صفحات الرأي

بالنظر الى “المحلل السياسي…/ نزار عثمان

 

 

لا يمر يوم، حتى في أيام العطل والأعياد، الا ويطل على شاشاتنا محلل سياسي – اعلامي من هذا المعسكر او ذاك، يتفاعل ويرفع الصوت أمام آلاف المشاهدين دفاعا عن فكرة أو موقف أو رأي أو حزب أو حادثة او شخصية سياسية او دولة مجاورة أو أقليمية أو ما الى هنالك، حتى ان بعضهم قد تجاوز بتأثيره لبنان ليعقد صداقات وتعاوناً استشارياً وغير استشاري مع دول أخرى.

ومن المعروف ان هذه الفئة من أصحاب الرأي تبدأ في الغالب من كتابة المقالات في الجرائد، ثم تتطور كي تلقي بظلّها على وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي، وتصبح أشبه بناطقة غير رسمية باسم القوة السياسية التي تدافع عنها، وصولا الى تسلم بعضهم مناصب حزبية او استشارية أو في صلب الدولة انطلاقا من موقعهم كأصحاب رأي، ومن تمثيلهم للجهات التي ينافحون عنها. أما المقصود بـ”المحلل السياسي – الاعلامي” فهو، مع كتابته للمقالات، له اطلالته التلفزيونية وحضوره في وسائل التواصل الاجتماعي.

ليست غريبة ظاهرة المحلل السياسي او طارئة ومستجدة، فقد تعززت في عصر الايديولوجيات والدعوة لها. والمحلل السياسي يقوم بقراءة الواقع قراءة نقدية استشرافية، حيث يرى سارتر أن على الناقد أن يكون “ملتزماً، وأن يكشف العالم ويغيّره”. بهذا يتوجب عليه ان يكون الى هذا الجانب السياسي أو ذاك، وبالتالي هذا ما يعطي الموقف او الظهور الاعلامي أو الكتابة مضمونها ومصداقيتها. ومن ثم لا بد ان تكون لغته واضحة وتعبوية ومفهومة غير معقدة، ولا تصاحب اشكاليات في الموقف او في الاعتبار. وخروجاً على رولان بارت في دعوته للالتزام الرمزي، يبدو المحلل السياسي مؤطراً بالخيار السارتري بشكل أو بآخر وبطريقة أشبه بالكاريكاتورية في بعض الاحيان. فبدلاً من أن يقوم بدور تنويري يحفظ له مسافة من الجهة التي يدافع عنها من دون تلميع مساوئها، ترى بعضهم ينخرط في الدفاع عنها، ظالمة او مظلومة، وموجها كلامه لجمهورها بتعبوية وشحن لافتين، متخذاً من مسلّمات وعيها منبراً يخوله النطق باسمها، عوضاً عن ضرب هذه المسلّمات والارتفاع بوعيها نحو ما قد يكون أفضل وأنجع، واكثر قرباً من تقبل الآخر.

والواقع ان عصر التكنولوجيا بات أشبه بالدجاجة التي تبيض ذهبا بالنسبة لكثير من المحللين، فإطلالاتهم لم تعد تقتصر على عمود تحليلي نقدي في جريدة يطّلع عليه المهتم، بل بات لهم وزنهم واسمهم في الشاشات التي تدخل الى بيوت المواطنين، وصفحاتهم الفيسبوكية والتويترية التي لا يبخلون من خلالها بالتفاعل مع المريدين، وتوضيح الموقف ساعة بساعة. وبعدما خوّله اطلاعه وعلاقاته، معرفة آلية تصرف وتفكير الجهة التي ينافح عنها، أضحى مرجعية لتقصي الحقائق بالنسبة للمتلقي، من دون كبير عناء او مشقة في تناول المعلومة. بل أكثر من ذلك فلعل بعض المحللين السياسيين يزايدون من مواقعهم ومنابرهم، على مواقف الجهات التي يمثلون، بطريقة غير مباشرة، في إطلاق المواقف والآراء التي توفر لهم “شعبية” كبرى وتأثيراً غير متناه.

ولا يمكن انكار القيمة التي يمثلها المحلل السياسي، فهو كفوء وذكي وشديد الملاحظة ومتابع لا يكل، وعليم بدقائق الامور، وغالباً له اتصالاته، وموسوعي في معرفته بمواضع النقص والتقصير، إما في الجهة التي يدافع عنها أو في الخصوم. ومع وجود بروتوكولات وحوارات  تجمع غالبية الفرقاء السياسيين في لبنان، الا ان المحلل السياسي هو من ينقل بأمانة وجدية نبض الجهة التي يمثل، ورؤاها ومواقفها الصريحة، بعيداً من البروتوكولات التي تحكم رجال السياسة، ويساهم في إزكاء الصراعات حيث يلزم، او يمهد للتفاهمات حيث يتطلب الراهن. وهو بذلك خير دليل ومثال عن رأي الجهة التي يمثل، حيث تنعدم ذاتيته كشخص، ويحل محلها وجود جمعي يتخطاه ليصب في مصلحة الجماعة.

لكن مع هذا، يُطرح السؤال… ما مدى فاعلية المحلل السياسي وتأثيره في الطرف الآخر؟ قد تبدو العلاقة مع الطرف الآخر وما يتبلور من خلاله من جمهور، علاقة اشكالية ومأزومة. فكل طرف له محللوه وله رأيه، والغالب ان رأي المحلل السياسي المقبول لدى فئته، مرفوض ومحل سخرية لدى الطرف المقابل، وهذا لا يدفع ثمنه الطرف الآخر فحسب، بل لعل المحلل السياسي له وزنه في اتخاذ مثل هذا الموقف. فهو مع الأخذ بأنه غالبا ما لا يوجّه تحليلاته الى الطرف الاخر، بل يبرر لرأي جماعته، إلا أنه يعمد في بعض الاحيان إلى تسفيه أحلام الآخر، وإظهار ضلالة تفكيره، وخطأ تحالفاته وزيغ مواقفه. وهذا لسببين، الاول: الفوز برضا جماعته، والثاني: تخلي بعضهم عن دوره التنويري الايضاحي وسقوطه في فخ الديماغوجية. أما لو التقى محللان متعارضان في المواقف على طاولة للحوار، فغالبا ما تتحول الى صراع ديكة، او للتلطيف لتسجيل النقاط.

وهنا سؤال أخير، هل حقاً أن المحللين السياسيين، حينما يدافعون عن مواقف جهاتهم – في اقصى حالات سلبيتها – يكونون متصالحين مع أنفسهم، ومصدقين لكلامهم التعبوي، وبالتالي لا يشعرون بالنفاق؟ يبدو ان الاجابة عن هذا السؤال مع ما تستدعيه من دخول في النوايا، تتطلب دراسات سيكولوجية واجتماعية متعددة، وهو ما تعجز عنه هذه العجالة… لكن السؤال الأجدى في هذا الاطار: أين هو ضمير المحلل السياسي إزاء الحدث، وفي معمعة الآخذ والرد السياسيين في بلادنا؟ هناك الكثير من المحللين السياسيين من ذوي الضمائر الحية، والمقتنعين بأنهم ينيرون الدرب أمام من يرى في كلامهم هدى يستضئ به. لكن هذا لا يمنع وجود بعض المتسلقين النفعيين الذين يلعبون الدور لينالوا الحظوة لدى السلطان، والفوز بالحطام.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى