى الرائعة التي وضعها للمغناة التي تحمل العنوان نفسه، يحق لنا أن نتساءل: هل كان نيررودا، مزدوج الشخصية… أم ان هذا يكمل ذاك؟

ثم، هل يمكننا ان نلوم الشبيبة الشيوعية التشيلية التي، في خضم القمع الذي مارسه جنود الجنرال بينوشيه، بعد الانقلاب على حكم الرئيس سالفادور آليندي في العام 1973، خاطروا بحياتهم لكي يحيوا نيرودا ويقيموا له جنازة حافلة إذ مات بعد يوم من وقوع الانقلاب في منزله في التشيلي نفسها عن تسعة وستين عاماً؟

في شهر أيلول سبتمبر 1973، حين مات نيرودا في منزله الخاص في “الجزيرة السوداء” أحس الشبان التشيليون انهم فقدوا أباً حقيقياً فخاطروا وحيّوه الى مثواه الأخير. فهل كانوا يومها يعرفون حقاً ما كان عليه ماضيه الستاليني الذي أوصله الى التعامل مع أجهزة الاستخبارات السوفياتية والى الضلوع – مباشرة أو في شكل غير مباشر – في اغتيال تروتسكي وغيره؟ أبداً بالتأكيد.

ولكن من المؤكد في الوقت نفسه أن عبارة كاسترو كانت وصلتهم. وكان يدهشهم كثيراً ان يقول الزعيم الكوني الذي يحبون عن شاعرهم الكبير انه “مومس”. ويقيناً ان بعضهم حاول ان يبحث عن السبب… وحين عثر عليه أصيب بالوجوم. ولكن مع الوقت نسي ذلك كله. وبقي من نيرودا كتبه الكبيرة، وحضوره في أدب أميركا اللاتينية وشعرها وفي حياة التشيلي وطبيعتــها. أما البـاقـي ففــي ذمـة التـاريــخ. أمــا من ناحية التحليل، فمن المؤكد انه سيظل من الصعب الاجابة على السؤال الأساسي: لماذا كان نيرودا ستاليـنياً الى هـذا الحـد؟ ولماذا امتـهن تاريخه الثقـافي محولاً نفسـه الى أداة في خدمة الأجهزة السوفياتية؟

ألا يصح في مثل هذه الحال أن نطرح سـؤالاً آخر: هل كان نيرودا، الأديب الوحيد والشاعر الكبير الوحيد الذي يمكن ان تثار من حوله مثل هذه التساؤلات؟>

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى