خليل النعيميصفحات الثقافة

بالانْكي: مملكة الـ«مايا» الرائعة جنوب المكسيك/ خليل النعيمي

 

 

إلى”بالانْكي”، سَريرة الـ”مايا” المختبئة في تَلافيف جبالهم، وبالقرب من أهراماتهم المتخَفِّية في كثافة الغابات، أصل مساء. وما إنْ أحلّ حتى أصير، بسبب “لاحَفاوَة” المكان، أتساءل: ماذا يغريني بمثل هذه “الأصقاع”؟ وكما تعرفون ليس ثمة “إجابة شافية”، وإنما أخرى “شاغِفَة”. لكن الأمر، أمر التساؤل الغبيّ الذي عَبَر نفسي لبرهة خاطفة، سيغدو سريعاً ثانوياً، وغير لائق بالمقام.

بسبب تلك الطَفْرَة العاطفية الآسرة، منذ أن أضع حقيبتي الصغيرة في الفندق، أخرج إلى الشارع. بين الأشجار الكثيفة أصير أتنفَّسُ الريح اللطيفة. وبعد أن أسير قليلاً، أجلس في أول مقهى أصادفه. مقهى صغير مختبئ بين الأشجار الهائلة الحجم. وأصير أتخَتَّل. أبعث أنظاري في كل مكان. أبحث عن هنديّ أصيل. ولا أرى سوى “الضباع” من أمثالي. أولئك الذين قطعوا القارات ليتنَسَّموا رائحة هندي من الـ “مايا”، عاش أجداده هنا منذ قرون. أي سحر يجعلنا نعاني كثيراً من أجل لَمْحَة لا مستقبل لها، ونحن نعرف أننا لن نحظى بها؟ تلك ليست مشكلتي. إنها مشكلة الوجود. وليس عليَّ أن أحلّها. أنا أريد أن أعرف. أن أعرف، حتى ولو كانت المعرفة التي أطلبها وَهْماً. فالمعرفة، في أساسها، ليستْ إلّا وهماً “نحققه” بقوة جهلنا التي لا ترتدع.

كانت غابة عذراء هندية فصارت قرية حديثة، اللعنة! “بالانْكيْ” غدتْ محطة أساسية لزيارة آثار هنود الـ”مايا” المختبئة في قلب الغابة. وأكاد أصرخ: ما هذه المأساة ! وأُهدِّئ نفسي: “اهدأْ. الوجود لا يبقى كما هو، وإلّا تعَفَّن”. ومع أن ذلك ليس مبرراً لتدمير الطبيعة والكائنات (حتى ولو من أجل تغييرهما!)، إلّا أنه يحدث منذ الأزل. وإذن، هل يمكن لنا أن ننظر إلى الكائنات، والأشياء بعين مُحايدة؟ وما أهمية الحياد في وضع مثل هذا؟

يستعينون بالأخشاب والأغصان الطرية من أجل خلق واقع لا يمثِّل أي واقع في الحقيقة. فالفضاء أكبر من أي حدث معماري، ولا يليق به سوى عبقرية الهنود. ولأن هذه العبقرية اندثرتْ، فإن ما أراه يبقى أقلَّ سوءاً من الأسمنت اللعين. وعلى أية حال، لا يمكنني أن أحكم على هذا الفضاء الميتولوجي من أول مساء أراه فيه. وما أرى ليس إلا نفايات المشهد الأسطوري الذي أحلم به منذ سنين. غداً، باكراً، موعدي مع آثار الهنود الآسرة. هكذا، أحسُّها بقلبي، حتى قبل أن أراها.

قبل أن أستقِلّ الحافلات العمومية، مثل بقية البشر، أبدأ التَلَمُّسات: جيوبي الأمامية، والخلفية، وقلبي. وعندما أهبط منها، أُعيد الكرة. لأن أي شيء يمكن أن يحدث. وإصلاح الأخطاء، هنا، صعب، إنْ لَمْ يكن مستحيلاً. لكن غواية الوصول إلى خرائب هنود الـ”مايا”، إلى حطامهم، بالأحرى، حطام حضارتهم الجليلة الغابرة، برغم “الأخطار” المحيطة بها، لا يمكن مقاومتها. ونبدأ المسير.

بين عنف الغابة، والمشاهدة الطبيعية الصارمة، تَتََلَوّى الطريق. في البعيد جبال مكَوَّرة وحزينة. وسُفوح منعزلة وأفانين. لكأن الطبيعة، هنا، تحكي بألْسنة جبالها. وتُشير إلى العدم بأشجارها الباسقة. وتدلّ على الخفاء بالفضاءات المحبوسة بين القاع والهواء. ندخل غابة، ونخرج من أخرى. تستقبلنا أشجار الهنود العظمى بأبهة زائدة، وكأنها لا تريد أن تعترف بالخسارة: نفس النسغ، ونفس النوء، والتربة هي نفسها، والآثار التي ترعاها لم تترك أماكنها، منذ مئات السنين. ماذا تريد الجبال الهندية أكثر من ذلك؟ هي في أرضها، ونحن عابرون. هذا هو كل شيء! وهو مدهش أكثر ممّا نتصوّر. إنه تعبير صارخ عن اللاتآلف بيننا. وهو ما يملأ نفسي راحة واطمئناناً.

من أعالي الجبال العظمى يبدو الكون محتقراً، وضئيلاً إلى درجة أنك تريد أن تدوسه بقدميك. في البدء كنت مرعوباً عندما بدأت السير عليه. وأجدني أتوقف في مكاني كالمربوط برَسَن لا مرئيّ: “أهرامات في غابة؟ مَنْ كان يتصوّر هذا”؟ وأُدرك، على الفور، أن الهنود لم يكونوا يعبأون بغير عناصر طبيعتهم. وكل ما هو موجود حولهم، يستحق حبّهم وعنايتهم. وأُتابع الصعود. ممرات معتمة وضيقة. ومن واحدة إلى أخرى، يصل المرء إلى النور في الأعالي. فوق ذُرى الأشجار، وعلى قباب الجبال، يتجلّى مشهد آخر: مُشَيَّدات خرافية، وقصور عامرة، لملوك غابرين. إلى ساحاتها كانت تُقاد الأضاحي. وفوقها مصاطبها تسيل دماؤها النقية. ومن هنا كانت الحشود تراقب المشهد الدموي الساحر المليء بالأساطير.

آثار “المايا” إنسانية. الأشجار تعلوها، حتى لتكاد تحنو عليها. والأمطار تبلِّلها برقة، وكأنها جزء من الغابة. لا نحس أنها مقتَحِمة، ولا متصنّعة، ولا هي مشهد خالص. إنها محدودة، لكنها شديدة التميُّز. لا تسحق الكائن، وإنما تحميه (وهو شعور غريب ينتاب المشاهد في حضرتها). هي ليست استعلائية، وإنما متماهية مع الكينونة. إنها موجودة لأن عناصر الحياة والكون أفرزتها، بشكل يكاد طبيعياً.

أوه! أهراماتهم ضائعة في الغابة. لا تصل العين إليها من بعيد. ولا يراها العابرون. يجب البحث عنها بعناية، للوصول إليها. ومَنْ لا يعرف كيف يبحث لا يصل أبداً. هي نقيض “أهرامات الجيزة” في مصر. تلك التي تصعد إلى السماء بعد أن تسحق الأرض. لكنها، مثلها تماماً تتمتَّع بقدر كبير من الروعة والإتقان. وهي، أيضاً، مثل أهرامات الجيزة، و”برج بابل” أُنشِئَتْ لتُقَرِّب الإنسان من السماء. من الحلم الكوني الذي لا يمكن تجاهله، حتى ونحن نتَخَطّى في أعماق الغابات البعيدة. ولكن، ما معنى أن يكون الشيء بعيداً، وهو خاتِل في القلب؟

أتساءل: كيف كانوا يستدِلّون على معابدهم، ومساكنهم، في مثل هذا الكَمّ من الغابات التي تصل ذُرى أشجارها إلى الغيم؟ من جذوعها، وأوراقها، تظل القطرات تَخُرُّ بلا انقطاع. لكأن أنفاسها هي التي تجلب الماء إلى أرض الهنود. كيف كانوا يصلون إلى أماكنهم الحميمة؟ ويميِّزون بين الأشجار؟ وثمة أشجار من كل نوع وشكل: خُضْر، وحُمْر وكأنها مدهونة بالقرمز، وزرْق تحسبها خضراء من شدة الزرقة، وأخرى غيرها لا أستطيع حتى وصفها. أشجار عملاقة، وأخرى قزمة، وبين بين. كل شيء في الغابة الهندية متعدد وعريق. لا شيء يُقلِّد شيئاً آخر. وهو، ربما، ما مَيَّز حضارة الهنود المايا المبنية على الحكمة والتضحية والأنفة والنظام.

لا أعود إلى نفسي بعد أن قضيت النهار كله في “مملكة بالانْكي”. آثار الملك “باكالْ” الذي حكم المنطقة، وشيَّد فيها الكثير من الآثار المدهشة، تملأ النفس بالمتعة والاضطراب. تجعلنا نقف مذهولين لفترة طويلة، ونحن لا نكاد ندرك شيئاً مما يحيط بنا. وبالخصوص تُغيِّر نظرتنا إلى ما عرفناه، وكنا، إلى الآن، نعتقده شيئاً مهماً، لا مثيل له. حتى إننا نصير نفكِّر أن “النسبية ليستْ مسألة رياضية، وإنما هي فكرية، قبل كل شيء.

لا يمكن للكائن أن يبقى كما كان بعد زيارة كهذه.

كنت أعرف نظرياً بعض تاريخ هنود الـ”مايا”. لكن “النظرية” شيء، و”الرؤية” شيء آخر. ثم إن الرؤية تَلِدُ أخرى، باستمرار. هكذا تتَراكَم الرُؤى إلى مالانهاية، حتى إننا نصير، نحن، بعد انْغِماسنا العميق فيها، نرى أنفسنا فيما نرى بالفعل. ونكتشف عندها، ببساطة، أن رؤيتنا لأنفسنا، هي الأخرى، “نظرية” بحتة، ولا حقيقة واقعية لها. وهي، بهذا المعنى، قابلة للنقض، والإلغاء، والتجاوز باستمرار.

ولكن، ما هي هذه الـ”بالانْكيْ” (ومعناها المحاطة بالغابات)؟ المقصود، كما رأيت، ليست المدينة الاستعمارية البائسة المبنية على الهامش، والتي هي عبارة عن نقطة استقبال وانطلاق للزائرين، وإنما هي الأخرى، المدينة الهندية الأصلية الغارقة فعلاً في محيط (أقصد بحراً حقيقياً) من الغابات. “بالانكي” الهندية هي أكبر مدينة، من مدن الـ”مايا” في المكسيك، باقية على قيد الحياة. حَمَتْها الغابات الصمّاء المحيطة بها. وأنقذَتْها الجبال من عبث “الفاتحين” في القرون الوسطى. وهي اليوم من تراث الإنسانية، بعد أن سجَّلَتْها اليونيسكو في عام 1978.

حضارة هنود الـ”مايا” نشأت، أولاً، وازدهرت، فوق الهضاب العليا في غواتيمالا، وفي جنوب المكسيك. ومن بعد امتَدَّتْ إلى منطقة بالانكي. وهذه احتلَّتْ موقعاً مهماً، وغدت مأثرة حضارية، وبالخصوص بين 300 /600، بفضل أهم ملوك المايا: باكالْ الذي عاش قرناً كاملاً. وما يدل على موقعها المميَّز الأهرامات العظمى الباقية على حالها إلى اليوم، والكتابة الهيروغليفية، وتقويم المايا الشهير، أو”المفَكّرة” المتوارثة جيلاً بعد جيل. وقد خلَفَه ابنه “شانْ ـ بَهْلومْ” (أو الفهد ـ الأفعى). وبعد موت هذا الأخير ستتراجع حضارة “المايا” تدريجياً، إلى أن يقضي عليها الغزو الإسباني في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي.

2

يوم آخر جميل في بالانكي عاصمة سلالة المايا المنقرضة. الصبح فيها رطب ودافئ. الأمطار الناعمة تُرَصِّع أوراق الأشجار بحُبَيْباتها الفضية. صمت عميق يَلفُّ الكون، وكأنما يهيمن على الوجود حزن أبديّ. الفضاء معتم ومنير، وأنا وحدي أتَلَعْثَم متطلعاً حولي مثل طفل غشيم. أريد أن أعود، من جديد، إلى آثار المايا التي لا يُرْتَوى منها. أريد أن أرى الأهرامات الهادئة، مرة أخرى، ومرات. أن أؤمّ المعابد. وأن أرى أمكنة الأضاحي نظيفة وخالية، ولا تلوِّث سكونها الأزليّ الأدعية الميتولوجية والصياحات. وأصير أمشي متوَفِّزاً مثل حيوان برّي تستولي عليه، فجأة، رغبة الجَوَلان.

تحت ظل الشجرة العملاقة الغارقة في الغيم، أجلس طويلاً. تحيط بي الآثار من الجهات، جميعها. العشب أخضر ناصع. والندى يَنَزُّ من الغصون. والهدوء مستتب في مملكة بالانكي، وكأن الأبد حلَّ منذ قليل. أنظر. ولا أملُّ من النظر. أحياناً، أرى المشهد نفسه عشرات المرات، وأظلّ أتَحَسَّر لأنني لم أرَه من قبل. ولأول مرة، أحسّ أن الموت، حتى الموت المخيف نفسه، محتمل في هذا الفردوس الأرضيّ، وإنْ لم يكن مرغوباً فيه.

على جال نُهَيْر “أوتولومْ” الذي يخترق الآثار من أعلى الغابة إلى أسفلها، أجلس طويلاً. أتملّى تدفُّق النُهَيْر الساحر القليل العمق. أنصتُ إلى خرير ذرات الماء المتَكَسِّرة على الأحجار. أدُسُّ في السَيْل الأبيض قدميّ، ويديَّ. أغمض عينيَّ. وأنتظر. لكأني أصلّي. والماء لا يكف عن الجريان. لكأنما لديه مهمة صارمة، يريد أن يحققها قبل أن ينتهي الزمن. دَوّامة الجريان، هذه، التي لا تَتوَقَّف منذ آلاف السنين، تأسُرُني. ويبدو لي أن عناصر الطبيعية الأساسية: الماء والتراب والهواء و… هي التي ترتِّب مصائرنا، وتحكم علينا بالفناء. فهي، في النهاية، أكثر خلوداً منا، وعلينا أن نرضخ لضرورة بقائها الأزليّ.

أُفكِّر. وأُتابع الجلوس. لم أعد أحب أن أن أترك المكان. أنا هنا في “فردوسي”. رطوبة الغابة الحنون تحميني من الشمس، وتغويني، مثلما فعلت، منذ قرون، ولا بد، مع آثار المايا المستسلمة لعنايتها الإلهية. لكن هذا، كله، يشهد على أنْ لا بديل للسفر، في الحياة. إنه الوحيد الذي يجعلنا نتمتَّع بجمال الكون، وسحره. يجعلنا ندرك أن مآثر الشعوب وحضاراتها، كانت مستقرة وزاهية قبل أن ترى أجيال كثيرة منا النور. والنور، في الحقية، كامن فيها.

سأُوَدِّع، سأكون مضطرّاً إلى توديع هذا الفردوس، قريباً، مثلما حصل لي مع أمكنة آسرة أخرى. ولربما كانت ضرورة الوداع هي التي تزيد بهجة اللقاء متعة. أريد أن أمشي. ولا أريد. لماذ عليَّ أن أستبدِل أمكنة ساحرة بغيرها؟ لألتقي بأخرى أكثر سحراً؟ ربما! لا تَنْسَ هذا، أبداً. وحتى الأمكنة التي لا تسحرنا تستحق اللقاء. الحياة كرة تَتقاذفها اللقاءات والوداعات. فلماذا تراني أريد أن أشذّ عن قاعدة هذا المصير اللامعقول للوجود؟

*روائي وكاتب رحلة من سورية

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى