صفحات سورية

بحثاً عن بقايا ضمير بشأن سورية/ ريما فليحان

 

 

لم يكن من الحكمة يوماً ما أن نصدّق أنّ آلافاً خرجوا إلى الشوارع، في معظم الدول العربية، ليتظاهروا ويطالبوا بإسقاط النظام. ولم يكن، أيضاً، مألوفاً أو قابلاً للتصديق سماع ورؤية رئيس دولة عربية يعلن، على الملأ، أنه لم يكن “ينتوي” الترشح لولاية رئاسية جديدة، تحت ضغط المتظاهرين في أحد ميادين العاصمة.

ما كان مألوفاً وقابلاً للتصديق فقط هو ما حصل في سورية، لأن المواطن في هذه البقعة من العالم يدرك، تماماً، أن خروج الناس إلى الشوارع خارج مسيرات التهليل والقرقعة، يعني مباشرة الاعتقال والقصف والتصفية، وعلى الرغم من أن هذه الحقيقة الراسخة عبر الوقائع التاريخية المثبتة، وليس النظريات، تعتبر من البديهيات في ذهنية قاطني هذا الجزء من العالم، إلا أن عقول كثيرين من سياسيي المنطقة ومثقفيها ما فتئت تتفتّق عن نظرياتٍ تبدأ من المؤامرة على النظام العروبي القومي الممانع، المتمثل بالأسد الابن هنا، ولا تنتهي بارتباطها بالماسونية العالمية والإعياء في بحث عن مؤيدات لتلك النظرية.

نعم، أعترف أن المسائل في سورية تأزّمت، واختلط الحابل بالنابل، وباتت الثورة تصارع للحفاظ على بقايا نبض بين سندان النظام والتطرّف من جهة، ومطرقة التدويل والتدخلات الخاطئة من جهه أخرى.

لكن، ما لا يسعني، أبداً، أن أتفهّمه هو التواطؤ الكامل على دمنا. لا يمكنني أن أفهم، مثلاً، أن 1507 من الناس، أكثر من نصفهم أطفال، قضوا نائمين، بينما كانوا يستنشقون الموت في الغوطة، قبل عام، بعد ضرب تلك المناطق بالسلاح الكيماوي، ثم تسير الحياة كالمعتاد، ويبقي أبواق النظام، من مثقفي العالم العربي، أفواههم مفتوحة لدعم القاتل، بل يزدادون وقاحة في اختلاق سيلٍ من أكاذيب يعجز عن قبولها هواة أفلام الخيال العلمي والأطفال، وأقصد الأحياء منهم.

لا يمكنني أن أتفهّم أن جزءاً من هؤلاء المناضلين القدامى في دول المنطقة باتوا يدافعون عن القاتل، ويرحّبون بجرائمه، ويتناسون تاريخه الديكتاتوري المليء بممارسات بشعة، طالت حتى بعضهم يوماً، بل وقضى بعضهم شهوراً في سجون اعتقال الطاغية الأب.

تمر المنطقة، اليوم، بخطر داهم قد يعني تفكيك المجتمع والدول، وإحداث شرخ حقيقي، يحتاج زمناً طويلاً لإصلاحه، إن كان قابلاً للإصلاح، ويحتاج تآزر كل المكونات المجتمعية والسياسية والثقافية، إن كنا نريد فعلاً منع الإمعان في تفتيتنا.

“ترك الانشقاق الذي حصل في المسألة السورية بين المثقفين العرب أثراً كبيراً بالغ الأذى على الرأي العام العربي والعالمي، ولدى السوريين، وساهم في تعقيد الحالة السورية، وتشتيت النظر عن وجع السوريين ودمائهم وتطلعاتهم المشروعة للديموقراطية والحرية والتعددية والمدنية”

ولكن، علينا أن ندرك أن هذا الخطر لا تتحمّل مسؤوليته الثورات، بعمقها المعنوي والفكري والشعبي، لأنها جاءت ارتكاسة طبيعية لسنوات طويلة من القمع والظلم، ولأنها تأتي ضمن السياق التاريخي للأمم وانتفاضاتها في وجه الأنظمة الديكتاتورية.

مَن يتحمّل وزر هذه المرحلة هي الأنظمة الديكتاتورية التي استدرجت كل تلك الفوضى، بسياسة العنف والإقصاء، والمجتمع الدولي الذي أخطأ في سياسته وتعامله مع ما يحصل في سورية، كما سبق وأساء وأخطأ بحق الشعب الفلسطيني، عبر دعم سياسي تاريخي منقطع النظير للصهاينة، والذين كان وجودهم في المنطقة ككيان نتيجة، أيضاً، لسياسات خاطئة في المنطقة، بدأت بوعد بلفور.

نتحمّل جميعنا جزءاً من مسؤولية ما يحصل، بغضّ النظر عمّا إذا كنّا معارضين للأنظمة أم موالين لها، لكن، مَن يتحمل المسؤولية، الآن وفي المستقبل، هم السلبيون من تلك الشريحة التي كان من المنطقي التعويل عليهم، لرفع حامل الوعي والفكر والتنظير، بالمعنى الإيجابي لثورات الربيع العربي، لمنع انزلاقها مثلاً، أو تعثرها، أو وقوعها بأي أخطاء، بدلاً من الإطلال عليها من علِ.

نعم، هناك مثقفون ومناضلون عديدون وقفوا، بإخلاص، إلى جانب انتفاضات الشعوب ضد الديكتاتوريات في ثورات الربيع العربي، وكان لهم دور مشرّف في الاضاءة على ألمنا كشعوب، ونقد الأخطاء وتصويبها. ولكن، ترك الانشقاق الذي حصل في المسألة السورية بين المثقفين العرب أثراً كبيراً بالغ الأذى على الرأي العام العربي والعالمي، ولدى السوريين، وساهم في تعقيد الحالة السورية، وتشتيت النظر عن وجع السوريين ودمائهم وتطلعاتهم المشروعة للديموقراطية والحرية والتعددية والمدنية. وهنا، أتحدث عن ثورتنا البكر التي ولدت، في البداية، بإرادة السوريين، والتي أرادت السلمية والتغيير، قبل أن تعبث بها أيادٍ كثيرة، عدوّة وصديقة وشقيقة، بقصد أو بدونه، وقبل أن تحيلها إلى عشرات الرؤى، وقبل أن يدخل سارقو الثورات من المتطرفين على أجندة السوريين، من أجل تعقيد إضافي يستفيد منه النظام السوري، كما يستفيد منه التطرف، ونخسر به جميعاً على المستويين الوطني والإنساني.

وعلى الرغم من أن السيناريو الذي حصل في سورية، بما يعنيه من سلوك الأسد وأجهزته تجاه الثائرين، كان الأكثر منطقيةً، مقارنةً بسلوك عائلة الأسد تاريخياً في وجه أي تحرك معارض، الا أن هؤلاء، وأقصد الشريحة السلبية من النُّخَب التي وقفت إلى جانب الديكتاتور، تبنّوا نظرية الإنكار التي سوّقها النظام السوري، في إعلامه المسيّس بأجندة أجهزة الاستخبارات، وما تلا ذلك من تخوين المتظاهرين، وربطهم بمؤامرة كونية على بشار الأسد، القائد الفذّ الخارق، إلخ. والذي لا يمكن للسوريات إنجاب مَن يخلفه، فهو القائد “الأبدي” الجديد، بعد موت “الأبدي” السابق.

ما زال الدم السوري مباحاً للجميع، فبين قاطعي الرؤوس وقاذفي اللهب والبراميل المتفجرة عامل مشترك، هو الدماء المسفوحة والبريئة لنساء وأطفال ورجال، كانت لكل منهم ابتسامة وفسحة من حياة قبل أن تُنْتَهب، ولأن الدم السوري ما زال مباحاً ومهدوراً من الجميع، فإنني أناديكم، أنادي بقايا ضمير وفكر حقيقيين، ينتميان للإنسانية والشعوب، ولا يلحق ظلال الطغاة، ألا هل تنتصرون لإنسانيتكم؟

العربي الجديد

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى