صفحات الناس

بانتظار عالم آخر/ سلمى الصايغ

 

 

تخيّل نفسكَ في مطعم، يدان غريبتان تمتدان من الخلف لتُغلقا عينيك، وأنتَ في ظلامك الدامس عليك أن تتكهن أسماءً. هذه شروط اللعبة، وكم يبدو هذا صعباً، مجرد تخيّله يفتح أبواباً في الذاكرة لم تكن تريد فتحها، وتعلم تماماً أنه سيصعب عليك إعادة إغلاقها لاحقاً. وكي تنقذ روحك، غالباً سيسارع وعيك إلى اختيار الجواب الوحيد الذي تعرفه، وستجد نفسك بسرعة تذكر اسم الصديق الوحيد الباقي.

لو تعرضت لهذا الموقف قبل الحرب، ربما ما كان اسمه مطروحاً أصلاً، ببساطة لأنك لم تكن تعرفه، كان مجرد وجه تلتقيه ربما صدفة في مهرجان الجاز، أو في يوم الموسيقا، أو في مهرجان السينما، أو في أمسيات «موسيقا عالطريق»، تعرف شكله ولكنك لا تعرف اسمه. أما الآن فقد أصبح كل عالمك، كل يومياتك ونشاطاتك تتمحور حوله، وإن غاب أو غبت أصبحتما وحيدين… حسنٌ إنها آية!

أعيشُ على هامش الحياة، أخشى الاقتراب من أي شيء وأي شخص، كل الأمور معلقة وكل المشاعر أيضاً كذلك. كجميع الأحزان التي لم تملهنا وقتاً لكي نحزنها، كذلك تجاربنا الكبرى، لم تمهلنا أي وقت كي نفكر بها وكي نعيشها بكل زخمها، لذلك فأنا أعيش الآن على هامش مشاعري ذاتها.

أُخلي سبيلي منذ عدة شهور، وإخلاء السبيل ليس مرحلة ولادة جديدة كما قد يخيل إليك، بل هو مرحلة هلامية، مرحلة لا شكل لها، كل نضالاتك خلالها قد تذهب عبثاً، بالعامية يقولون «لا معلق ولا مطلق»، إخلاء السبيل هو هاتين الـ«لا»تين.

الخروج صباحاً للذهاب إلى عملي هو مغامرة، مروري على الحواجز وأنا أفكر: ارتدي أجمل ابتساماتك، لديكِ هوية سحرية، ابتسمي ولن تعودي إرهابية، ولن يعود من الممكن أن يخطر له البحث فيما بعد الهوية. أعبره فأفكر: مبروك، اليوم أيضاً رَبِحَت كل تناقضاتنا الجائزة الأولى!

أتابعُ الأخبار وانعكاساتها، لكل قرار أممي دور في تحديد مستقبلي، لكل قرار غير أممي دور في تحديد مستقبلي، أصغر وأتفه عنصر في أصغر وأتفه مجموعة له دور في صناعة قرارات تخصُّ مستقبلي، بإمكانه إلغاء المستقبل كاملاً إن شاءت القيادة، أي قيادة!

لا تعنيني أخبار التأشيرة الأميركية، لا يعنيني إن فات موعد التقديم على أي منحة أو فرصة، أنا أسيرة هذا البلد، كما أني أسيرة جلدي ذاته، لا أستطيع الخروج منه مثلما لا أستطيع الخروج مني.

نظرياً في يوم عيد ميلادي كنتُ أعيشُ حياتي كأي أنثى سورية في الرابعة والثلاثين، عملياً كان لدي موعد مع القضاء في يوم عيد الحب.

الحب… أتخيله أمامي، أعرف شكله وصوته ورائحته ومزاجه، أعرف أي النكات ستضحكنا معاً، والأهم أعرف أني سأستطيع البكاء معه، نعم! سأحبُّ شخصاً يمكنني أخيراً أن أبكي معه. غريبٌ شرط الحب هذا، لكنه حبيبي، هكذا هو، يطلق العنان لدموعي.

إن لم تكن قادراً على تحمل مزاج أنثى سورية ثلاثينية، فأنا أفهمك تماماً ربما أكثر مما أفهمني، إنها لعنة هذا الجيل من السوريين، لعنة جمعية، لا نملك فعل أي شيء حيالها. لكن حتى أمور القلب محكومة بالقرارات ذاتها، خلف جدران المحكمة توجد مفاتيح كل القرارات، حتى مفاتيح القلب، رومانسية جدران هذه المحكمة أكثر حتى من كمية الرومانسية التي يحملها اسمها!

العسكري على الحاجز يعرف كل شيء عني، تاريخ ميلادي، اسمي واسم أبي واسم أمي، أسماء أجدادي. يعرف موعد استيقاظي والأيام التي خرجتُ فيها من المنزل مهرولة دون تناول قهوتي، وما إذا كنتُ قد نظرت في مرآتي هذا الصباح أم أهملتها ونفسي. يعرف أغانيَّ المفضلة وأي البرامج يضحكني، يعرف مرضي وصحتي وربما حتى موعد دورتي الشهرية!

أما أنا فلا أعرف عنه إلا أنه يبحث عني على الفيس بوك ولا يجدني.

على الحاجز الآخر عسكري «حردان»، تشاجرنا منذ مدة لسبب تافه وارتدى من حينها وجه عاقدِ الحاجبين.

نعم! بإمكاني تعنيف العسكري على الحاجز في حال قام بإمرار سيارة قبلي، أنوثتي ووضعي الاجتماعي يعطياني الحق بالصراخ الهستيري أحياناً. «هرمونات!»، قد يفسّرُ زميله.

بالمقابل بإمكان العسكري نفسه تعنيفي كما يحلو له إن صادفني في نَظَارَة المحكمة، يعنفني على نظراتي، على همسي، على العقد الظاهر في رقبتي، أو… على لون عيوني!

بإمكاننا ممارسة التعنيف المتبادل ولعب الأدوار المختلفة ما شئنا طالما أن كلانا بقي هنا!

تعود الحياة للمدينة رويداً رويداً، تختفي التدرجات الرمادية لتحلَّ محلها ألوانٌ أخرى لا تبدو حقيقية، أخشى أن تمحوها أول أمطار الخريف. الخريف، لا أدري، بدأتُ أحنُّ إلى سجن عدرا مع أول أيام الخريف، هل يا ترى لعدرا «وش بيذكّر بالخريف»؟

المهم… منذ أن بدأتُ أعي ظهور تلك الألوان الأخرى، بدأتُ أخاف، أخاف أن تنشب «الحياة الطبيعية» مخالبها في الذاكرة، أخافُ أن أبدأ البحث عنهم في شوارع المدينة، أن أعي فقدانهم. ولكن الشعور الطاغي هو الغضب، نعم أنا غاضبة، غاضبة من فقدانهم، غاضبة من كل ما جرى وما كان، وغاضبة من نفسي، من مجرد تخيلها تشتاقُ الألوان وتعيشُها وهم ليسوا هنا. بدأتُ أصفُ علاقتي بالمدينة بالـ «كومبليكيتد»، هذا الحب الأكبر في حياتي بدأ يخنقني، ليس الاعتقال هو ما جعلها كذلك، ليست كل تجارب الفقد والخيبة والانكسار، ببساطة هو الإحساس بخيانتها، رؤيتها وهي تستعيد ألوانها بعد أن أسقطت كل ريشنا وأدواتنا.

ماذا يوجد وراء الموت؟ «ما حدا راح ورجع خبّر!»، لا أظن أنه يوجد كائن بشري ينتمي لدول العالم الثالث ويتجاوز عمره العشرون عاماً لم يخطر له هذا السؤال لمرة واحدة على الأقل، ليس أننا جميعنا نمتلك نوايا انتحارية جدية، ولكن التفكير في الأمر، بالأحرى التفكير بالانتقال الوحيد المتاح دون أي تعقيدات لاحقة (طبعاً قد يكون الوضع اللاحق أعقد مما تعتقد، ولكنكَ لن تكون موجوداً لتحمّل التبعات) يبدو مغرياً.

ماذا تعني دول العالم الثالث؟! حقيقةً حتى اللحظة لا أعلم إن كنتُ أرغبُ بالعيش في دول العالم الأول، أرغبُ بالعيش في عالمٍ ثانٍ، بعيداً عن أي ترقيم ممكن، عالمٍ آخر. لم أصل جدياً لمرحلة الرغبة في «العالم الآخر»، هو حتى الآن مجرد عالمٍ آخر، هلامي ولا شكل له أيضاً، ولكنه لا يشبه إخلاء السبيل بأي حال من الأحوال، هو فقط مختلف، حتى أنني تجاوزت مرحلة الرغبة بتشكيله.

بصراحة، أنا ليست لدي حتى الرغبة الجدية في السعي إليه، جلُّ ما أتمناه أن يسعى هو إلي، ويجدني بانتظاره وأنا أقضم أظافري على سريري، وأتأمل الحائط المقابل له مُفكرةً بكل ما جرى وما كان.

موقع الجمهورية

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى