صفحات الرأيمعتز حيسو

بخصوص الدولة المأزومة/ معتز حيسو

    في ما يتعلق بسياق تكوّن وتطور الدولة الكيانية، فإن الدول العربية تتقاطع في الكثير من القضايا والمفاهيم والسياسات العامة وآليات الاشتغال. فهي تتشابه شكلانياً في بعض الوجوه والمستويات، مع شكل الدولة (الحداثية) وأدواتها، لكنها تتباين معها من جهة تشكّلها البنيوي ومضامينها الجوهرية.

    فقد تشكلت غالبية الدول العربية، رغم وجود بعض التباينات والخلافات، قبل أن يتشكل المواطن في مؤسسات مجتمع مدني يمتلك القوة الذاتية التي تمكنه من إعادة إنتاج ذاته سياسياً. فكان بذلك سياق بناء وتطور الدولة مندمجاً بالسلطة ومعبراً عنها.

    وبذات اللحظة التي كان يتم فيها تغوّل الحزب الحاكم على الدولة والمجتمع، كان يتم الاشتغال على تحويلهما في سياق ترسيخ السلطة وتمكينها، إلى أدوات لتأبيد سلطات شمولية يقودها حاكم يختزل في شخصه الدولة والمجتمع، فكانت بنية الدولة العميقة، تعبيراً عن سلطة أحادية منفصلة عن المجتمع المغرّب عن دولته وفيها.

    كذلك فإن اغتراب السلطة عن المجتمع، كان يتعمق، بفعل سياساتها المتناقضة مع المصالح الاجتماعية العميقة، حتى تحول أبناء المجتمع، الذي يجب أن يشكّل الأساس الموضوعي لبناء الدولة، إلى بعض من أدوات بناء السلطة.

    وقد ساهم بناء الدولة وإعادة تشكيلها من بوابة السلطة القهرية، في تعميق غربة المجتمع وإقصاء المواطن عن حقل الممارسة السياسية والمدنية المستقل. فكان ينحصر بذلك الخيار المتاح أمام أبناء المجتمع، في المحافظة على الانتماءات والولاءات قبل الوطنية. كونها تشكّل أحد أشكال الحماية، ومن خلالها أيضاً، كان يمكن للفرد أن يعبّر عن هويته الذاتية والاجتماعية.

    بهذا المستوى تحوّلت السلطة إلى أحد عوامل الإعاقة أمام التطور الاجتماعي، الذي يجبّ ويتجاوز فيما لو تطور بشكل طبيعي، كافة أشكال مكونات وتجليات الوعي قبل وطني. فكانت بذلك بنية السلطة الوجه الآخر للتخلف.

    فالدولة من المنظور المجتمعي العام، ينظر إليها، على أنها تعبير عن دولة السلطة القائمة على عوامل القهر والتخلف والنهب والتبعية والارتهان. لذا فإن استمرارها، مرهون باستمرار مفاعيل القوة والتخلف المعوقة لعوامل التقدم والتطور.

    ولأن السيطرة على المجتمع السياسي والمدني، من طبيعة السلطة في البلدان المتخلفة، فإن تغوّلها كان يقابله لأسباب متعددة ومختلفة، غياب المواجهة المجتمعية المدنية المنظّمة.

    وقد نجحت السلطة في تحويل المناخ الاجتماعي بكافة أبعاده ومستوياته، إلى مناخ يسوده فكرها الخاص القائم على آليات وأدوات كابحة لأي نمو سياسي اجتماعي مستقل.

    وقد ساهم هذا المناخ في نشوء تراتب وظيفي نفعي يقوم على توليد الولاءات الشخصية، في سياق يتزامن مع إعادة إنتاج المجتمع التقليدي وفق قوانين وآليات موغلة في تاريخ التخلف. وكان يتجلى هذا الواقع، في إعاقة التحوّل، من الدولة الرعوية إلى دولة المواطنة. إن التناقض العميق بين السلطة والمجتمع، إضافة إلى انتشار ظاهرة الفساد المتراكب هيكلياً، والمرتبط باحتكار الثروة والسلطة، ساهم في توليد مظاهر التنابذ والتذرر الاجتماعي والاغتراب. وأيضاً في تراجع الشعور بالمسؤولية، وتحديداً فيما يخص الملكيات العامة. فكانت هذه النتائج وغيرها، تتجلى وفق أشكال اجتماعية وسياسية تقليدية مأزومة. أما في ما يخص التنمية الاقتصادية والبشرية، فإنها لم تتعد المستوى الشكلاني الملتبس والمضلِّل، فانحصرت في أشكال من الاقتصاد الريعي الذي كان يتم تأطيره وتوجيهه من منظور اقتصاد السلطة، وكان من تجلياته عدم الترابط، والتناقض مع أية أهداف تنموية بشرية وإنسانية.

    لكن السبب الأساس الذي أفضى إلى أزمة اجتماعية وسياسية عامة ومركبة، كان ولا يزال، يتمحور حول اعتماد اقتصاد السوق الحر التابع والمرتهن بسياساته العامة للرأسمال العالمي، الذي يعبّر عن تقاطع مصالح بعض السياسيين وأصحاب الرساميل، الذين اشتغلوا على التحكم في القرار الاقتصادي والسياسي، بعد مرحلة راكمت فيها هذه الشرائح المال السياسي. فكان الإفقار والبطالة والتهميش والفساد وغياب المناخ السياسي الديمقراطي السمة العامة للدولة العميقة. بهذا المعنى، كانت السياسات الاقتصادية عبارة عن تأهيل الأفراد لحاجات السلطة وتحقيق أهدافها الخاصة، فكان الفرد لا يعدو كونه إحدى أدوات السلطة وموضوعها. وكان تشكّل المعارضة في ر حم مجتمع تقليدي مأزوم ومشوه ومهمّش ومغرّب، من نتائج هيمنة السلطة على الفضاء الاجتماعي العام. بهذا المعنى، كانت المعارضة تعبيراً مأزوماً عن مجتمع يعاني أزمة عامة ومركبة. هذا إضافةً لكونها كانت في ممارستها للسياسة والفكر، تتماهى مع ذات منطق السلطة المأزومة، الفاقدة إلى مقومات الإنتاج الحضاري والمعرفي الحداثي.

    لقد بقيت المعارضة كما السلطة، تجدد ذاتها المأزومة، وتستقوي بعصبياتها الفرعية الأولية، والعوامل الخارجية. لكن بفارق أن السلطة تمتلك عوامل القوة التي تمارسها بحق المجتمع.

    لهذا، فإن سيطرة القوى التقليدية على الفضاء الاجتماعي والسياسي العام في اللحظة الراهنة. يرتبط بتناقض السياسات الدولية، وفي دعمها لهذه الأطراف، وبأزمة السلطة والمعارضة. جميع هذه الأطراف أجهضت التغيير الوطني الديمقراطي. السلطة بأدواتها القهرية، وعدم امتثالها لحاجات المجتمع وضميره. والمعارضة نتيجة لتناقضاتها الذاتية، وعجزها وتشتتها… إلخ. والقوى الدولية التي تعمل على فرض مشاريعها التي تتناقض بداهة مع مصالح شعوب المنطقة.

    وهذا يستدعي التمييز بين انتفاضة من أجل الحرية تم إجهاضها، وحرب قوى تقليدية متطرفة معادية للديمقراطية والمجتمع، تبدو حتى اللحظة بأنها تسيطر على المشهد العام.

    ورغم التباين والتناقض بين الأطراف المشكّلة للمعادلة السياسية، فإنها ما زالت تفتقد إلى مشروعية التمثيل الاجتماعي، وإلى إمكانية تقديم البديل الديمقراطي… وقد ساهم هذا موضوعياً، في تفاقم الأزمة، وإجهاض إمكانية أي تحوّل سياسي والاجتماعي ديمقراطي.

    فالمعارضة اليسارية والديمقراطية في سوريا، شاركت منذ اللحظة الأولى في الحراك، لكنها فشلت لأسباب متعددة في التأثير على مجرياته. ورغم أنها رفضت العنف والتدخل الخارجي منذ البداية. لكنها فشلت في فرض الأشكال السلمية وإيقاف مد التدخل الخارجي.

    من جانب آخر، تعمل (الجماعات الجهادية وغالبية المعارضة الخارجية) على امتطاء صهوة التحرك الشعبي والإمساك بتلابيبه متقدمة بوجهها المزيف الذي انكشف عندما استبدلت مشروعيتها الشعبية، بالارتباط بالخارج والارتهان لمشاريعه اللا إنسانية. فكانت بذلك الوجه الآخر للمال السياسي الخارجي. إضافة إلى أنها ساهمت وعوامل أخرى في إخراج المعارضة اليسارية والديمقراطية، والفئات الاجتماعية التي تتمسك بالخيار السلمي، من المشهد السوري.

    وساهم هذا التحول في إجهاض المشاركة الشعبية، والدخول إلى حقل العنف الطائفي الأعمى، وسهّل التدخل الخارجي المحمول على أبعاد ومستويات وأشكال متعددة. وجميع هذه العوامل تفضي إلى تفتيت المجتمع السوري وتهديم كيانية الدولة.

    فالأنظمة التي فضّلت من أجل إعادة تجديد ذاتها، وفرض الاستقرار الشكلاني. القطع مع المجتمع، واعتماد القوة القهرية، بديلاً عن المشاركة السياسية. تبقى معرّضة إلى إنزلاقات وتحولات غاية في الخطورة، على ذاتها والمجتمع. فهي بذلك لا تنتج بديلها السياسي فقط. بل وتجعل من ذاتها هدفاً للتغيير.

    وهذا يدلل على إن العوامل الذاتية والتناقضات الداخلية، تشكّل الأساس الموضوعي للإنفجارات العربية التي يمكن اعتبارها في بعض المستويات رداً على فقدان الحقوق السياسية والاجتماعية.

    وإن كانت تجارب الشعوب، تؤكد على أن الاستقرار الاجتماعي يجب أن يكون نتاج توافق حقيقي بين أبناء المجتمع الواحد. لكن في حال فرضه بأدوات ومفاهيم القوة والهيمنة السلطوية. فإنه سينتهي إلى الانهيار بمجرد سقوط حاجز الخوف.

    فالأنظمة العربية ذات الميول الأحادية، حنّطت التاريخ، وأدخلت التنمية في طور الأزمة، وفرضت سلطة الأقلية التي تعتبر نفسها فوق القانون والمساءلة على المجتمع. فحوّلت بذلك المجتمعات العربية، إلى بنى هشة وضعيفة، مهددة بالانهيار أمام التحولات المفاجئة.

    لهذا، فإن من أسباب تصدّع المجتمعات العربية، اعتماد السلط السائدة سياسة الإفقار وثقافة الخوف وفرض السلطة الأبوية وتعميم مبدأ الولاءات والامتيازات، وزرع بذور التذرر بين الطوائف والجماعات لضمان استقرار السلطة. وهذا يقود بداهة إلى انعدام ثقة المجتمع بقواه الذاتية، ويجعله مجتمعاً مسلوب الإرادة.

    فطبيعة الأنظمة العربية وبنيتها وتركيبتها السياسية، كان له دوراً أساسياً في تشكّل المناخ المناسب لبروز الفكر الجهادي، المتماهي في أحاديته مع العقيدة السلطوية. فكانت الحركات الجهادية ذات العقيدة الأحادية، الوجه الآخر للسلط العربية.

    وهذا يدلل على أن بنية الأنظمة الأحادية وسياساتها الإقصائية، تقود إلى تمكين ثقافة العنف. ويثبت على الدوام أنها تتعامل مع نتائج سياساتها بذات الأدوات التي أنتجت عوامل الأزمة.

    فالأنظمة السائدة هيمنت على مجتمعاتها، وسلبتها حقوقها. واستعاضت عن علاقتها مع شعوبها، بربط مصيرها بالمصلح الغربية، حتى تحولت إلى أنظمة تابعة ومرتهنة. فأدخلت نتيجة ذلك، مجتمعاتها في دوامة من التناقضات المركبة والمتداخلة بين الخارج والداخل. حتى أصبحت الشعوب العربية تفتقد إلى وجود الدولة، وتعاني من غياب الحرية، وانتقاص السيادة.

    وإذا كان هاجس العديد من الحكومات الغربية، هو إيصال المجتمعات العربية إلى العنف الطائفي والمذهبي. فإن آليات اشتغال وسياسات الأنظمة العربية طيلة عقود، مهّد الطريق أمام تحقيق هذه الأهداف والغايات.

    وهذا يستدعي التأكيد على أن تأخذ العلمانية و«العقلانية السياسية» دون الانجرار إلى المخططات الدولية التي تُعد للمنطقة. موقعها الحقيقي في مواجهة القوى الظلامية التدميرية، وأن تأخذ الديمقراطية كذلك، موقعها في التصدي للأنظمة الاحتكارية، حتى تستعيد الحرية معانيها الحقيقية، كرد على الظلم التاريخي الذي لحق بالفرد والمجتمع. فالعلمانية بهذا المستوى تشكّل فعل استعادة حق اجتماعي وسياسي، فردي وجماعي، احتكرته المؤسسة الدينية حيناً، والسلطة تحت مسميات متعددة أحيانا. وفي هذا ضماناً للشعب الذي يجب أن يأخذ موقعه الحقيقي، ويكون سيد ذاته، ومصدراً للسلطات.

    وكما أكدنا سابقاً، فإن العلمانية ليست عقيدة أيديولوجية، ولا يجب أن تكون كذلك، وليست ضد الحريات الدينية. لكنها تتملّك موقفاً ورأياً في نمط الدولة وأشكال تجلياتها. فهي في المستوى السياسي ترى ضرورة الفصل بين الدين والسياسة. وضمان استقلال الدولة عن الدين، وعدم ارتهان الدين للدولة. وهذا يؤشر على أن للدولة المدنية الديمقراطية حق السيادة على المجتمع السياسي، بينما الدين، يجب أن يبقى مقترناً بحرية الاعتقاد بعيداً عن السياسة. والعلمانية أيضاً، يجب ألا تكون محمولة على قوة عسكرية أو سلطة أحادية شمولية. وإن كانت كذلك، فإنها ستقود إلى الاستبداد السياسي، وإقصاء المؤمنين عن الحقل الاجتماعي العام. حينها لن يكون أمام المتدينين، إلا التقية والانكفاء إلى الباطنية.

    فالقوى العلمانية التي تحارب الدين، لا يمكنها القضاء على بذور التدين الشعبي بالقمع والتغييب.

    وفي تجربة الإتحاد السوفياتي، دليلاً على ذلك. ففي اللحظة التي بدأت ملامح تصدّعه تظهر للعلن، كانت مظاهر التدين تعود من جديد.

    فالتطور الاجتماعي والاقتصادي التنموي والبشري المستدام هو الذي يساهم فعلياً في تجاوز المتخلف من المنظومات الثقافية والعقائدية، أو يجعلها تتلاءم وتتكيف مع مناخ التطور العام والكلي، حتى تتجاوز بذاتها البالي من معتقداتها ومنظوماتها الثقافية والقيمية. وهذا يعني احترام الانتماءات المذهبية والتدين الشعبي، كونه يشكّل أحد مستويات المواطنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى