صفحات العالم

باب الأمل في دمشق

 


سليمان جودة

كان الأستاذ أحمد بهاء الدين، قد أشار في كتابه «أيام لها تاريخ» إلى فكرة مهمة للغاية، وهي أن ما يميز الإنسان، من ناحية، عن أي كائن آخر، وليكن الحيوان مثلا، من ناحية أخرى، هو أن الإنسان له تاريخ قائم على الخبرة أو التجربة التي لا وجود لها عند أي حيوان، رغم أنه – أقصد الحيوان – مر قطعا بتجارب كثيرة في حياته، ولكن المهم هنا، ليس التجربة، كتجربة، وإنما القدرة على الاستفادة منها.. ولذلك، فإن أول فأر على وجه الأرض، جرى اصطياده بالمصيدة نفسها التي يجري اصطياد أقرانه بها، حاليا، وسوف يكون اصطياد آخر فأر على وجه الأرض بها ذاتها، وليس بغيرها، وهذا بالطبع، غير وارد لدى الإنسان، الذي يملك القدرة دائما، أو هكذا نفترض، على مراكمة التجارب والخبرات، ثم الاستفادة منها، أولا بأول، فيحدث التطور في حياة الأحفاد، عنها مع الآباء، وفي حياة الآباء، عنها مع الأجداد.. وهكذا.. وهكذا!

شيء من هذا، لا بد أن يطوف في خاطرك، وأنت تتأمل ما يدور في العالم العربي هذه الأيام، وخصوصا في سوريا على سبيل المثال، قياسا على ما كان قد دار في القاهرة من قبل!

فالرئيس بشار الأسد يواجه حالة من الغضب بين السوريين، ولأنه غضب متصاعد، فإن الرئيس يحاول أن يستوعبه، وكان آخر ما فكر فيه، في اتجاه محاولة الاستيعاب، أنه عفا عن عدد من المسجونين، وخفف العقوبة عن عدد آخر منهم، وقد كان هذا العفو، مجرد خطوة، خلال أيام قليلة مضت، لأنه قبلها، كان قد اتخذ عدة خطوات إصلاحية أخري، بدا من رد الفعل عليها، على مستوى الشارع السوري، أنها غير كافية، وغير مقنعة، وغير قادرة على إطفاء نار السخط!.

وحين نعود إلي المعنى الذي بدأنا به هذه السطور، فإن أخذ التجربة عن الآخرين هنا مهم جدا، ومع ذلك، فإن الظاهر من الأمور يقول بأن فكرة التجربة، ثم الاستفادة منها، ليست حاضرة حتى الآن، عندما نتطلع إلى الطريقة التي يتصرف بها الرئيس بشار، يوما بعد يوم!

وبمعنى آخر، فإن الرئيس السوري يعرف قطعا، أن الرئيس السابق حسني مبارك، كان في إمكانه امتصاص الغضب الذي أدى إلى ثورة 25 يناير، لو أنه أقدم على خطوة واحدة، بل وحيدة، هي تعديل المادة 77 من الدستور، التي تحدد فترة بقاء الرئيس في منصبه، وقد كانت، إلى آخر يوم له في الرئاسة تنص على أن يبقى الرئيس – أي رئيس طبعا – في قصر الرئاسة، مدى حياته، وهو ما كان يسبب للمصريين إحباطا بلا حدود!

كنا، في القاهرة، نعرف أن «مبارك» سوف يظل يحكم إلى آخر نفس ينبض فيه كما قال هو ذات يوم، وكان بقاء الرئيس، على هذا النحو، كفيلا بتجميد الحياة كلها في البلاد، وعلى كل مستوى، وهو ما حدث فعلا، وكانت مطالب الإصلاح، قبل 25 يناير، تتكلم في تفاصيل كثيرة، ولكن كان هناك إجماع بينها جميعا، على أن قيام الرئيس بتعديل المادة 77، لإعادتها إلي أصلها، أيام الرئيس السادات، حين كانت تنص على أن فترة بقاء الرئيس، إنما هي ولايتان فقط، كل ولاية ست سنوات.. أقول إن إصلاح هذه المادة، تحديدا، كان كفيلا وحده، بامتصاص أغلب الغضب الذي كان يتصاعد هو الآخر، في مصر، لا لشيء، إلا لأن النص في تلك المادة، على بقاء الرئيس على الكرسي، مدى الحياة، كان معناه إغلاق الباب أمام أي أمل في أي تغيير، أو في أي إصلاح!

وكانت المطالبات بإصلاح المادة 77 تواجه سخرية من الرئيس السابق، مرة، وتواجه آذانا مقفلة منه، ومن أركان نظامه، مرة أخرى، وفي مرة ثالثة كان يقال إنها، كمادة في الدستور، خط أحمر، لا يجوز الاقتراب منه، فضلا عن تجاوزه!

وعندما خرج الرئيس السابق مبارك، في أحد خطاباته، قبل قراره بالتخلي عن منصب رئيس الجمهورية، فقال ما معناه، إنه سوف يطلب من البرلمان تعديل المادة 77، فإن الوقت كان قد فات، ولم يفلح هذا الوعد منه، في تهدئة الثائرين، لأن سقف المطالب كان قد تجاوز مسألة تعديل مادة في الدستور، حتى ولو كانت هذه المادة، هي 77، التي كانت من قبل، أملا يراود الجميع!

ولو أنت تحركت قليلا، من مشهد ما قبل التخلي عن الرئاسة، في القاهرة، إلى المشهد الحالي، في دمشق، فسوف يتبين لك، أن حصيلة التجربة غير موجودة في العاصمة السورية، وأنه لا أحد فيها، يريد أن يستوعب أن الإصرار على إبقاء المادة 8 من دستورهم، على حالها، معناه تفريغ كل ما عدا ذلك، من خطوات إصلاحية، من مضمونها تماما.

المادة 8 تتيح لحزب البعث أن يحتكر الحكم والسلطة، على كل مستوى، وهو أمر لم يعد مقبولا، ولا ممكنا، في ظل هذه الأجواء السائدة في أكثر من عاصمة عربية، فإذا جاءت الحكومة السورية، لتقول بأن هذه المادة، ليست مطروحة للنقاش، ثم أغلقت هذا الباب، فإن هذا معناه، إغلاق نافذة الأمل الوحيدة، أمام كل سوري حر، في أن يرى ذات يوم، رئيسا منتخبا لبلده، من خارج حزب البعث!

ولو أن الرئيس بشار أراد أن يوفر على نفسه، ثم على بلده، الكثير من الوقت، ومن الطاقة، ومن الجهد، فإن أول شيء عليه أن يفعله، وربما آخر شيء، أيضا، هو إصلاح هذه المادة، بما يتيح تداولا حقيقيا للسلطة في البلد، لأن الأمل في المستقبل ساعتها، سوف يكون قائما، وموجودا، وسوف يلوح في الأفق، حتى ولو ظل بعيدا عن الأرض!

وربما يقول قائل هنا، بأن هذا كلام نظري، وأن الناس في كل عاصمة عربية، تريد أن تعيش، وأن تجد حاجاتها اليومية متاحة بسهولة، وأن حكاية الدستور وتعديله، أو عدم تعديله، ليست من بين مشاغل آحاد المواطنين العرب في عواصمنا، وهو كلام غير صحيح طبعا، لا لشيء، إلا لأن تعديل مثل هذه المادة، في أي دستور، يعمل به أي نظام جمهوري عربي، ليس مقصودا، في حد ذاته، كتعديل، كما أن التداول في السلطة، عندئذ، ليس مرادا كهدف، وإنما هو وسيلة لتحقيق القدر المطلوب من المساءلة، أولا، ومن الشفافية، ثانيا، ومن إقرار مبدأ العدالة، بالتالي، ثالثا!

إحساس الحاكم، بأنه مغادر، بعد عدد محدد من السنين في الحكم، يجعله رقيبا على نفسه، ونظامه، قبل أن يكون آخرون رقباء عليه، ولذلك فإن الرئيس الأميركي، على سبيل المثال، حين يدخل البيت الأبيض، لأول مرة، فإنه يظل على يقين، بأنه سوف يكون خارج مكتبه، خلال فترة أدناها 4 سنوات، وأقصاها 8 أعوام، ولا حل آخر في الوسط، ومن شأن رسوخ مثل هذا اليقين في أعماقه، أن يجعله يضع اعتبارا لليوم الذي سوف يكون فيه خارج الحكم، من حيث المساءلة عن كل ما فعل، إذا افترضنا أن هذه المساءلة لن تكون فعالة في أثناء وجوده أصلا!

لقد جاء علينا وقت، في القاهرة، تبدد فيه الأمل، في أن يحدث تداول للسلطة، بين الأحزاب، ولم يكن أمامنا، والحال كذلك، إلا أن ندعو إلى تداول على نطاق أضيق، في داخل الحزب الوطني الحاكم وقتها، بمعنى أن يذهب رئيس، ويأتي رئيس من داخله هو نفسه كحزب حاكم، ومع ذلك، فإنها ظلت مجرد أمنية، ولا بد أن القائمين على الحزب الوطني، في تلك الأيام، كانوا يسمعون مثل هذا الكلام، منا، ثم يضحكون من فرط سذاجتنا، التي كانت تصور لنا، من وجهة نظرهم، أنه يمكن أن يأتي يوم يقع فيه التداول في الحكم، على هذا المستوى الضيق، أو حتى على غيره من المستويات!

باختصار، كانت المادة 77 في الدستور المصري هي الحل، قبل 25 يناير، وبعده أيضا، وربما لهذا السبب، جاءت على رأس المواد القليلة، التي جري تعديلها، بمجرد قيام ثورة 25 يناير.. بل إن الذين عدلوها، قد تشددوا أكثر من اللازم، وجعلوا بقاء الرئيس المصري المقبل، في رئاسته، لفترتين فقط، كل فترة أربع سنوات، وقد كان الأفضل طبعا، أن تكون كل فترة 6 سنوات، لأنه ليس من المتخيل، أن تنعدم الحلول الوسط عندنا، إلى هذا الحد، فنكون أمام بديلين متشددين هكذا: إما أن يبقى الرئيس مدى حياته، أو أن يبقى 8 سنوات، كالرئيس الأميركي الذي تبقى وراءه تجربة ديمقراطية عمرها 200 سنة!.

وفي كل الأحوال، فإن الحكومة السورية، إذا كانت في حاجة إلى شيء وحيد اليوم، فهي في أشد الحاجة إلى العودة لفكرة أحمد بهاء الدين، من أجل استيعابها جيدا، ثم الأخذ بها، لتكون لتجربة القاهرة، حصيلة في دمشق!

الشرق الأوسط

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى