خليل النعيميصفحات الثقافة

بانتظار الثورة/ خليل النعيمي

 

 

سنظل ننتظرها. ننتظرها حتى آخر الليل. ليل الطغيان الأسود. لا ضوء في آخر النفق. نعرف ذلك. العالم كله ضدنا. لكننا لن نتحوّل. مَوْتانا لا يكفون عن الانتظار، لهم عيون مفتوحة مثل الآبار الجافَّة، وأصابع ممدودة كالمسامير الباردة، تحضّنا على ألاّ نتوقف عن طلب المزيد منها. الموتى لا يموتون، إذا ظللنا نحن مخلصين لمطالبهم. صرنا نعرف كل شيء، حتى ما لم نكن نعرفه من قبل، لكن ذلك لا يعني أننا سنتحوّل عن منظورنا الثوري. خدعتنا السلطة، وخَذَلَتْنا المعارضة، ومع ذلك لا نكفُّ عن الانتظار.

لا يمكن للكائن أن يخون نفسه إلا إذا أراد أن يُمْحى من الوجود، وكذلك هي حال المجتمعات الإنسانية، لكن عرب اليوم لا يفعلون غير ذلك! وهو ما يجعلنا نتساءل، بأسى، عن سبب «الالْتِهام الذاتي» العربي الكاسح. هذا الالْتِهام المرعب الذي نراه مبْهوتين، عاجزين عن فهمه، أو إيقافه، ولكن، مَنْ منا لا يفعل ما يفعله الآخرون؟ كلنا نفعل. نفعل الالْتهام اليومي لذواتنا، وكأننا مدفوعين بقوة سوداء نحو العدم. ولكن، لماذا نظل ننتظر الثورة؟ أيكون انتظار الثورة عملا ثوريا؟ لا.. لكنه جزء من صيرورتها. مَنْ لا ينتظر، لا يتحرّك من مكانه. نحن ننتظر ماشين على الجمر نحو اللحظة الحاسمة التي لم تجئ، بعد. نمشي مبتهجين بالفشل. النصر، في نهاية الأمر، ليس شيئاً مجزياً، ولا هو حتميّ، إنه مرحلة من مراحل المسيرة الثورية التي بدأت، ولن تتوقف، بعد الآن. الحمقى، أو جُهَلاء التاريخ الإنساني، وحدهم، يبحثون عن «نقطة النهاية» للثورة، أو ما يسمّونه: النصر! أي مهزلة! «نقطة النهاية»، هذه، ليست سوى خدعة تاريخية! فلنتابع السير قُدُماً، ما دمنا خُذِلْنا في منتصف الطريق. ومَنْ كان يأمل غير ذلك، سوى الأغبياء الذين يعتبرون الثورة «معركة» مضمونة النتائج، سلفاً، وهي، في الحقيقة، تَتويج لـ«مصير الكائن الأسود». وتحقُّقها لا يعني شيئاً آخر غير نهاية الوضع: «وضع ما قبل الثورة» الذي لم يعد احتماله ممكناً.

استياء الكائن من «وضعه القديم» الذي «لم يبقَ منه إلاّ سيِّئاته»، هو الذي يدفعه إلى الخروج العنيف عليه. لكن ذلك لا يعني أنه سيجد، بشكل آليّ، وضعاً أفضل. «الأفضلية» في حال الثورة الناجزة ليست أساسية، كما أنها ليست ميزة، على الإطلاق. الأساسيّ الذي ترسمه الثورة هو الخلاص من «الوضع المعطوب». وهو ما يبرر ضرورة العمل للانتقال إلى وضع آخر، بتغيير القديم إذا أمكن، أو بتدميره (وتدمير العالم القديم شغف).

الأفضل، إذن، هو أن «يموت الوضع القديم» بدلاً من أن تموت الثورة. لكن الثورة لا تموت. إنها كالنهر، لا تُفْنى دفعة واحدة، ولا تنتهي فجأة، وإنما تظل تنساب إلى آخر الأفق، أفق الوجود الذي يظل يتلَوّى إلى أن يبلغ مَصَبّه التاريخي: الحرية. ولكن، لِماذا هذه التعبيرية السوداء اللامجدية، الآن؟ لكأنني بدأتُ أُغَنّي الثورة، وهي في طور انسحابها الذي أخشاه.

الألاعيب لم تعد مجدية. ويجب ألا يغلبنا الصمت. صرنا في عصر آخر. ما قبل الثورة لم يعد ممكناً بعدها، حتى ولو ظلت بعض «الأصنام» قائمة. العبْرة في الثورة ليست كمّية، وإنما كيفية. ومهمة الثورة الأساسية ليس الانتصار، وإنما خلق كيفية أُخرى، تمنحنا تصوُّراً جديداً للعالَم، حتى لو كانت غير منتصرة. ومَنْ يبحث عن «النصر الكاذب» سوى الحمقى والطغاة؟ «الوجود الثوري» سَيْل وليس «قطعة نقْد» يمكن أن نَتداولها على هوانا. إنه إعصار يخلخل مفاهيمنا القديمة، ويبدِّل مشاعرنا، مشاعِر ما قبل الثورة. يهز صمودنا الذي كان ساكناً كالحجر. ويخرّب علاقاتنا الإنسانية الراسخة، لا مع الآخرين، فقط، وإنما مع ذواتنا قبل كل شيء. لا شيء يبقى كما كان قبل الثورة، بعدها، حتى لو بدت للشامتين خاسرة. ولكن، ماذا تعني «الخسارة» في هذه الحال؟ أوَليستْ هي «الجسارة» الإنسانية التي تصحِّح مصائر التاريخ، وتغيِّر مصائر البشر؟ وما هي «الثورة» أصلاً، إنْ لم تكن نحن، هذه الكلمة «الميثولوجية» التي أخشى أن تدخل، هي الأخرى، في دائرة التقْديس، فتَتَحنَّط. فتَموت

ـ بَسْ، «الثورة خِلْصَتْ، وما خلَّصَتْنا»

ـ «إشْ كُونْ تقول»؟ « نثور من جديد».

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى