أحمد عمرصفحات الناس

بردى والتنين/ أحمد عمر

 

 

كتبتُ عند قصف “عين” الفيجة، التي أسعفها طبيب “العيون” المتخرج من الإمبراطورية التي لا تغيب عنها شمس الاستعمار الحارقة، بدواء البراميل ففقأها: “الحرية والماء توأمان، أختٌ وأخوها. قُصفتْ الأختُ باكراً، وجاء دور الأخ”.

في طفولتي سمعتُ حكاية عن بطل عرجَ على قرية، فطلب ماءً ليشرب، فقدّمتْ له حسناء كوب بول، فاستنكر فعلتها المذمومة، فبكتْ وشكتْ له الحال، فلا ماء في القرية، وليس فيها سوى الدمع والبول، وعين الماء احتلها ثعبان مفترس، والثعبان يبيع الماء بأرواح الشباب، فيحمل بطل الحكاية سيفه، ويقتل الثعبان، وتنتهي الحكاية نهاية سعيدة ويتزوج الحسناء، ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر، وكان المهر هو رأس الثعبان الأقرع.

ليس أكثر من حكايات الماء، وفي كثير منها يحرسُ عين الماء أو البئر أفعى أو ثعبان، يقول النقاد وعلماء الاجتماع : إن علّة ذلك هو أهمية الماء في الحياة، والماء  أغلى ما في الوجود، والناس تطلق الإشاعات بغرض التخويف، ولإبعاد الآخرين عن عيون الماء الثمينة، و هناك أرحام طبيعية، تؤاخي بين المياه وجنس الحيّات، فالثعابين تفضل الحياة بجوار منابع الحياة، ولهذا ارتبطت بها في الحكايات أيضاً (الحكاية والحياة بينهما حرف زائد). في أسطورة جلجامش تأكل الحية عشبة الخلود، فيطول عمرها أكثر من كل الكائنات، وفي الخليج يسمون الحيات التي تحمي الماء بالرواصيد، لأنها ترصد المياه وتحرسها.

ولدتُ في بيئة زراعية، عيون أهلها إلى السماء مرفوعة، مثل عيون طيور القطا الخائفة من الصقور، تظل أبصارهم خاشعة في كل الفصول بحثا عن غيمة أو سحابة، فالسحاب مواعيد السماء و مواقيت المطر.

في إحدى سنوات أواخر السبعينات، دخل علينا كاشف عداد الماء، كنا منهمكين في تنظيف البئر، وإزالة القذى من عيونها، وتعميقها، وكانت مناسبة لطيفة ليقول عمّي للموظف: حكومتكم تبيعنا الهواء، وهرع إلى حنفية الماء مقدماً البرهان، وفتحها، فبدأت تحشرج مطلقة سكرات الروح. بعدها بدأتْ سنوات الجفاف، وتتالت العجاف. قال صديق علماني متخرج من موسكو برتبة آية الله علماني، بعد سبع سنوات مستبشراً: انتهت دورة الجفاف، الدورة المائية هي دورة سبعية، لكن الجفاف استمر سبعتين وثلاث أسباع. في حلب كان نهر قويق قد تحول إلى مقبرة من الروائح الكريهة، رسم الفنان علي فرزات في إحدى لوحاته تمثال سيف الدولة الحمداني، وهو يضع كمامة. الخابور في الحسكة رقأ دمعه، وغارت مياهه. في القامشلي دعاني صديق، ظناً منه أني أتصل بالإعلام، وأقدر على المساعدة، فأخذني بدراجته النارية إلى طرف القامشلي، على تخوم الهلالية، وأراني عيناً مائية تسيل منها ذبالة ماء، كانت نبعاً يلفظ أنفاسه، وقد رُميتْ فيه زبالة القامشلي كلها، وقال: البلدية الموقرة التي عيّنها حزب البعث العربي الاشتراكي العوراء لا يحلو لها رمي قمامة المدينة إلا في عين الماء، أرأيت أضلّ من هؤلاء الكفرة سبيلاً، أرجوك افعل شيئاً. وكان الناس يشعلون النار بالقمامة، فيعبق المكان بروائح  الحركة التصحيحية الكريهة، فيشتكي أهل نصيبين على الطرف المجاور إذا هبت الريح، فتمتنع أعينهم من الغمض، ويشتكون إلى الحكومة التركية، فتأمر الحكومة طائراتها الزراعية، فتغير على الحرائق السورية لإطفائها، وتتجول في سماء القامشلي التي “كانت حراماً على غيرنا” في إعلان شهير بين فقرات العروض التلفزيونية، يُشجع على الانتساب إلى الكلية الجوية، وذهب معارف لي للانتساب، ليكونوا نسوراً بواسل، فرُفضوا بأعذار لا تصلح إلا في مسلسل كوميدي: ضعف بصري، مصاب بعمى الألوان، ضغطك يرتفع عند اعتلاء طبقات الجو، قدمك مسطحة…كان السبب هو أنهم من سود سوريا، من الهوتو.  ممنوع علينا أن نكون نسورا، إنهم قوم يحبون الدجاج. في الرقة ودير الزور كان ماء الفرات دافقاً، لكن العدادات وساعات الماء مواعيدها  مواعيد عرقوب، فوافقهم قول الشاعر النابلسي: كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ….. والماء فوق ظهورها محمول.

أما الغوطة الدمشقية، فقد مُزقتْ تمزيقا، لم يبق من مياه دمشق التي قال عنها نزار قباني:

والماء يبدأ من دمشق.. فحيثما

أسندت رأسك جدول ينساب

كانت الطغمة الفاجرة المحتلة دمشق، قد غيّرتْ ملامح دمشق في عقود ثلاثة، سوريا كلها صارت مسلخاً كريهاً. دمشق كانت مزينّة بالحدائق، فصارت مزيّنة بالعشوائيات، ومطوّقة بالمستعمرات العسكرية الطائفية، وأمس قصف الوريث الجمهوري عين الفيجة بالبراميل، فلوّثَ المياه، وعطشتْ دمشق عطشاً لم تعطشه منذ أن كان آدم منجدلاً بين الماء والطين، وامتصت المخابرات ما بقي من نقود في جيوب الشاميين، وستروي الناسُ حكاياتٍ عن عطش الشام، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

في أواخر الألفية الثانية، قرأنا في جريدة تشرين” الغراء” أنّ مياه دريكيش، وهي مياه معدنية عذبة، ملوثة بمياه المجاري، بسبب سوء التمديدات، أو سوء الإدارات، أو المقاومة والممانعة.. أما بردى، فحاله كما ترون، وهو نهر ليس أجمل منه ومن إسمه، تغنى به أحمد شوقي، وهو ابن النيل:

سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ

وَتَحتَ جِنانِكِ الأَنهارُ تَجري وَمِلءُ رُباكِ أَوراقٌ وَوُرْقُ

وثم رثى ممدوح عدوان بردى في إحدى قصائده، بعد أن أمسى مجرورا تنظف به مراحيض الأمراء.

فهتفنا في سرِّنا، وليس لنا إلا في السرُّ حياة: ما هذا العطش ياهووووووووو!!!

قال الحكماء: أهرقت دماء بريئة، زكية، والدماء البريئة تغلق عيون السماء. الشام المباركة صارت ملعونة. هل سمعت بكائنات تنجس البحر؟ لقد تنجست أرض الشام المباركة! :

وَمَعذِرَةُ اليَراعَةِ وَالقَوافي جَلالُ الرُزءِ عَن وَصفٍ يَدِقُّ

كتب أحد الرفاق الأشاوس، وهو من الطائفة الحاكمة وعظام الرقبة، يشتكي في صحيفة تشرين: بأن من عجائب الزمان أن سورية المعروفة بعيون الماء المعدنية تستورد مياهاً معبأة في صحارى الخليج! وقرأت في الصحيفة نفسها أن معامل دريكيش بمياهها الملوثة عاجزة عن حلِّ مشكلة صناعة سدادات علب بلاستيكية. عانى الشعب السوري من العطش والظلام والخوف ومشى على الصراط، حتى إني كنت أحسد فأر الصحراء الذي لا يشرب الماء!

كيف لا يشرب الماء؟ مستحيل، “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ”

عنده معمل لصناعة الماء في جوفه، لا يحتاج إلى سدادات بلاستيكية، ولا إلى عبوات معدنية، عنده معمل أبدعه البارئ المصور له الأسماء الحسنى، هو يتنفس الماء ولا يشربه، معمله يؤلّف بين قلبي ذرتي هيدروجين، وقلب ذرة أكسجين من الهواء، في قلبه.

أحبُّ قصة عبد المطلب مع زمزم، هي ملحمة، وأفضل شعر نزار قباني على سائر معاصريه، فهو علامة في الشعر العربي، ولا يقارن مع غيره، وبينه وبين أقرانه طبقات: محمود درويش متفاوت الشعر، ولولا القضية الفلسطينية لكان زوج الست ريتا وحسب، الماغوط التصق بالصوبيا وبالسلطة، يأكل من نهبها، ويعاتبها عن جنب وهم لا يشعرون، أدونيس كان يكتب لأجيال المستقبل ولا يزال، وينتظر جيل المهدي المنتظر ليفهم شعر الجفر… أما سبب هذه الرِّقة في شعر نزار قباني، فهي مياه الفيجة وبقين وبردى، لقد شرب شعره ماء الحياة، وأكل من عشبة الخلود النابتة على ضفافها..

أثنى صاحبي الشاعر على جملتي التي ذكرتها في بداية هذه المناحة،

فقلت وأنا أنتظر نهاية التنين الذي لا يزال يقصف المياه، ويبيع بها الأرواح، وقد سَلَحَ فيها ولوّثها، فحيثما يممت وجهك فالذل ينساب، تنّين نمتْ له رؤوس جديدة روسية وفارسية، وعشرات الرؤوس الطائفية الغازية الصغيرة، جاءتْ تتطهر بدماء أهل الشام تقرباً إلى آلهتها القادمة على بساط من دم: لا تعجبنَّ يا صاحبي، لم أجترح أمراً، أو معجزةً، أو بلاغةً، فالحرية والماء توأمان، فلكل ذرة أوكسجين حرية من ذوات الخلخال وربات الحجال، في أسرة جزيء الماء أخوان شقيقان من هيدروجين الماء، يغاران عليها، والهدروجين في دمشق ثقيل، فَكُلُّ جِهاتِهِ شَرَفٌ وَخَلقُ، وكتاب المجد أوله دمشق، وقد ماتت الغيرة..

لفظت أنفاسها الأخيرة..

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى