صفحات مميزةمعتز حيسو

بحث في واقع المعارضة السورية: معتز حيسو

    معتز حيسو

    لقد فشلت المعارضة السورية في لملمة أشلائها المبعثرة والمتناقضة. فهي حتى اللحظة لم تستطع إيجاد آليات تكون قادرة بموجبها على ضبط وتأطير الحراك السوري. ولم تنجح في إيجاد جسور وروابط مع القوى والفئات المجتمعية. إضافة إلى عجزها عن إيجاد آليات عمل وأطر وبرامج سياسية تقنع المواطن بأنها يمكن أن تكون بديلاً ديمقراطياً. فهي تعاني جملة من الإشكاليات التي ساهمت في إعاقة وإجهاض التغيير الديمقراطي: انقسامها على ذاتها، انسداد أفقها السياسي،عدم امتلاكها خطاباً وطنياً جامعاً، النخبوية وتضخم الأنا الذاتية، افتقاد(بعض) من قادتها للعقلانية والموضوعية السياسية، عدم بروز قائد سياسي يحظى بإجماع شعبي، عدم امتلاكها برنامج ديمقراطي واضح ومحدد، عجزها عن وضع استراتيجية واضحة للتغيير الديمقراطي، تبعية وارتهان غالبية قادتها الموجودين في الخارج إلى حكومات عربية وإقليمية وغربية تتناقض مصالحها مع مصالح الشعب السوري، خضوعها إلى المال السياسي، إن محاولة اكتساب بعض قيادات المعارضة للشرعية من الدول الداعمة أفقدها السمة الوطنية وعمّق الفجوة بينها وبين المجتمع، وقد ساهم تحالف بعض قوى المعارضة مع الحركات الجهادية والتكفيرية في رفض فئات اجتماعية واسعة لها. وأياً تكن التناقضات التي تعاني منها المعارضة، فإن البنية الأمنية والقهرية للسلطة المسيطرة كان لها تأثيراً واضحاً على بنيتها وأشكال تجلياتها السياسية. أن آليات عمل ووعي قوى المعارضة تتجلى في كثير من اللحظات وكأنها ذات السلطة السائدة، أي أنها تتماهى مع بنية وشكل تجليات السلطة المسيطرة. ونؤكد أن التناقضات الذاتية والداخلية للمعارضة تشكّل تعبيراً عن بنية العقل الاجتماعي السائد، الذي لم تستطع النخب السياسية والثقافية أن تقطع معه في سياق بناء وعي ديمقراطي وآليات عمل ديمقراطية. إن الفكر السياسي المعارض والرسمي المسيطر وحتى أشكال التجليات الثقافية والسياسية، يُعتبر نتاج بنية ثقافية وبنية وعي اجتماعي متخلف، لا يمكن تجاوزه إلا في سياق تطور موضوعي عام وشامل.

    إن التنوع والتناقض الذي تتسم به تشكيلات المعارضة السياسية، ليس شيئاً طارئاً،كونه أحد إشكالاتها التاريخية. لكن حدة التناقضات البينية وصلت إلى درجة تهدد استمرار وجودها الذاتي، وتهدد بانقطاع تواصلها مع المجتمع الذي هو بالأساس ضعيف. وهذا يفقدها جذرها الاجتماعي والحوامل الاجتماعية التي تشكّل قوى التغيير المادية. إن انقطاع العلاقة بين القوى السياسية و القاع الاجتماعي يجعلها معزولة عن محيطها الاجتماعي، بالتالي تصبح غير قادرة على التأثير في المجتمع، وتفقد دورها التاريخي في التغيير السياسي. وهذا يفتح الباب أمام القوى المتطرفة التي تجنح إلى الخيار العنفي المدمر للتنوع الاجتماعي. لقد بات واضحاً بأن غالبية المجتمع السوري بدأت تفقد الثقة بالمعارضة السياسية وتحديداً الخارجية لأنها تحولت إلى مطية بيد الدول الداعمة التي تعمل على وضع الأزمة السورية في طريق مسدود،وتساهم في رفع حدة العنف الذي لا يحمل أية أبعاد وطنية وديمقراطية.

    إن التزايد العددي غير المبرر للقوى السياسية المعارضة يساهم في إضعاف وتشتيت جهودها، في لحظة يحتاج فيها الشعب السوري إلى معارضة موحدة أو في أدنى الحالات قوى سياسية تعمل في أطر تحالفات تعتمد التنسيق والممارسة الديمقراطية في سياق أهداف سياسية محددة وواضحة. أن خضوعها لـتأثير المال السياسي و تشتتها ساهم في إفسادها وتحويلها إلى سلع في أسواق المال السياسي، وإلى أبواق وظيفية مفرغة من مضامينها الديمقراطية وأدوات تتلاعب بها قوى دولية.كذلك فإن ارتهان بعضاً من قاداتها إلى قوى دولية غير ديمقراطية، ينعكس سلباً عليها وعلى آليات وسيناريوهات التغيير.

    فيما يتعلق بمعارضة الخارج وتحديداً الائتلاف الوطني والقوى التي تدور في فلكه، فإن عجزها يعود إلى جملة من الأسباب والعوامل الذاتية والداخلية والدولية. ومع إن التناقضات والتشوهات الذاتية تشكّل السمة العامة لكافة أطياف المعارضة، لكنها أكثر ما ظهرت في إطار الائتلاف الوطني، وقبله في صفوف المجلس الوطني. و مرد ذلك إلى غزارة المال السياسي والتجاذبات الدولية التي حولت المجلس ولاحقاً الائتلاف إلى أدوات سياسية مرتهنة إلى المواقف الدولية والإقليمية المتناقضة والمتواطئة. وقد انعكس هذا على آليات عمل وتفكير أطراف معارضة الخارج بشكل عام، ووضعها في كثير من اللحظات في تناقض واضح وصريح مع مصالح وميول وإرادة الشعب السوري. وهذا يهدد بتشظي وتحلل وحتى انفجار الائتلاف على ذاته. لكن حتى اللحظة تساهم الأطراف الدولية ( قطر السعودية تركيا مصر فرنسا بريطانيا الولايات المتحدة…) في المحافظة على بقاءه. إن عجز المجلس الوطني وانكشاف فضائحه المالية مكّن أمير قطر من الضغط على قيادات المجلس لتشكيل الائتلاف، فالعجز السياسي الذي يعتمل في صفوف المجلس والائتلاف، لا يعود فقط إلى التناقض والتباين السياسي أو إلى خلافات شخصية أو إلى هيمنة الإخوان المسلمين .. رغم وجود كل هذه العوامل، لكن المال السياسي والتناقض الدولي كان وراء معظم التناقضات السياسية. لقد بات واضحاً أن قيادات الائتلاف المرتهنة في قراراتها للدول الداعمة، يشكّل السبب الأساسي في ازدياد حدة التناقضات التي تهدد بانهيار كيانية الائتلاف الذي تحوّل في سياق التناقضات الدولية إلى واجهة إعلامية و أداة وظيفية بيد الدول الداعمة. إن التأثير الدولي على سياسات الائتلاف ودعمها قيادات إسلامية وقوى تكفيرية جهادية يتم في سياق تغييب ومحاربة القوى السياسية العلمانية واليسارية والليبرالية … وهذا يدلل على ما ترسمه هذه الدول لمستقبل سورية.

    ولم يعد خافياً الدعم القطري والسعودي للجهاديين والإخوان (مصطفى الصباغ،علي صدر البيانوني،محمد فاروق طيفور محمد رياض الشقفة، أحمد رمضان ..). فالكيانات الإخوانية التي تتزعمها هذه الشخصيات تهيمن على غالبية مقاعد الائتلاف. ومعلوم بأن الدول الداعمة لهذه الكيانات تفتقد للديمقراطية، وتحارب أدنى أشكال الحريات السياسية داخل دولها، وهذا ينعكس على الحراك السوري وعلى مستقبل سورية. لقد بات واضحاً كيف تم تعيين ممثل الأخوان السيد غسان هيتو رئيساً للحكومة المزعومة من قبل الدول الداعمة للائتلاف والمهيمنة عليه.أما الدكتور برهان غليون و الدكتور جورج صبرا والسيد عبد الباسط سيدا لم يكونوا أكثر من واجهات سياسية وإعلامية لإخفاء الوجه الإخواني للمجلس ولا حقاً للائتلاف. و يعلم الجميع أن تعيين جورج صبرا في رئاسة المجلس، وغسان هيتو رئيساً لحكومة لن تتشكل، وأخيراً تعيين الدكتور جورج صبرا في رئاسة الائتلاف بعد استقالة السيد أحمد معاذ الخطيب لم يرقى إلى أدني المعايير الديمقراطية. إن التباين والتناقض الدولي في استتباع أطراف الائتلاف وأيضاً في دعم وتمويل كتائب الجيش الحر والكتائب الجهادية أدخل المجتمع السوري في مستنقع يصعب الخروج منه. إن زيادة ثروة من يدّعي تمثيل الشعب والمعارضة والثورة.. لم يعد مرهوناً فقط بتجريدها من أية مضامين وطنية وديمقراطية، بل بمدى دعمها لتأبيد العنف، فمن يغتني على حساب دماء السوريين،لا يحق له أن يتكلم باسم الشعب السوري ولا حتى أن يدّعي الدفاع عن مصالحه، لأنه لا يرى من سورية والسوريين إلا مطية وجسر عبور لتحقيق الثروة والمناصب. لقد سأم السوريون من هكذا قيادات، لأن دعمها لاستمرار الصراع لا يعبّر عن مصالح الشعب. ولهذا فإن هذه القيادات كانت وما زالت ترفض كافة الدعوات التي تطالب بإيقاف العنف كذلك المبادرات الداعية لحل الأزمة سياسياً. لكن التناقضات الدولية ورفض السلطة السياسية أي حل سياسي ديمقراطي، وأيضاً تعنّت قيادات المعارضة الخارجية المتعيّشة على الأزمة السورية، كانت تحول دون التوصل إلى أي حل سياسي يحقن دماء السوريين، حتى تحوّل من يطالب بوقف العنف إلى عميل للنظام وإلى خائن للشعب و(الثورة). لكن ليعلم الجميع بأن الحراك الثوري الذي دفع من في الداخل من أرواحهم ودمائهم لتحقيق أهدافه هو ملك الشعب وهو من يقرر كيفية إدارته، ولا يحق لكائن من كان أن يبيع ويشتري باسمه.. فالشعب السوري يرفض هكذا معارضة لأنها لم ولن تنتج إلا مزيداً من الاستبداد والقمع والفقر، ولأنها لن تكون إلا صورة مشوهة عن النظام ، بل أكثر تخلفاً، كذلك يرفض ما يقوم به النظام من قمع وقهر.. فالشعب يريد إيقاف القتل المجاني، ولن يقبل أن تحكمه قيادات يفرضها الغرب وحلفاءه .ويرفض الاقتتال الطائفي وكذلك الجهاد الذي تقوده أطراف موغلة في التخلف. ولأن السوريين يعتنقون دين الله الحق فإنهم يرفضون كافة أشكال التطرف والعنف الديني، ويرفضون أن يحكمهم التكفيريين باسم الله. إن الشعب السوري يناضل من أجل التغيير الديمقراطي، لكنه يرفض العنف، ويرفض أن يستبدل نظاماً قمعياً بآخر أكثر قمعاً وتخلفاً. إن تحوّل بعض رموز معارضة الخارج إلى مشعلي نار الفتنة الطائفية والمذهبية، ساهم في تحويل الصراع إلى صراع سني شيعي.

    فيما يخص الحركات الجهادية التكفيرية فإنها تنتمي إلى عصور الانحطاط الفكري، وتنقسم القوى الإسلامية إلى فريقين: الإخوان المسلمون ويقودون المعارضة الخارجية، ويسيطرون على «المجلس الوطني» و«الائتلاف»، والمجموعات المقاتلة على الأرض بايعت تنظيم القاعدة.

    أن بنية الحركات الجهادية العقلية القائمة على ثقافة العنف التكفيري الإستئصالي، تتناقض مع البنية الثقافية والسوسيولوجية للمجتمع السوري القائم تاريخياً على تنوع اجتماعي يرفض ثقافة العنف والتعصب والأصولية السلفية أياً كان جذرها الثقافي والعقائدي وأشكال تجلياتها العيانية. إن هذه المجموعات لا تصنف ضمن قوى المعارضة السورية، لكن وجودها على الأرض السورية وتأثيرها في مجرى الأحداث يستوجب توضيح دورها وتأثيرها على قوى المعارضة وعلى مستقبل سورية، وهذا يقتضي بالضرورة تحديد موقف سياسي منها.

    إن الرفض الشعبي للفكر الجهادي التكفيري، يؤكد استعداد المجتمع السوري لمواجهة المجموعات الجهادية التي تستخدم العنف التكفيري المسلح لفرض مشروعها على المجتمع. وهذا يجعلنا نطمئن نسبياً إلى أن مستقبل سورية لن يكون إلا مدنياً وديمقراطياً. لكن استمرار الصراع يزيد المخاوف من إمكانية حدوث صراع طائفي. وهذا يستدعي من كافة الفئات الاجتماعية و قوى الحراك الديمقراطي تحديد موقف واضح وصريح من هذه المجموعات. إن وجود هذه المجموعات على الأرض السورية، واعلانها للجهاد في سورية من أجل إقامة دولة الخلافة، يؤسس إلى صراع طائفي اثني ومذهبي طويل الأمد، و يهدد مستقبل سورية واستقرارها وتطورها الديمقراطي. إن إدعاء النظام محاربة الإرهاب التكفيري صحيحاً من جانب، لكنه من جانباً آخر يتم توظيفه من أجل إجهاض التغيير الوطني الديمقراطي وإغلاق آفاقه المستقبلية. ولأن هذه المجموعات لا تمتلك أي مشروع سياسي ديمقراطي أو اقتصادي تنموي، ولأنها مدعومة من قبل أطراف دولية وإقليمية تهدف إلى تهديم كيانية الدولة السورية وتفتيت نسيجها الاجتماعي، ولأنها تحارب العقل والإبداع والحريات، فإن خطرها يكمن في فرض الجهل والتخلف والعنف الديني وثقافة الموت بديلاً عن ثقافة الحياة وإغلاق آفاق التطور الاجتماعي وإعادة المجتمع إلى أكثر مراحله تخلفا. لقد بات خطرها داهماً على الحريات الشخصية التي يجرى تأطيرها برؤية طرف سياسي واحد يحتكر تفسير الأحكام الإسلامية وانعكاساتها السلوكية في المجتمع وفي مجال الحريات، إن استبدال اتهامات «خيانة الدولة…» التي كان يطلقها النظام ضد المعارضة، باتهامات «خيانة الدين»، يدلل على احتكارهم تمثيل الله في الأرض. ولأنهم يحكمون باسم الله، ويحتكرون سلطة الدين ويكفّرون من يخالفهم، فإن من يعارضهم يعارض الله، وفي هذا تكريس لثقافة العنف والقتل على الهوية الدينية. وهذا يفرض على كافة القوى الديمقراطية الإسراع بإنضاج مشروع وطني ديمقراطي مدني يضمن التغيير الوطني الديمقراطي ويحقن دماء السوريين ويجنبهم أي شكل من أشكال الصراعات الطائفية.

    أن الأطراف السياسية التي تشكّلت في الخارج وتحديداً الائتلاف الوطني، منسلخة عن الواقع السوري، وتعمل على فرض هيمنتها الأحادية مدّعية تمثيل الشعب والثورة والمعارضة، إضافة إلى تخوينها لمعارضة الداخل. وقد حمّلت الحراك الشعبي مهمات على درجة كبيرة من التعقيد والصعوبة والتناقض. لكن رهانها على الغرب واشتغالها على اكتساب الشرعية من الخارج واستجدائها الدعم العسكري من دول متورطة في الصراع السوري ، وتعويلها على التدخل العسكري لإسقاط النظام، أفقدها مضمونها الوطني، وهيمنة الأطراف الإخوانية والسلفية على الائتلاف عمق أزمته ونزع عنه الغطاء المدني والديمقراطي.

    إن قبول بعض قيادات المعارضة الخارجية للدعم المالي من دول معادية لمصالح الشعب السوري، أفقدها الاستقلالية والمصداقية، وزاد من فقدان ثقة المواطن بها، وعمق الشرخ بينها وبين الشعب الذي يعاني أشد أشكال القمع والاضطهاد والقتل… وأصبح واضحاً أن سعي هذه القيادات للتفرد بالمال السياسي كان أحد أسباب تفاقم حدة الصراع والتناقض.

    لقد بات الجميع يدرك بأن تطرف معارضة الخارج وتمسكها بالخيار العسكري لم يكن لخدمة مصالح الشعب السوري أو تلبية لأهداف حراكه السلمي. بل كان من أجل المحافظة على مكاسبها المادية وأطماعها السياسية الخاصة المرتبطة بأجندات خارجية. كذلك فإن تمسكها بإسقاط النظام لم يكن من أجل تحقيق التغيير الديمقراطي أو من أجل إزاحة القمع والاضطهاد عن كاهل الشعب السوري.

    فيما يتعلق بمعارضة الداخل فإن عجزها عن مواكبة الحراك الشعبي والتعبير عنه سياسياً يرتبط بجذر أزمتها التاريخية. و تتجلى أزمة بعض أطراف المعارضة الداخلية ببقاءها في كنف السلطة، كذلك فإن بعضاً منها صنيعة النظام وتحديداً بعض من تشكّل منها في ظل الأزمة الراهنة. إن الهدف السياسي لهذه الكيانات هو تثبيت إدعاءات النظام بوجود تعددية سياسية. لكن هذا لا يعدو كونه تلاعباً سياسياً لا يعبّر عن التغيير الديمقراطي الذي يريده الشعب.إن ما تروج له السلطة من اصلاح يندرج في إطار التهرب من استحقاقات التغيير الديمقراطي وتأبيد احتكارها للقرار السياسي.

    لقد أفرز الحراك الديمقراطي ناشطين على درجة عالية من الكفاءة والاستقلالية. من جانب آخر فإن المعارضة التي تمتلك تاريخاً من النضال والوطنية والديمقراطية ما زالت تمارس نشاطها السياسي في الداخل متحملة كافة أشكال الاضطهاد والقمع، وهذه الأطراف لا تعمل وفق أجندات يفرضها النظام. بل تمارس نشاطها السياسي المعارض بدوافع وطنية، وبأشكال ومضامين ديمقراطية تعبّر عن أهداف الحراك الشعبي وتعكس معاناة الشعب. وقد حافظت هذه الأطراف نسبياً على ارتباطها بالحراك المدني ومع شرائح واسعة من المجتمع، وهذا أكسبها مزيداً من المصداقية.

    لكن اصرار بعض قيادات الائتلاف على شعارات متطرفة ومتحيزة، كان يهدف في أحد مستوياته إلى الضغط على المعارضة الديمقراطية الداخلية والمزاودة عليها وإحراجها أمام الحراك الشعبي. وقد ترافق هذا مع تغييب حكومات دول إقليمية وغربية لقوى التغيير الديمقراطي والمدني. وما زاد من تراجع فاعلية القوى الديمقراطية في الداخل، ليس فقط قمع النظام وملاحقته للناشطين والمثقفين وقيادات المعارضة، بل اشتغال بعض وسائل الإعلام على استبعاد رموز قوى التغيير الديمقراطي،في وقت تروج لقيادات الائتلاف وتقدمهم كممثلين للثورة والشعب والمعارضة، وتساهم في ابراز بعض الشخصيات التي تدعي المعارضة لكن تاريخ السياسي يناقض إدعاءاتها السياسية ..، ويرتبط هذا بموقف الدول الداعمة لهذه المحطات. إضافة لذلك فإن بعضاً من رموز معارضة الخارج يشوهون عبر وسائل إعلامية محددة صورة رموز المعارضة الوطنية الداخلية والقوى السياسية الديمقراطية التي تتمتع بتاريخ وطني ونضالي. ويزيد من حراجة موقف بعض قوى الحراك السوري صراعاتها للسيطرة على الموارد وبيع المصانع، مدفوعةً بأطماع نتجت عن القرار الأوروبي برفع الحظر عن شراء النفط من المعارضة، فضلاً عن انكشاف طبيعة القوى المسيطرة في مناطق المعارضة من خلال فتاوى الذبح الطائفي والسياسي. أن إشارات بعض أطراف المعارضة الإيجابية تجاه إسرائيل أدت إلى خسارتها ما بقي من ماء وجه، حتى أصبح توحيد خطابها أكثر صعوبة من تحقيق إنجازات ميدانية باتت تقتصر على عمليات التفجير داخل المدن.

    تعاني المعارضة الديمقراطية المدنية واليسارية تحديداً في الداخل ومن يمثلها في الخارج، ضغوطاً دولية وإقليمية تهدف إلى احتوائها. وهذا يصب في مصلحة الحركات الإخوانية، ويساهم في إبعاد الحراك الشعبي الوطني الديمقراطي السلمي عن أهدافه الحقيقية. إن دعم الأطراف الدولية والإقليمية للعنف بديلاً عن السلمية، والجهاد التكفيري بديلاً عن المدنية، ساهم في نشوء أزمة سياسية وطنية وديمقراطية في بنية الحراك، وبرر للسلطة ممارسة أشد أشكال القمع. وقد ساهم هذا التحول في انحسار الحراك الشعبي.إضافة لذلك فإن المعارضة تعاني بأشكال ومستويات متباينة بعض التناقضات الذاتية تقتضي اللحظة الراهنة تجاوزها ديمقراطياً: النخبوية وتضخم الأنا الشخصية وغياب آليات العمل الديمقراطي داخل التشكيلات السياسية وهيمنة العقل الأحادي وانفصالها عن الحراك الشعبي..وهذا يفقدها التأثير على المجتمع ويقلل من قدرتها على قيادة التغيير الديمقراطي .ويساهم في حرمانها من القوى الحاملة للتغيير. إن اللحظة الراهنة تضع على كاهل المعارضة مسؤولية إيجاد آليات عمل ديمقراطية تعبّر عن مصالح السوريين، وتمكّنها من مواجهة الأطراف السلفية والتكفيرية الجهادية. إن سعي أحزاب المعارضة إلى ممارسة السلطة غاية مشروعة، لكن اعتمادها مفاهيم الإقصاء ومبادئ الحزب الحاكم، أمر لطالما شكت منه، واعتبرته أحد أسباب خروجها عليه، يشكّل أحد عوامل تكريس مقدمات الاستبداد.

    نظراً للأهمية الجيو سياسية التي تتمتع بها سورية، فإنها تشكل بوابة للتغيير الإقليمي والدولي، ولأن شكل التغيير فيها سوف ينعكس على شكل النظام الدولي، فإنها تحولت إلى ساحة صراع دولي بالوكالة. إن زيادة حدة التناقض والصراع الدولي في سورية وعليها يساهم في إطالة أمد الصراع وتدمير كيانية الدولة والقضاء على دورها الإقليمي. إن إخراج المجتمع السوري من الأزمة الراهنة يفرض على كافة القوى المجتمعية والقوى المدنية والسياسية تجاوز تناقضاتها والتمسك بالخيار السياسي الديمقراطي للتغيير، لكن عمق التناقضات الذاتية والموضوعية أفشل جهود المعارضة في إيجاد آليات سياسية ديمقراطية، وساهم في تعزيز فقدان ثقة المجتمع بها، وزاد من التصاق الكثيرين بالنظام ليس حباً به، لكن لعدم ثقتهم بالبديل. بينما الغالبية التي ترفض النظام والمعارضة بسبب ما آلت إليه مجريات الأحداث، فإنها نأت بنفسها عما يجري. ويساهم في ازدياد هذا الشقاق، تنامي دور الجماعات السلفية وتحديداً الجهادية التكفيرية، وهذا لا يخيف الأقليات فقط ، بل غالبية المجتمع السوري المعتدل في تدينه، والذي يجنح إلى السلم والأمان.

    إن تراجع ثقة المجتمع السوري في تشكيلات المعارضة السياسية وتحدداً الخارجية منها، يستدعي من المعارضة الديمقراطية والأطراف الإسلامية المعتدلة، إيجاد آليات تنسيق وتواصل لوضع برنامج سياسي ديمقراطي. وهذا يعني بالضبط بلورة هويتها السياسية المدنية الديمقراطية والتمسك بآليات عمل ديمقراطي ووعي ديمقراطي يقطع مع الذهنية الأحادية ويؤسس لبناء مشروع ديمقراطي تتقاطع عليه القوى السياسية الوطنية الديمقراطية المعنية في التغيير السياسي الوطني الديمقراطي. ومن هذا المنظور نرى أن إنشاء قطب ديمقراطي يوحد قوى المعارضة الديمقراطية والمدنية من أجل ضمان التغيير الديمقراطي يشكّل خطوة على الطريق الصحيح. بمعنى آخر يُفترض من قوى التغيير الديمقراطي توحيد صفوفها ووضع آليات عمل سياسي ومهام سياسية مشتركة تقطع مع التبعية والارتهان لقوى دولية تعمل على تقسيم سورية وتهديم كيانيتها وتفتيت نسيجها الاجتماعي. وهذا يعني بالضبط التخلي عن النزعة الإقصائية والأحادية التي ما زالت تهيمن على آليات عمل المعارضات السياسية. ويدرك الجميع بأن نهوض سورية الديمقراطية لا يمكن أن يقوم به حزب سياسي أو تجمع بمفرده، أي أننا نحتاج لجهود كافة القوى الديمقراطية والمجتمعية المدنية، وهذا التوجه يساهم في إجهاض مشروع القوى الجهادية التكفيرية المرتبطة بنيوياً وعضوياً بالقاعدة، وهذا يستدعي بالضرورة رفض المزاوجة بين القوى الديمقراطية والقوى التكفيرية،و توحيد صفوف القوى الديمقراطية من أجل إنجاز المشروع الوطني الديمقراطي، ويدعم هذا الخيار الشعب السوري الرافض للقوى الجهادية والتكفيرية. ويدرك الجميع بأن كافة المبادرات والمؤتمرات السابقة لم تستطع حتى اللحظة من إيجاد آليات سياسية قادرة على تجاوز الأزمة.إن إنهاء الصراع الدموي وإنجاز تغيير ديمقراطي يضمن وحدة سورية أرضاً وشعباً يستدعي توافق دولي يكون مدخله إعادة هيكلة القوى المعارضة من منظور مؤسساتي.لكن للأسف ما زالت قوى المعارضة في سياق بحثها عن حل لإشكالاتها، تدور حول ذاتها ومن أجل ذاتها بعيداً عن القوى المجتمعية الفاعلة والأساسية.وأياً تكن أزمة المعارضة فإن المجتمع ينتج آليات وأشكال عمل تعبّر عنه، سواء تقاطعت مع آليات عمل المعارضة أو ناقضتها، وهذا يؤكد بأن القوى الحقيقية تولد من رحم المجتمع، ومن حراكه الذي يتمايل بين الاعتدال والتطرف.

    في فرنسا أكلت الثورة الأخضر واليابس قبل أن يستقر المجتمع على إدارة ديمقراطية متسامحة، وفي بريطانيا سيطر التطرف الديني قبل أن تستقر بريطانيا على ملكيتها الدستورية …. هل يستفيد المجتمع السوري وقواه السياسية من دروس التاريخ ويجنب سورية الوقوع في كارثة اجتماعية شاملة باتت ملامحها تلوح في الأفق.

    }]إن (الربيع السوري) يفتقد إلى الثقافة الديمقراطية بمفهومها الحداثوي، ومن هنا فإنه مهدد أو محكوم عليه بالفشل على رغم عدالة شعاراته، فالنظام الذي يطالب الحراك السوري بإسقاطه، بات متكلساً متخلفاً ولم يعد مقبولاً استمراره في قمع الشعب والتحكم بمصيره. لكن ما هي البدائل التي يطرحها(الربيع السوري)؟ هل هي مراوحة في دائرة الاستبداد وتكريس لمقدماته؟ إن تجاوز ما تعانيه المعارضة من إشكاليات وتناقضات ذاتية يتم من خلال تجاوز المقولات والمفاهيم المؤطرة لفكرها الذي ينتمي في معظمه إلى ما قبل الحداثة، فلا يجوز أن يبقى وعيها غريباً عن منظومة الأفكار الحداثية في ما يخص الديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والمساواة المواطنية الكاملة. إن الخروج من فضاء وعي القرون الوسطى إلى فضاء الثقافة الديمقراطية بكل ما تعنيه من حريات مدنية وسياسية وعدالة اجتماعية…هو الذي يضمن مستقبل الربيع السوري ويحول دون انقلابه على ذاته وارتداده المأسوي إلى أحط مراحلنا تخلفاً. إن الحراك السوري يكرّس مواجهة تدور بين الدولة والأمة، وكلتاهما لا تنتمي إلى الثقافة الديمقراطية بميلها الحداثي. فالدولة لم تستعر من الحداثة سوى آلتها القمعية وجهازها الأمني متكئة على إرث مملوكي في الاستبداد لتصادر إرادات الناس وتقبض على أفكارهم وأحلامهم فتضيع بالكامل وتنحل استقلالية المجتمع إزاء دولة تفترسه إكراهاً واغتصاباً، وأمة تواجه هذه الدولة بأواليات مغرقة في الماضوية لم تستفد من ثورة الحداثة بل عمدت إلى إفراغ مقولاتها من مضمونها الليبرالي معتبرة الديمقراطية آلية للوصول إلى السلطة ولو كان في ذلك إعادة إنتاج للسلطة الاستبدادية.{[ (اقتباس بتصرف / الحياة ــ كرم الحلو ــ 14/ 5)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى