صفحات الرأي

برتوكولات الفتنة المذهبية/ دلال البزري

 

 

في بداية الحرب الأهلية اللبنانية، والتي كان للماركسيين التقدميين فيها حصة من المشاركة، كان نكران العامل الطائفي من الضرورات العقيدية. مع انهم كانوا منضوين تحت راية “الحركة الوطنية” و”الإسلامية”، الا ان نكرانهم لم يكن ليتزحزح لولا المذابح الطائفية والقتل على الهوية والتهجير من المناطق المختلطة الخ. بل انهم لم يكونوا ينظرون إلى أنفسهم كم أصبحوا طائفيين، وقد حصلت حوادث تنم عن هذا الميل المسكوت عنه في وسطهم.

في بداية الثورة السورية، حصل الأمر نفسه: التقدميون من بين المعارضين لا يرضون بالإعتراف بالطابع الطائفي المذهبي الذي انجرّت اليه الثورة، ولم يقرّوا به إلا بعدما تحول الطابع إلى واقع عنيد ومكرَّر. هذا الإنكار قد تكون له أسباب مختلفة، ولكن ما هو واضح منها، هو عدم إندراج الظاهرة الطائفية ضمن النظام المعرفي والتحليلي لأصحاب المواقف، التقدميين منهم خصوصا؛ نظرا لـ”تقدم” نظامهم المعرفي على “تخلّف” أي نظام آخر، يتناول الظاهرة الطائفية-المذهبية .

النقاش حول التمذهب والتطييف لم يكن ينتظر “عاصفة الحزم” ليستعيد شيئا من أهميته. فقط امتد إلى الجزيرة العربية، اثر اندلاعها، فعاد السؤال إياه: هل يجب علينا مناقشة الوجه المذهبي لهذا الصراع؟ أم نسكت عنه، منعا لتأجيجه؟ أو، لحماية النفس من تهمة التمذْهب؟ أم درءاً من شياطين تختبىء خلف تفاصيله؟ فكان النقاش على النقاش الذي لم يحصل، ثم شروط عليه، ودرجات: في الدرجة القصوى منه، وقف الناكرون تماما، الصامتون، الذين لا يتفوهون أصلا بالكلمة، لكي لا تصيبهم سمومها. وهؤلاء القلة القليلة من بين العازفين عن التناول، يكررون تجربة من سبقهم إلى الصمت، وقد تجاوزتهم وقائع الأرض. بين هذه الدرجة القصوى وما تليها، يقف المقلِّلون لقيمة هذا الصراع المذهبي، الذاهبون في تفسير التاريخ عكس ما يقصد هذا الصراع؛ والقائل بأنه منذ وفاة الرسول، وأحيانا قبله، كان السنة والشيعة يتذابحون حول الشخصيات الأيقونية الصحابية المعروفة. الملطِّفون لهذا الصراع، كل جهدهم الذهني منكبّ على التبيان بأنه، أي الصراع، لم يكن بالحدّة التي يراها الصراع المذهبي، وان الإمام علي بن ابي طالب، مثلاً، كان على علاقة وطيدة مع الصحابي عمر بن الخطاب، ومع بقية الصحابة الخ. ثم هناك من تفهم منه انه يأخذ بالإعتبار “العامل المذهبي”، تفهم ذلك ليس من وضوح عبارته، انما بالخلفية الحاكمة لوجهة نظره؛ لا يتفوه بكلمة واحدة عن المذهبية ولكنه يزنها بعبارات تمت اليه بصلة أكيدة. وأخيرا هناك من يفرض شروطاً على مناقشة الظاهرة المذهبية، ومن يرد عليه بتخفيف هذه الشروط، أو تعديلها، أو إضافة “برتوكولات” نقاش عليه… كل ذلك، حماية للنفس من تهمة المذهبية، أو من تسعير نارها.

والحال اننا في هذه الأيام بالذات لسنا مزوّدين بما يساعدنا تماماً على تناول الظاهرة المذهبية: انظمتنا المعرفية كلها أصابها الوهن، الماركسية منها والإسلامية والليبرالية، ولم يحل محلها سوى الكراهية؛ الكراهية بصفتها أداة تحليل ومقاربة. بعدما صدّرنا صراعنا الديني إلى الخارج، بات العالم نفسه مطيَّفا، أو بأقل تقدير يطيّف ويمذْهب نظرته إلينا، وأحيانا الى نفسه. وهذا أمر لن يتغير، اذا قررنا بأن المذهبية هي قدرنا.

ثمة أمور أخرى يجدر الاهتمام بها، غير “الشروط” الذهنية الموضوعة على كاهل متناولي الظاهرة المذهبية: أولها ان ايران، التي أيقظت الوحش المذهبي، كانت تعلم بأي أرض تحرث. أرض التفرقة القائمة على أساس ديني مذهبي في كل الدول التي تمكنت من اختراقها أو مضايقتها. والموضوع سياسي صرف، له علاقة بشكل “الدولة”، بقوانينها، بعلاقة حكامها بمحكوميها، بعلاقة أولئك المحكومين ببعضهم؛ كيف تكون قوانينها؟ مؤسساتها؟ علاقتها بالدين، هل تكون دينية؟ نصف دينية؟ طاردة للدين؟ جامعة له؟

الأمر الثاني ان التاريخ الصراعي للمذهبين، الممتد على ألفية وخمسة قرون، يحتاج إلى من يعيد زيارته، ليس من باب التجييش ولا التلطيف، إنما من باب الصراع على السلطة الذي حرّكه. الشيعية والسنية التاريخية قائمة على الأمر الجوهري الواحد المحرك لكل صراع، وقوامه: لمن تكون السلطة؟ فيكون السؤال الساخن: الآن، في هذا العصر، وسط الصراع المذهبي، لمن تكون السلطة؟

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى