صفحات سوريةغازي دحمان

بالنسبة إلى «حزب الله».. العدو بات في الدواخل اللبنانية والسورية/ غازي دحمان

استجابة حزب الله وردة فعله تجاه الغارات الإسرائيلية الأخيرة على مواقعه، تحدد شكل ومضمون الصراع في المرحلة المقبلة، حيث تتضح ان الصراع مع إسرائيل يتراجع إلى مرتبة ادنى فيما يحتل الصراع الطائفي، المغطّى بقشرة الدفاع عن المقاومة، وتحالفها، المكانة الأهم، سواء لجهة الاستعدادات أو الموارد المرصودة، وحتى في الخطاب السياسي.

سنرد في الزمان والمكان المناسبين، من لم يعرف هذه الصيغة؟، حينما كان الحلف المكون من إيران وسورية، يواظب على التذكير بها بعد كل حادثة إسرائيلية من هذا النوع، وحينها لم تكن الترجمة العملية لهذا النمط من الاستجابات قد وضعت في سياقها الصحيح، ولم يجرِ فحصها عملانياً، ذلك ما ستكشفه لاحقاً الثورة السورية، لا مجال إذاً للانشغال بصراعات خارجية، فالقوة كلها، ببنيتها وتركيبتها، تعمل لصالح أهداف داخلية تحتل قضية الحفاظ على السلطة والهيمنة الداخلية أعلى مراتبها وأكثرها أهمية.

حسناً، قد تكون هذه المعادلة مفهومة على مستوى أنظمة سياسية لها حساباتها وتقديراتها الداخلية، ومن ثم لها أولوياتها، التي تجعلها تتعامل بعقل بارد مع غارة إسرائيلية تحدث أضراراً جزئية، وليس بنزاقة الثوريين (المقاومين) أصحاب الرؤوس الحامية، وهو ما يبدو غريبا بالنسبة لحزب تأسس على مبدأ مقاومة إسرائيل، وحصل على شرعيته انطلاقا من هذا المعطى، فكيف لهذا المكون الانفكاك عن شرايين تغذيته الرئيسية بتلك السهولة والبقاء بنفس الوقت على خطوط التماس مع الحواضن الفكرية والاجتماعية التي صنعته، ولو من قبيل الخطاب الإنشائي!.

تفكيك سر هذه المعادلة يستلزم فهم لحظات التأسيس الأولى للحزب، ذلك ان الحزب لم يخف نفسه باعتباره حاجة طائفية أفرزتها مقتضيات صراع أهلي، لم يشكل العدو الخارجي فيه سوى حالة برانية ظل منسوب التفاعل معها (صراعياً) مقتصرا على مدى اندماجها في الصراع نفسه ومدى تداخلها مع قواه وحجم تأثيرها في موازين القوى، وهي بهذه الحالة تكاد تشابه طرفا داخليا، يمكن حل النزاع معه في إطار توافقات معينة.

غير أن هذه الوضعية ستنتهي وتتحول إلى نوع من الفولكلور، يتم التذكير به بين الحين والأخر حين يبدأ حزب الله بتركيز بوصلته على الهدف الحقيقي عبر تعيينه على المناصب والحصص وتوسيع دائرة أدواره الداخلية، وحين ستنكفئ إسرائيل إلى الداخل الفلسطيني الذي تعتبره همها الوجودي الذي ستحق منها التركيز. حتى أن حروب 2006 وقبلها 2004 بدت مجرد محاولات للبحث عن صيغة لتنظيم الصراع اكثر من كونها صراعات وجودية.

الأحداث التالية ستكرس قطيعة الحزب مع الصراع الإسرائيلي وستعمل على إعادة تموضعه بمفاصل صراعات المنطقة ذات الطابع المكوناتي بالدرجة الأولى، بدءاً من اغتيال رفيق الحريري مروراً بالخروج السوري من لبنان، وستزيد الحرب الأهلية العراقية من حساسية الحزب تجاه الأحداث ومن حدة ردات فعله، والأهم من سرعة انحيازه إلى بيئة تلك الصراعات.

بهذه المعطيات سيدخل حزب الله الأتون السوري، متزامناً مع أمر عمليات إيراني للعب الدور الحقيقي له، الذي يتجاوز المطالب الداخلية اللبنانية وحتى الجغرافية الشامية، في ظل موت الدينامية العربية عموماً، وانهماك العالم العربي، دولاً ومجتمعات، بأحداث الربيع العربي.

لا شك أن حزب الله يصدر في ذلك عن حالة صعود الهويات الفرعية واضمحلال الحيز المشترك بين المكونات المشرقية، وهو في ذلك يبدو سببا ونتيجة في إطار هذه الظاهرة، وهي في العموم انتعشت على وقع انهيار الدولة المشرقية، بعد أن استنفذت هذه الأخيرة كل ممكنات التسلط والإنفراد بالقوة، وبعد اكتشاف ضحالة الصيغ الميثاقية المؤسسة للدولة في المشرق وتهافتها، انكشفت بوصفها جملة من علاقات الإخضاع وآليات النهب والفساد وجزر مكوناتية سياسية وطائفية لا جسور تربط بينها.

على ضوء هذه المعطيات والحقائق، لم يكن صعباً على الحزب إحداث تلك النقلة الفارقة في خطابه وسلوكه السياسي، فحزب الله يتغذى من منظومته الأوسع في المنطقة، ذات الطابع المذهبي، مثله في ذلك مثل تشكيلات أخرى، لكن الفارق ان تنظيمات مثل القاعدة وتفرعاتها لم تكن تخفي نفسها خلف أقنعة.

الصراع مع إسرائيل يتجلى في هذه اللحظة، الكاشفة، كنمط تناقض ثانوي، فيما الأساسي هو داخل الجغرافية، وهو يحدد بدرجة أكبر وضع الموارد والحدود والنفوذ، فيما الصراع مع إسرائيل، مهما طال فهو يدرج في إطار الصراع الوظيفي، شرعنة وضع حزب الله الآني، وبالتالي يمكن القفز عنه طالما هناك أولويات أهم، يصبح نوعا من الترف.

حزب الله غيّر قواعد اللعبة، وبدل قواعد الاشتباك مع إسرائيل، ذهب إلى هدفه مباشرة، لا داعي للسير على طريق القدس للوصول إلى بيروت ومشق، ذلك حصل منذ اتفاق الليطاني، ردة فعله على عملية اغتيال مغنية كانت فاحصة لحدود التزامه بهذا المنطق الجديد، واليوم يجد نفسه أكثر التصاقا بهذه القضية، حساباته السياسية والتكتيكية أكثر دقة، فأي خطأ في تلك الحسابات سيجعل إسرائيل طرفا في الصراع الدائر في سورية، وهذا سيغير المعادلة وسيصب في خانة إضعاف الأسد ويزيد من تسريع سقوطه.

بالنسبة للحزب العدو بات في الدواخل اللبنانية والسورية، في بيروت وعرسال وفي يبرود ودرعا، لكن ذلك لن يلغي بهجة حزب الله إذا الأقدار ساقت حدثاً عرضياً لإسرائيل.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى