محمد أبي سمرامراجعات كتب

باختين عن رابليه في العربية: تأريخ موسوعي للضحك الشعبي الكرنفالي/ محمد أبي سمرا

 

 

تاريخ الضحك والسخرية والهزل، فلسفتها ومصادرها في الثقافة الشعبية والكتابية الأوروبيتين في العصر الوسيط وعصر النهضة: هذا هو موضوع مؤلف الفيلسوف والناقد الثقافي واللغوي الروسي ميخائيل باختين (1895 – 1975) الذي أنجز مبحثه هذا كأطروحة دكتوراه العام 1949، ونشره بالروسية العام 1965، وبالفرنسية العام 1970. وهو اتخذ أعمال الكاتب الفرنسي الكبير فرنسوا رابليه دليلاً، والثقافة الشعبية والكرنفال مثالاً. المغربي شكير نصر الدين ترجم هذا المؤلف الموسوعي (605 صفحات) الى العربية، وأصدرته “منشورات الجمل” في مطلع العام 2015.

لا يستهان اليوم بإنجاز ترجمة هذا المؤلف الى العربية ترجمةً لائقة. فهو من المؤلفات الأساسية، الكلاسيكية والمرجعية في الثقافة الأوروبية. قد يكون فريداً ويعزُّ نظيره في العربية في مجالي التأليف والترجمة اللذين تقلُّ فيهما مؤلفات من هذا النوع، ويمكن اعتمادها مرجعاً ودليلاً وملهماً في النظر والتفكير، وخصوصاً في ما يتعلق بالضحك والهزل في التراث العربي الإسلامي الكلاسيكي وفي الثقافة العربية الحديثة.

 

مرايا وأسئلة

في مرآة قراءة باختين لمعنى الضحك والسخرية والهزل ودلالاتها، وتأريخه لمواضع ظهورها وفاعليتها الاجتماعية والثقافية والسياسية في الثقافتين، الشعبية والكتابية الأوروبيتين، يبرز السؤال الآتي: هل من مؤلفات عن مثل هذه الظواهر في الثقافة العربية الاسلامية، التراثية الكلاسيكية والحديثة الراهنة؟ وهل لهذه الظواهر، أصلاً، من وجود فعلي، مميز ومؤثّر، في التراث الثقافي العربي الإسلامي وفي سواه من التراثات التي شملها الفضاء الإسلامي؟

الحق أن أسئلة من هذا النوع تتطلب الإجابة عنها، وضعَ مؤلف يستلهم عمل باختين حول رابليه والثقافة الشعبية في أوروبا، ويحاكيه. لكن هل من مثيل لرابليه، أصلاً، في ثقافتنا العربية الإسلامية الكلاسيكية، وغير الاسلامية في هذه المنطقة؟ فرابليه، وفقاً لقراءة باختين، جعل من الأسواق والساحات العامة والاحتفالات والكرنفالات الشعبية، مرجعاً ومصدراً ومعيناً لمؤلفاته كلها في مطالع القرن السادس عشر الأوروبي، وخصوصاً في الديار الفرنسية. وكان عمله مرآة بانورامية لخروج أوروبا وثقافتها من العصر الوسيط الى عصر النهضة أو التنوير.

في فضاءات الثقافة العربية الإسلامية الكلاسيكية القديمة، قد تبرز مظاهرُ للهزل والسخرية والفكاهة في مؤلفات من أمثال “كليلة ودمنة” و”ألف ليلة وليلة” وفي بعض كتابات الجاحظ الذي سمّاه البعض “موليير العرب”. ويمكن أيضاً إدراج القصص الشعبي البطولي والخرافي في هذا الباب. أما في الشعر، فلربما يصحّ ذكر الحسن بن هانئ، أبي نؤاس، في أشعاره الخمرية الماجنة الفاحشة، على وجه التخصيص. لكن قد يكون الأقرب الى ما يؤرخ له باختين في اتخاذه رابليه دليلاً والثقافة الشعبية مثالاً، هو الشخصية المجهولة المعروفة بـ”أبي نواس” في الثقافة الشعبية الحكائية الشفوية، وهي شخصية تُنسب اليها مواقف وأدوار فكاهية يؤلفها الرواة العامة، كلٌّ على هواه ووفقاً لرغبته، ويمكن تسميتها “أدب النوادر”. هذه الأنواع من “الأدب الشعبي” في الثقافة العربية الإسلامية، قد يصح تصنيفها في مقابل ما يسمّى “الأدب السلطاني” الرسمي. وذلك نسجاً على منوال تأريخ باختين لولادة الضحك والهزل والسخرية في الساحات والكرنفالات الشعبية العامة، في مواجهة الثقافة الأوروبية الكلاسيكية الرسمية عند منعطف القرن السادس عشر. لكن هذه المواضع تكاد تكون معدومة في عوالم العروبة والإسلام.

 

الكرنفال والساحة العامة

مؤلف باختين هذا، يتقصى صلة أعمال رابليه الكتابية بالثقافة الشعبية الأوروبية، ويستعيد مكتبةً كاملة من المؤلفات المعروفة والمشهورة بـ”الدراسات الرابليهية”.

في إشارة أولى الى أهمية رابليه، يذكر باختين أنه استقى مذهبه “كاتباً من الطراز الرفيع” من “حكمة التيار الشعبي، ومن اللهجات العاميّة القديمة، والأقوال والأمثال، ومقالب طلاب المدارس، ومن أفواه البسطاء والمجانين”. وهو يسمّي هذه كلها “الحماقات (التي) تظهر عبقرية القرن” السادس عشر “التنبوئية”. وفي مقابل شكسبير وثرفانتس “اللذين كانا يكتفيان بالابتعاد عن القوانين الكلاسيكية إبان عصريهما”، فإن ما يصوّره رابليه في أدبه وكتاباته “موسوم بالطابع غير الرسمي الذي

لا يمكن قهره” في خروجه على “الوثوقية” وعلى كل “سلطة أو جدّيّة وحيدة الجانب”، وفي معاداته الشديدة “لكل اكتمال نهائي” و”ثبات (…) في مجال الفكر وتصور العالم”. مصدر هذا الخروج، مادته ومثاله، هي “العالم اللانهائي لأشكال الضحك وتجلياته المتعارضة مع الثقافة الرسمية، الدينية والاقطاعية”. تتجلى هذه الأشكال في “أفراح الكرنفالات العامة، الشعائر والطقوس الهزلية”، وفي ما يؤديه “مهرجون مغفلون، عمالقة وأقزام ومسوخ،

ممازحون من مشارب ومراتب مختلفة”، أضافة الى “أدب محاكاتي ساخر (بارودي)، رحب ومتنوع”. أما مسارح هذا كله، فهي الساحات العامة والكرنفالات.

 

ساحة الفنا والزجل

استلهاماً لهذا التوصيف الباختيني المستمد من أعمال رابليه، تحضر صورة لـ”ساحة الفنا” في مدينة مراكش المغربية، التي أدرجتها منظمة الأونيسكو في مصنفات التراث العالمي. ففي تلك الساحة الشهيرة في مراكش التي يتميز تراثها الهزلي والفكاهي في المغرب، يجتمع في عصر كل نهار، وحتى ما بعد منتصف الليل، الحواة والمهرجون والقوالون وباعة المقتنيات الحرفية القديمة والمآكل الشعبية، في كرنفال يومي دائم، تتميز به المدينة.

في سياق آخر، لبناني، تحضر حفلات المبارزات الزجلية الشعبية وتراثها الجبلي. لكن هذه، الى شعبيتها، تختلف عن ثقافة الكرنفال في الساحات العامة، في أنها تضع القوّالين الزجليين وتفردهم على منبر أمام مشاهدين يقتصر حضورهم

على الفرجة. هذا فيما “المتفرجون” في الكرنفال “لا يشاهدونه، بل يعيشونه جميعهم”، بوصفه “انبعاثاً وتجديداً للعالم بأسره، حيث يسود شكل من الاحتكاك المتحرر بين الافراد” في سياق الحياة اليومية. هكذا “ينصهر في الإدراك الكرنفالي للعالم، المثال الطوباوي والواقع المادي، الحي والمحسوس”. أما في الثقافة الشعبية اللبنانية، فقد يكون ما ينشأ عن التفاعل بين الزّجّالين وجمهورهم، هو ذلك العالم البطولي الخرافي المؤلف من كلمات، فقط من كلمات.

 

التسفيل والشيطان

يشمل التصور الكرنفالي للعالم “استعمال متواتر للكلام البذيء، التجديفي المنصبّ على الآلهة”، وكذلك “العبارات الفاحشة” و”الأدب الهزلي المكتوب بالعامية”. من سمات ذلك التصور المميزة، الى ماديته، هناك “الإسفال” أو “التسفيل: نقل كل ما هو عالٍ (أو متعالٍ)، روحي ومثالي ومجرد، الى المستوى المادي والجسدي، مستوى الأرض والجسد”. وهذا ما جعل الضحك الشعبي مرتبطاً على “الدوام بالأسفل”. ويعني الإسفال “التقريب من الأرض، والاتحاد (بها) بصفتها مبدأ امتصاص ولادة”. يعني أيضا “الإتحاد بحياة الأطراف السفلى للجسد: البطن، الأعضاء التناسلية، وبأفعال مثل: التزاوج، الخلق، الحمل، الوضع، امتصاص الطعام، وقضاء الحاجة الطبيعية”. وفي الإسفال “نحن نقبُرُ ونبذرُ، نميتُ ونحيي”. أما “إهانات العالم والقدر، فليس هناك من وسيلة في الدنيا أقوى من الضحك لمواجهتها”.

هذا ما ورد في كتاب “جولات الليل” لمؤلفه بونافونتورا (اسم مستعار لكاتب مجهول) يعيد رسم أسطورة عن أصل الضحك، باعتباره “مرسلاً الى الأرض من لدن الشيطان الذي تمثّل للناس على هيئة قناع الفرح، واستقبله الناس بالأحضان. ولحظتئذٍ نزع الضحك قناعه الفرِح، وأخذ ينظر الى العالم والناس بمنظار السخرية القاسية” أو السوداء، العبثية والعدمية. وهذا ما استلهم منه كبار الروائيين العالميين المحدثين، مبدأهم الروائي وفنهم الروائي.

الحق أن هذه ليست سوى إشارات سريعة عابرة مما يحفل به مؤلف باختين، ويصعب الخوض في شعابه الواسعة الأرجاء في هذه العجالة.

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى