مراجعات كتب

بجعة بيضاء في مياه بحيرة «العمل الشيوعي» العكرة

 

 

ملحم شاوول

دلال البزري في كتابها سنوات السعادة الثورية تستعيد سيرة حزبية نصف واقعية، نصف متخيلة، تغدو الوقائع الذاتية مظاهر عامة. الكتاب مؤلف من فلاشات، من خلطة، تشكل في مجموعها لوحات انطباعية

في ذاكرتي كانت تجمع الكاتبة في شخصيتها كل خصائص المناضلة اليسارية التي تبنت مشروعًا هو بحدﻩ الأقصى تحرير كامل فلسطين وتغيير العالم وبحدﻩ الأدنى مشروعاً لتغيير المجتمع والدولة في لبنان.

هذه الصورة عنها وعن محيطها مطلع سبعينيات القرن الماضي أسمتها سنوات السعادة الثورية، مضيفة اليها جانبا عرفته عنها لاحقًا عندما لم أعد ألتقي بها، ألا وهو الكتابة (في الصحافة وفي كتابة مؤلفات علمية وفي تدوين خواطر وتجارب وسير مختلفة)، وكنت أستمتع بكتاباتها التي شكلت الوسيلة الأساسية لاستمرار التواصل عن بُعد في ما بيننا.

تستعيد البزري في هذا الكتاب سيرة حزبية تقول إنها «نصف واقعية نصف متخيلة. قدر منها حقيقي، مسجل في الوقائع التاريخية، والآخر، هو السياقات، الممكنة، المتخيّلة». وتحتاط لمن يخطئ في تحديد هوية النص، وتُسارع لنزع عنه بعض التصنيفات، فهو برأيها: ليس عن الذاكرة، ولا عن الحنين. ولا هو مذكرات أو ذكريات، أو شهادة تاريخية، أو سيرة ذاتية. ولا هو بطبيعة الحال رواية، كما نعرفها.

كوكتيل

ولكن… هذا الكتاب هو كل هذا فعلاً! إنه «كوكتيل (خلطة) من صنع دلال وبنكهة أسلوبها.

ثلاثة أمور أستسيغها في نمط كتابة دلال: سلاسة الصيغة، المنطلق الذاتي والشخصي من تجارب حية ومعيشة، وجعل الوقائع «الذاتية» مظاهر عامة ومسارات سوسيولوجية. لديها مقدرة خاصة على تحويل الملاحظة والانطباع إلى خلاصة تحاكي علم الاجتماع، وفي حالة هذا الكتاب، علم التاريخ.

الإخراج النهائي لهذا العمل يأخذ شكل لوحات شاءت الكاتبة أن تسميها «فلاشات». لكني بعدما فرغت من قراءتها، وجدتها عبارة عن لوحات انطباعية تم دهنها بضربات قلم كأنها ضربات فرشاة.

فمن هي شخصيات هذه اللوحات وما هي الأحداث التي ما زالت تدغدغ ذاكرة المؤلفة وتشد على يدها كي تُخرج نصًا مثل هذا النص؟

السعادة الثورية

من هم كسبة «السعادة الثورية»؟

إنهم عشرينيو مطلع سبعينيات القرن الماضي، جيل دلال البزري، الذين نظروا إلى أنفسهم بصفتهم مثاليين إلى حد المكابرة ونظر الآخرون إليهم بأنهم سذج، حالمون. وتبين بعد سني التجارب، الفاشلة في غالبيتها، أنه بمقدورهم أن يكونوا بمنتهى الواقعية حتى حدود «السينيسم» (cynisme) والعبثية. تنكشف طينتهم النضالية من السطور الأولى: اندفاع، حماسة، روح الحرية والعدالة، ثقة بالرفاق وبالقيادة، وأهم من كل هذا إرادة قوية وطاقة على الاستيعاب. لكن… بالمقابل تظهر في سياق تسلسل النص طباع كامنة لدى هؤلاء المناضلين وخصوصًا المناضلات: التمرد، كره كل أشكال السلطة بما فيها «سلطة الرفاق»، إيمان «بالخط السياسي» و «بالمشروع التنظيمي» لكن عدم «تمرير الشواذات والمفارقات والتناقضات»… لذلك يتهاوون، ينفصلون، ينشقون ويختفون.

عادت الذاكرة لترسم أشخاصًا وتستعيد بناء شخصياتهم نفسيًا وعاطفيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، وخصوصا عوالمهم الخفية التي تحدد سلوكهم. ويخرجون بصورة تشبه الكاتبة وتتمايز عنها في آن. حركة تجمع بين قوالب الجماعة وتمايز الفرد، حركة التجانس المرجو ومعها حركة التمايز القائم. وعلى ما نعلم كانت هذه الدينامية تطبع التنظيم بمجمله: تركيب تجانس داخلي قائم على إرساء طقوس وعادات وتقاليد جديدة خاصة به والتمايز، ليس عن المجتمع «البرجوازي» فحسب، بل عن مجمل الجماعات اليسارية والماركسية والشيوعية.

في فعل الاستعادة هذا قامت دلال البزري بلملمة الشخصيات التي كانت تريد الخروج عن الأهل وبناء مجتمع جديد، مقاوم، عادل، مساواتي، اشتراكي وشيوعي، إلى جانب إنجاز تحرير كامل فلسطين. فها هي تتآلف مع «ميكروكوزم» (صورة مصغرة) لجميع فئات المجتمع اللبناني: الطوائف والطبقات الاجتماعية والمناطق والمدن الساحلية والمجتمعات الريفية.

من كل محيط اجتماعي يخرج فرد لينضم إلى مجتمع اليسار «الحقيقي» من خلال حلقة من حلقات التنظيم. إﻨﻪ (وإنها دلال أيضًا) نفر يؤهل نفسه لمغامرة الاقتلاع الذاتي من وسطه والاندماج في مشروع التنظيم الذي سوف ينمو ليصبح «الحزب المنتظر».

سِيَر

تعود اليهم «الرفيقة» لتزورهم من جديد بعيون باحثة ممتهنة ومتمرسة تعيد صياغة السيرة والمسار. كل فرد في المدينة له قصة حميمة وله مسار سياسي انتهى به إلى هذا الالتزام. كل لوحة من لوحات دلال البزري العشرين رسم لشخصية أو اثنتين إلى جانب الحضور الثابت «للمسؤول» ورواية لمهمة نضالية من حواضر المألوف (تظاهرة، توزيع بيان، جباية تبرعات للعمل الفدائي أو تدريب عسكري في مخيم، ناهيك عن الفروض التثقيفية في الإيديولوجيا الماركسية)، تتأرجح بين الجدية والطرافة.

نلتقي تدريجًا بهذا الذي استشهد أخوه في مواجهات مع الجيش وتلك الآتية من وسط عائلي مفكك من شمال لبنان إلى جانب بروفيل المناضل اليساري «المتطرف» الكلاسيكي: أي ابن البورجوازي الثري، المثقف، المشبع ثقافة ولغات أجنبية وعلى خلاف ونزاع مصيري مع أبيه وإخوته وسائر محيطه الاجتماعي. ونكتشف أيضًا جرأة البنات المناضلات التي يمكن أن تصل إلى حد الوقاحة. «بنت الأشرفية» القادمة من وسط اجتماعي ميسور تتحول عاملة في مصنع أغذية في عطلة الصيف لتجند الطبقة العاملة في المشروع الثوري. تثبت ذاكرة دلال أﻨﻪ كان هناك نموذجان للنمط النضالي المثالي الأعلى تقاس عليهما «جدية» المناضل القاعدي: الطاقة على التمحور حول الطبقة العاملة والقدرة على التمحور حول مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وصولاً إلى الانخراط في الكفاح اﻟﻤﺴﻟﺢ. وتتمكن الكاتبة من أن تغمسنا في أجواء التوتر العالي بين الرفاق الذين يأخذون بجدية كبيرة الممارسة السياسية وفق هذين الاتجاهين ومن لا يأخذون على محمل الجد هذه التوجهات ويتمحور هؤلاء في صفوف القيادة والمسؤولين.

يبدو في التعيين الأخير، بعدما انكشف تعقد النضال السياسي وتعثره، أن الوظيفة الجاذبية غير المباشرة للتنظيم بالنسبة إلى هؤلاء الشابات والشبان هي وظيفة ثقافية فكرية من جهة وإعادة تكوين الذات لبناء علاقات «ثورية» أفقية بين الرفاق خارج الأنماط السائدة من جهة ثانية. بمعنى آخر، العمل على تغيير الذات في سياق تغيير المجتمع على المدى الطويل.

من هنا نرى أن المنتمين إلى حلقات التثقيف يبذلون جهدًا مضنيًا للتثقف ماركسياً وأيضاً في جوانب مختلفة من الثقافة الغربية التي كانت المجال الطبيعي لتطور الفكر الماركسي. المسرح، السينما، الموسيقى، الفن، الفلسفة التحررية، الخ. واللافت أنه تم إسقاط النموذج التربوي الذي كان يضم غالبية مناضلي تلك الحقبة من أساتذة وتلاميذ في الثانويات الرسمية والخاصة في داخل التنظيم، حيث أعيد إنتاج العلاقات العمودية تربويًا وتثقيفيًا بين «مسؤول/ أستاذ» و «مناضل قاعدي/ تلميذ»، وكلما يترتب على هذه العلاقة من توﺘﺭوتمرد وإعادة نظر.

أما في ما يخص «تغيير الذات» وفي كنف المدينة/العاصمة، فالمقصود أساسًا «العلاقات الحميمة». من مقاييس «التحرر الذاتي» خروج المناضل عن العادات والتقاليد المحافظة التي تطبع علاقات الشباب بالبنات والقبول بمبدأ وممارسة علاقات متحررة. وفي الحالة هذه كان يأتي فرويد وسارتر لنجدة ماركس لإقناع الرفيقات بأهمية قيام علاقات حميمة وفق نموذج سارتر ودو بوفوار… وإن لفترة، قبل الزواج غالبًا وفق قانون الطائفة وأحيانًا مدنيًا في قبرص.

مشوارنا التذكري هذا مع دلال البزري البجعة البيضاء على مياه يسار القرن الماضي، يطوي صفحة أولى من صفحات تاريخ خيالي صحيح، صنعه جيلها وكان هو صَنيعته.

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى