صفحات الثقافةعلي جازو

براءة العين وآلة الكلام/ علي جازو

 

من دون معلِّم ولا مرشد ولا كتاب، بلا أي تمهيد قطّ، نتعلّم أن نرى (نتعلم الرؤية) قبل اكتسابنا القدرة على الكلام وتبادل الحديث. يكاد الكلام أن ينحصر في جزء منه على تلويث هذه النقلة بخدمتَي اللغة والصوت.

الكلام ينقل ويعبر يتكلم ويحيط باللسان المعتم الصغير، لكن العين تسبق المنقول وتحيط به وتمسكه عما هو أرحب من المعبّر عنه. العين ترى، واللسان يتبعها لينقل رؤيتها. قبل أن تغدو الكلمات والخطوات سبلنا إلى التنقل الجسدي واللغوي، كنا ننتقل عبر ما نراه داخل ما نلمسه بالعين وحدها، ونحن في مكاننا نفسه تقريباً. العين تسافر وتحلم، فيما هي تنام أخيراً في “راحة الكفّ”، على قول قديم من قصيدة لجورج شحادة.

كانت الصور عبر القصص المصورة وسيلة للتعلم، والحكاية تُحكى من خلالها، ولم نكن نجد حاجة لمن يحولها إلى كلمات. حتى الحكايا الشعبية التي سمعناها من جداتنا كانت تتحول إلى صور بعد الانتهاء من سردها الحميم الشافي المعين.

كل خطوة، والحال هذه، داخل هذه الرؤية البدئية هي خطوة داخل بيت النظرة المفتوح على كلّ مرئي حولنا، حيث لا شيء يخفى: أرجاء البيت ورعاية الأمّ، نظرة الأب وحركة الشارع، الانتظار الصافي والقلق الصامت، ظلال المساء ولون التراب، حلول الليل وضوء النهار حيث تتلاحق الفصول تلو الفصول برتابة شجاعة ورائعة.

عالم الطفولة ليس سوى عالم صور حسية مباشرة ومهيمنة، والكبار وحدهم يبتعدون عن مشهد فاتن كهذا، كلّما تمكنوا من لَوْك اللغة والتحدث من خلالها، من دون توقّف. تحمل الشيخوخة والضعف والحاجة جسدَ الإنسان الراغب في العودة إلى عالم الصور البعيدة، في الزمن فقط، حيث الوجه الأول لكلّ خبرة وكل حنين. من هناك، حيث لا نماذج جاهزة ولا تلقين جامداً، من تلك المسافة المشعة دوماً، حيث المكان محميّ داخل حقل التذكر البصري، يستعيد الواحد منا براءة مفقودة وجهلاً عميقاً، ويحاول إبقاءهما قرب العين التي تملك بمجرد أن ترى، وتستعيد ما رأته وما حلمت به، من دون أن تغير شيئاً مما منحتها العين الشهيدة والكلية القدرة. هكذا، تسبق العينُ اللسانَ الذي يعجز عن اللحاق بالبداية التي كانت محض صورة. من هنا يبدو كارُ الرسّام أقرب إلى فهم عمل العين الخاص والفريد منه إلى صنيع الشاعر الذي يحاول يائساً استعادة صورةٍ كانت رؤيته الأولى والأساسية. لكن الصورة صامتة، وليس صمتها بالسكوت المغلق. إنها تتكلم، غير أن لغتها ليست من مادة الكلمات التي نعتاد استعمالها حتى تغدو العادة آلة لا تعرف التوقف ولا التعثر. تحملنا الصورة إلى التمعن فيها. إنها تحتلنا وتبحث عن معنى لها من خلال احتلالها العين. بذلك تكون عثرة في طريقنا. داخل هذه المحنة السخية والملغزة، تخاطبنا وتشدّنا إليها. لعل الحاجة إلى تجاوز الكلمة المستهلكة بالصورة، هي التي تشكل محور استعارة الشاعر للمجاز والتشبيه. اللغة العادية لا تكفي. العين تنظر، ولا ترى كلمة عينها على حرف لسانها. يحل التشبيه محل الواقع الخام لأن الأخير ممنوح وسائد ومقول كيفما اتفق، وينتقل من لسان إلى آخر بالطريقة نفسها، حتى يبلغ تنقله مبلغ التحجر والثبات والسكون. التعثر، على هذا النحو المشار إليه، أفضل من التوقف، وهِبَةُ العين أسمى من بخل الكلمة، لكن الأخيرة تتكئ على سخاء الأولى، من دون أن تكون تمثيلاً كافياً لها. كل مرئي جديد حالما يُرى، وهو يُرى للمرة الأولى حتى إذا كنا نظن أننا نعرفه من قبل. كل اعتياد هنا، ليس سوى ألفة سرعان ما تغدو ثقيلة وبليدة. لا تقلْ إنك سبق أن رأيتَ أو مررتَ بما ترى، لأن المرئيّ جديدٌ دوماً ولا يتكرر البتة.

غير أن عيشنا الحالي المغزوّ من صور سائلة، ليست صورنا على الأغلب، أو هي لا تأتي على وقع ما نرغب ونريد، يكاد أن يحوّل الصورة إلى ركام بلا بداية ولا نهاية. يسوء الأمر طالما ترافق الابتذال وضخَّ الصور على نحوٍ يحوّلها إلى آفة مستبدة وسارية. ثمة خوف كبير من أن تتشوه قدرة العين إزاء كلّ مرئي جديد، فلا تبقى بريئة مما يحرمها دهشة أن ترى، وجمال أن تكون الرؤية هذه مدخلاً خاصاً إلى التعامل والتفكير. كل لغة تكرر الصورة الآن، لن تكون مخلصة لما ترى، ذلك أن الصورة لا تتكرر قطّ، على رغم أن سهولة نسخها وتوزيعها يحملنا على اعتقاد كسول كهذا، على نحو ما يريد الإعلام البصري الشره والمجنون والمخيف أن يقدّمه لنا. خسارة اعتبار للرؤية كهذه، لن تؤذي عمل اللغة الأدبية وحسب، بل هي في طور تعليق العلاقة الحيوية بين العين واللسان وما لهما من كفاءة وجدارة. عندما نكتب، نلجأ إلى الكلمات كي تعيننا على نقل تصورنا وفكرنا عما نحس ونشعر. هكذا ترتبط الصورة بالفكر مثلما يرتبط المرئيّ باللّامقول بعد. قلْ صورةً لم تكن كلمة من قبل. أو اكتبْ صورة ليست كلمة الآن. كلّ تحكمٍ لآلةٍ بنا، هو تحكم للثابت والسائد الذي لا يني الواحد منا غير الهرب منه. غير أن تصوّرنا عن النجاة من الصورة هو بمثابة تخلينا نجاةً من دون عمل العين الأصلي عندما كانت الرؤية بداية، وكانت الكلمة سحراً ينقل الصورة إلى اللسان لكي تُحسَّ وتُرى من جديد، وتُشاهَد كما لو كانت هدية لا يريد “الرائي” بقاءها طيَّ جفنيه.

بقي القول إن الكلمات عادةً ما تنطلق من مِثالها المعروف وعاداتها الحاصرة والمفيدة، وهو آلة رازحة، لكن العين بلا مثال مسبق ولا شيء يحصرها أو يزيحها، وفي هذا تفرّدها وبراءتها “الخطيرة” والثمينة. كان بورخيس القائل إن “العيون آلات موسيقية ناعمة”. ربما نكتفي من الآلة، كلّ آلة، بموسيقى العين، تلك التي تموج وتتحدّد وتمتلئ بما ترى قبل أن تحلّ بها لعنة كلماتٍ معدياتٍ راسخات، هي إرثنا على كل حال.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى