صفحات الثقافة

بانتظار ثورة ثقافية عربية!


فخري صالح

لا تقتصر مطالب الإصلاح في حركات الاحتجاج والثورات العربية على ما يخص الشأن السياسي والاقتصادي، وقبل ذلك كله الدستوري والقضائي، بل تتضمن أيضاً بُعداً يبدو غائباً، هو البُعد الثقافي المعرفي، الذي طالما غيَّبته الأنظمة العربية وتعاملت معه بوصفه ديكوراً وحلية، وأمراً فائضاً عن الحاجة يمكن التخلي عنه في وقت عدم الحاجة، وتقليص ميزانيته حتى تقترب من الصفر. ورغم ما رأيناه من كلام كثير عن الثقافة خلال السنوات الماضية، واستعداد جهات عربية، رسمية وأهلية، لدعم الثقافة، فإن ذلك في الحقيقة لم يكن سوى كلام في الهواء ووعود ذهبت بها الرياح عند أول عاصفة.

المشكلة أن الدولة العربية تعاملت مع البُعد الثقافي للدولة والمجتمع بوصفه شأناً من شؤون النخب، فالخبز أهم، رغم أن هذه الدولة لم توفر الخبز في معظم الأحيان. كما أنها سعت إلى إسكات المثقفين، برشوتهم أحياناً من خلال دعم بعض مشروعاتهم ومؤسساتهم الثقافية. لكن دعم الثقافة لا يتمثل في دعم المثقفين، أو بعض المثقفين، والإغداق عليهم، فهذا يدخل في باب شراء الذمم لا في باب تطوير العمل الثقافي وجعل المسألة الثقافية حجر زاوية في عمل الدولة والمجتمع.

علينا أن نوضح أولاً أن العمل الثقافي لا ينحصر في كتابة الشعر والرواية والقصة، بل هو عملية تتصل بتشكيل المعرفة والقيم وتحديد رؤية العالم بالنسبة للفرد والمجتمع، وهي تشمل العملية التعليمية برمتها، وإنـشـاء المكتـبـات العـامـة، وتـشـجــيـع الـقـراءة وجـعلها حجر الزاوية في العملية التثقيفية، وإنشاء المتاحف، ودعم المسرح، والحث على الإنتاج السينمائي وتوفير الظروف الملائمة له، إضافة إلى سلسلة متصلة من توفير الزاد الروحي للمجتمع.

لكن الإدارات الثقافية في الدولة العربية، خلال نصف القرن الماضي، قلصت مفهوم الثقافة، واكـتفت بالاهـتمام برشـوة بعض المثقـفين، بما يضمن ولاءهم، وقمعت البعض الآخر وهمـشـته، ولم تعمل على خطة ثقافية واضحة تهدف إلى تثقيف المجتمع وإعادة تشكيل قيمه. وقد جر ذلك علينا ويلات التطرف والإرهاب وتصديره وتعملق الفكر الظلامي حتى أكل الأخضر واليابـس، وأهـلك الضــرع والـنسل. ويـتـصـل ذلـك، فـي الأسـاس، بـغـياب الدولة الـمـدنـية التـي تـؤمـن أن التعليم والثقافة يأتيان مباشرة بعد توفير الخبز والعيش الكريم للناس. ولا أظن أن الدولة العربية وفرت الخبز لتوفر الثقافة والتعليم المثري الخلاق.

لقد انهار الواقع الثقافي وانهار التعليم، وأصبحنا في ذيل الأمم، فليس لدينا جامعة واحدة يعتد بها ضمن الجامعات الكبيرة التي يشار إليها بالبنان في العالم؛ وقد كانت جامعة القاهرة وجامعة دمشق والجامعة اللبنانية وجامعة بيروت الأميركية والجامعة الأردنية في السابق من بين تلك الجامعات الكبيرة التي يـشـار إليها بالبنان، ولكن الخراب وصل إلى النخاع بعد أن أصبح التعليم في أسـفل قائــمة أولـويـات الـدولة الـعربيـة الحـديـثـة.

نحتاج إصلاحاً ثقافياً حقيقياً، ووصلاً لحقل التعليم بحقل الثقافة، لكي يزدهر حال التعليم وحال الثقافة. ويحتاج هذا الإصلاح، أو لنسمه ثورة وتجديداً، إعادة نظر في غايات التعليم، التي تقتصر الآن على الاستجابة لحاجات سوق العمل لا تعليم الطلبة الإبداع والتميز، ودعم البحث العلمي. أما حقل الثقافة فهو يحتاج إلى إعادة نظر شاملة بحيث يجري وصل الإنتاج الثقافي بالمجتمع وحاجاته المعرفية، وذلك من خلال الاهتمام بالموسيقى وتعليمها، وإعادة الحياة للمسرح، الذي ذوى وكاد يموت في كل صقع من الأصقاع العربية، وكذلك من خلال إعادة الروح للسينما، وتخصيص ميزانيات للمؤسسات التعليمية والمكتبات العامة لشراء الكتب والموسوعات، بأشكالها الورقية والإلكترونية.

لا يكفي ما يحدث في العالم العربي من احتجاجات وانتفاضات، فنحن بحاجة إلى ثورة حقيقية في التعليم والثقافة تضمن تغييراً في المفــاهــيم والقيم التي تشدد على معاني الحرية والـــديمـــوقراطية والكـــرامـــة الإنسانية والعدالة الاجـتـماعية ومحـاربة الفساد.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى