صفحات العالم

بديهيات… ولكن غير مبسّطة

 


نهلة الشهال

لا يكفي أن تكون السلطة السورية تناهض إسرائيل، وترفض أن تعقد معها «تسويات» من النوع المشين، المتسبب بتعزيز منطق الاستسلام لها. لا يكفي ذلك حتى تفترض انها تمتلك تفويــضاً مــن شعبها في كل ما عدا ذلك. لا يمكن مناهضة إسرائيل أن تبرر مثلاً تأبيد حالة الطوارئ، وما يستتبع ذلك من ممارسات ونتائج بات تكرار توصيفها مضجراً. كما لا يحل الموقف السياسي السوري من إسرائيل محل كل الحاجــات الأخرى، ومنها تلك الاقتصادية، حيث ترسخت على مر السنين بنية هجينة تمزج مناحي اشتراكية أقرب الى شذرات من الماضي، بليبرالية انتقائية ترضي شرائح معينة ولكنها تتسبب برمي فئـــات واسعة في البـــؤس. ولا يمكن تصور أن التسويات المتعاقبة بين السلطة والمجتمع أو بعض أجزائه، تقوم مقام العقد الاجتماعي الصريح. بل إن منطق التسوية المتعاقبة ذاته يحمل في أحشائه بذور أزماته.

ولا شك في أن الظرف العراقي ساعد دمشق على الإمساك بأطراف الخيوط كلها. فهي ظهَّرت «نيغاتيف» الصورة: مخاطر الفوضى الرهيبة، بدليل ما عمَّ بلاد الرافدين، ودمرها تدميراً عميقاً ستلزم سنوات لتجاوزه على رغم من دينامية العراقيين، وقدرتهم الفائقة على المبادرة والإبداع، وطاقتهم التاريخية على التحمل، وهي ليست خصائص كل الشعوب. ولا شك في أن المسلك الغربي في العراق قد مثّل حجة رادعة أخرى بوجه قوى لعلها كانت تحلم بمثله لسورية، فانكفأت وانزوت وسط إدانة عامة لها. فالإجرام العسكري الغربي – وتحديداً الأميركي – المتفلت من كل حدود (حتى قيل فيه إنه كان يختبر هناك أسلحة جديدة أكثر فتكاً)، والمشاركة النشطة في نهب العراق، والتخطيط لإضعافه المديد عبر تسييد آليات سياسية منحرفة، والفشل الذريع في إثبات أي جدارة على أي صعيد… كل ذلك لم يمثل نموذجاً يثير الرغبة في تكراره. بل استبطن هذه الصورة المريعة القادة الغربيون أنفسهم، بدلالة ارتباكهم في مسلكهم الليبي الراهن، وخشيتهم من منزلقات التورط التي بدأت تلوح أمامهم، مؤكدة أن كل تدخل من هذا القبيل فخ حقيقي، قد يتم استصغار شأنه في بداية الطريق، ولكنه سريعاً ما ينطبق على من يقترب منه ويبتلعه.

ها نحن نعيد للمرة الألف اكتشاف تعقيد البديهيات، وأنه لا يمكن مقاربة المواقف من آخرها، ولا بجزئياتها.

وبخصوص ليبيا، لا يمكن التغافل عن مرحلة جرى إهمالها عمداً أو عن خفة، هي تلك المتعلقة بما كان ضرورة بناء مبادرة سياسية متعددة الأطراف لإنهاء الموقف بأكثر الأساليب سلمية، وقبل أن يتفاقم. وبدلاً من ذلك جرى التسلي على مدى الأيام العشرة الأولى بأكملها (وفيما كانت قوى الثورة في مواقع متقدمة)، بترداد جملة مبهمة تقول «يجب وقف العنف»! وهو ما فعله أوباما ومن خلفه كلينتون. وقد فهم القذافي هذه الميوعة كضوء أخضر له، وخرج ابنه على الناس يفاخر بها.

لعل القذافي ما كان ليستجيب لمثل هذه المبادرة السياسية، ولكن التاريخ لا يمكنه تبرير مجرياته على هذه الشاكلة، وما نقص وجرى القفز من فوقه يولد دائماً آثاره. ومن ناحية أخرى، فلا يمكن الاكتفاء بالوقوف أمام المأزق الحالي المتعدد الاطراف – مأزق الليبيين أنفسهم، ومأزق القوى المتورطة في الحرب – لاستنتاج عدم وجود خيارات سوى الإمعان في المسلك. فلن يوفر ذلك على ليبيا المآسي، ولن يسهل انتصار المنتفضين. وحتى لو حدث هذا الانتصار وفق هذه الشروط، فهو يرتب نتائج ستنخر في جسد المجتمع الليبي بعنف وطويلاً.

لا بد من رحيل القذافي عن السلطة، ومن تفكيك نظامه، وهو مدان بلا استدراكات ولا تحفظات، ولا بد من حماية ليبيا من الأطماع الغربية، ومن الدمار الذي مارسته الجيوش الغربية في كل مكان حلت فيه، بدليل أفغانستان والعراق، ولا بد من توفير شروط استعادة ليبيا توازنها وسط مكونات قبلية وجهوية وعرقية متعددة، ولا بد من اعتبار مجمل المشهد في المنطقة، بشقيها العربي والأفريقي. كل ذلك معاً ودفعة واحدة، وليس وفق تدرج خطير النتائج، ولا وفق أولويات كاذبة إذا أقر بها وعُمل وفق ضروراتها أطاح البند الأول أو الثاني بسائر البنود، وعدنا الى المأزق.

ولا يمكن اعتبار أن ما يجري في سورية من احتجاجات غريب عن الانتفاضات التي أجريت وتجرى وستجرى في أرجاء العالم العربي. فهذا الأخير قد أعلن أنه وصل الى حد الإشباع. ولا يمكن تعيير الغرب بأنه يكيل بمكيالين، والانكفاء الى هذه الممارسة بعينها، وفق أهواء أو حتى اعتبارات شتى، حتى لو كانت تتعلق بمسألة مركزية تماماً، هي الصراع مع اسرائيل. بل على من يحرص على إبقاء هذا الصراع حياً، وعلى قيادته الى نهايته السعيدة، أن يكون فوق الشوائب، أو أن يتخفف من بعضها على الأقل!

وهنا أيضاً، ليست البديهيات مبسطة، ولا بد من مقاربة المواقف بكليتها. قد تسنح ظروف تتيح التفلت من هذا التطلب، ولكن التعرف الى اللحظات التاريخية يتم حين يفرض تقاطع كل المعطيات معاً نفسه على الواقع. فهل من يُدرك أن الأمر ليس انتقاء وخيارات بل ضرورات، ويتخذ قراراً بتجنب تكرار المألوف والمطروق، والارتقاء الى اللحظة؟

الحياة

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى