صفحات سورية

برهان غليون كما أعرفه رداً على سعدي يوسف


خلدون النبواني

“سكرتَ ليت الندامى ما سقوك بها” سعدي يوسف

لعلي من أولئك الذين لا يحبذون أن يتحوّل المثقف إلى سياسيّ، ففي الوقت الذي أُقدِّر فيه كثيراً دور الأول، فإنني لا أُخفي اشمئزازي وحذري وعدم ثقتي من دور الثاني. لا زلتُ إذن من أولئك الذين يرون في الثقافة “مهنةً” نبيلةً وفي السياسة مهنةً رذيلةً لا أتمنى على المثقف بحالٍ من الأحوال أن ينخرط بها بشكل مباشر. وعليه أُحبُ كثيراً الجانب الفكري والاجتماعي عند ابن خلدون وأكره في حياته الجانب السياسيّ الذي يصلُ إلى حد التآمر والدسائس والإيقاع بالآخرين ونسج الأكاذيب وما إلى ذلك؛ وأفضِّلُ ألف مرة المتنبي كشاعر استثنائي في تاريخ الأدب العربيّ على سعيه للمناصب والسيادة في حياته الشخصية ؛ وأُكبر في محمود درويش رفضه شغل منصب وزير للثقافة الذي عرضه عليه الراحل ياسر عرفات وأضع نصب عيني موقف آينشتاين الذي دُعيَّ لترأُس دولة إسرائيل فأجاب: “إن المعادلات أهم عندي، لأن السياسة تمثل الحاضر؛ أما المعادلات فشيء خالد”.

أعرف أن الكثيرين لا يشاطرونني الرأي في ذلك وهم يريدون للمثقف أن يلعب دوراً فاعلاً وملموساً على أرض الواقع بدلاً من الاكتفاء بالتنظير والانسحاب إلى عوالمه الخاصة. من بين الأشخاص الذين لا يُشاطرونني هذا الرأي الدكتور برهان غليون الرئيس الحالي للمجلس الوطنيّ السوريّ فهو يأخذ على كثيرٍ من المثقفين السوريين بخاصة والعرب بعامة عدم انخراطهم المباشر في الثورة السوريّة بدلاً من اعتزالهم وسلبيتهم وأخذهم مواقف شبه متصوفة منسحبة من العالم. فهو بذلك أقرب إلى ماركس الذي رفض فكرة هيغل عن دور الفلسفة التي تكتفي بتفسير العالم، مُطالباً بانخراطها في تغيير العالم وهو الدور الأهم بحسب ماركس. من يعرف برهان غليون عن قُرب، يعرف أن صورة المثقف العضوي لديه لا تبتعد كثيراً عن مفهوم غرامشي لها؛ فغليون كما أعرفه، بالإضافة إلى عمله الفكريّ الأكاديميّ كأستاذ في السوربون والنظري كمثقف عربي يساهم بشكلٍ دائم في المظاهرات والإضرابات ويندر ألا يكون حاضراً وفاعلاً في الشوارع والساحات الباريسية لمناصرة قضيةٍ يدافع عنها.

عرفتُ غليون منذ حوالي سبع سنوات عند أول وصولي إلى باريس. اتصلتُ به ثم زرته في بيته ومن يومها نشأت بيننا صداقةٌ متينة لم تخلو يوماً من اختلافٍ فكري وتباعد واضح في الميول والتوجهات النظرية. لا شك أن العديد من كُتب غليون المُفكّر كنتُ أعرفها منذ زمن قبل أن أتعرف على غليون الإنسان وقد كنتُ قد أُعجبتُ ببعضها وبخاصة كتاب “بيان من أجل الديمقراطية” والتي أظهرت لنا مثقفاً مهماً قادراُ على إضاءة نقاط معتمة في المشهد الثقافي والاجتماعي والسياسي العربي.

لم أكن يوماً طالباً عند برهان غليون كما يظن البعض فهو أستاذ علم الاجتماع العربي وأنا مختص في الفلسفة الغربية المعاصرة وهو يقوم بالتدريس في جامعة السوربون باريس 3 وأنا درست في جامعة السوربون باريس 1، ولكن هذا لم يمنعني في أول سنتين لي في باريس من متابعة دروسه لطلاب الماجستير والدكتوراة. لا يمكن لمن حضر دروس غليون إلا وأن يلحظ إلى أي مدى هو منخرطٌ ومهتم في قضايا حداثة وتحديث العالم العربي وإلى أي درجة هو نقديّ إزاء الأنظمة الدكتاتورية العربية وكم يهجس بالديمقراطية ويحلم بها يوماُ للعرب. كان غليون لا يني يُدافع عن فكرة أن العرب مختلفين عن الصورة النمطية التي قدمهم بها الغرب فصدقوها بما في ذلك الكثير من المثقفين العرب الذين راحوا يجلدون الذات والهوية العربية على طريقة ما يفعل الغرب، بل وبقسوةٍ أكثر أحياناُ. كان يُؤكد على إمكانية أن ينهض العرب من جديد فشروط رفضهم وتمردهم حاضرة الآن أكثر من أي وقتٍ مضى؛ وأعترف هنا بأنني لم أكن متفائلاً بدرجته فكنتُ أردد لنفسي ذلك المثل الفرنسي الذي يقول “إنه يُبشِّر بالصحراء” والذي يقابله في العربية ” إنه يغني في الطاحون” أو “يصرخ في واد”. ولأن دروسه تعنى بدراسة مشاكل العرب الكثيرة فقد شعررتُ بعد فترة بالإحباط والملل فقررتُ التوقف عن متابعتها دون أن تتوقف بذلك صداقتي مع غليون أو أن تنقطع لقاءاتي به خارج إطار الجامعة. ومع أن علاقتنا مرّت بفترات برود، بل وجفاء وسوء تفاهم إلا أنها ظلت مستمرة ولم تنقطع يوماً.

إنني لا أكتبُ ما أكتب دفاعاً عن برهان غليون لما يتعرض له من حملة انتقاداتٍ واسعة كان آخرها التهجم الشرس وغير المهذب والعدواني بشكلٍ مجاني اليوم من قبل الشاعر العراقي سعدي يوسف؛ كما أنني لا أكتب ما أكتب الآن نقداً لبرهان غليون وإنما شهادةً أود لها أن تكون صادقة عن هذا الرجل الذي عرفته عن قُرب وبخاصة أن غليون يدفع اليوم ضريبة المثقف والسياسيّ معاً. فهو وبانخراطه في ثورة الحرية والكرامة السورية يتعرض لحملة تشهير ضخمة سواء من قبل النظام الرسمي السوري الذي جنّد ماكينته الإعلامية والمخابراتية وخطباء الجوامع للتشهير بالرجل وتشويه سمعته أو حتى من قبل بعض أطراف المعارضة المختلفين معه حول أولويات العمل السياسي المعارض بل وبعض الموتورين والحاسدين من المعارضين الذين لا يستطيعون إخفاء حقدهم وحسدهم الذي يتفجر تخويناً واتهاماً للرجل. بين المثقف والسياسي يتم تصيد برهان غليون فهو إن تكلّم كمثقف (كما حصل عندما أدان الطائفية المُرتكبة من قبل جميع الأطراف في حمص) انتقده السياسيون واعتبروه لا يفهم في السياسة التي يجب ألا يُقال فيها كل شيء بل التي تكون فيها المصلحة هي الحقيقة الوحيدة، وهو إن تحدث كسياسيّ كما تقتضي البراغماتية السياسية (كما حصل عندما وجه مؤخراً حواراً للغرب عبر صحيفة وول ستريت جورنال عن تصوره لسوريا بعد الأسد) يلومه المثقفون على تغيير مواقفه السابقة.

ما أن بدأت الأحداث في تونس تتتفاعل حتى تكثفت لقاءاتنا واتصالاتنا نحن الاثنين وكنا نناقش ساعاتٍ على الهاتف تطور الأحداث في تونس ونستلمح خيط الأمل الذي راح يلوح في الأفق عن تغير ديمقراطي قادم أخيراُ إلى أرض العرب. ولكن ما أن بدأت ثورة مصر حتى صار الأمل أوضح وتحول الحلم إلى حقيقة. عادت لكلينا الحياة كما عادت للكثيرين من أبناء الشعب العربي ولم يكد يخلو يوم خلال ثورة مصر لم أتواصل فيه مع برهان غليون حيث أتذكره متحمساً كطفل لربيعٍ عربيّ سيزهر في عالمنا العربي وسيطيح بالدكتاتوريات ويحقق مبدأ الديمقراطية الأساسي “أن يحكم الشعب نفسه بنفسه”.

بعد ذلك بدأت الثورة في سوريا فاختلط حماسنا بالترقب والخوف من الثمن الذي قد يدفعه السوريون كضريبةٍ للحرية في وجه نظامٍ مستعد أن يحرق البلد على أن يتخلى عن السلطة. أتذكر جيداً أنه حين أقتُرِح عليّ المشاركة بمؤتمر أنطاليا ترددتُ كثيراً فاتصلتُ ببرهان غليون الذي أثق بوطنيته لأسأله رأيه في الموضوع، فنصحني عندها بعدم الذهاب لأنه كما قال لي:”لا يعرف تماماً من يموِّل المؤتمر وهو يخشى أن تكون جهاتُ أجنبية وراء ذلك” [لقد أثار موقف غليون حينها من مؤتمر أنطاليا شيئاً من البلبلة، ولكنه عاد ووضح موقفه من الأمر]. أتذكر أيضاً أن أحد المثقفين العرب الذين يقيمون بفرنسا اتصل بي وقال لي أن هناك بياناً سيوقع عليه مجموعة من السياسيين الفرنسيين والمثقفين الفرنسيين والعرب لإدانة حصار درعا وهم يريدون أن يوقع عليه مثقفون سوريون فطلب مني التوقيع وسألني أن أطلب من برهان غليون التوقيع أيضاً، ولكنه ما أن ذكر لي اسم برنار هنري ليفي الذي اعتبره عراباً للسياسة الإسرائيلية في فرنسا، رفضتُ على الفور وقلتُ بأنني لا أعتقد أن برهان غليون سيوقع أيضاً، ولكنني سأبلغه الرسالة بأي حال. وبالفعل اتصلتُ بغليون لأحدثه بالأمر فأجابني:”أعوذ بالله كيف أضع يدي بيد هذا الشخص المعادي لفلسطين والمبرر لسياسات إسرائيل”. ثم أصدر كل من برهان غليون وصبحي حديدي وخليل مردم بيه بيان إدانة لبيان ليفي كما رفض الاشتراك في مؤتمر عُقد في باريس شارك فيه ليفي.

منذ أن أصبح غليون رئيساً للمجلس الوطني السوري ازدادت انشغالاته كثيراً وصار التواصل معه صعباً ولم أتواصل معه من حينها إلا مرات نادرة ولوقتٍ قصيرٍ جداً بينما بقيت أتابع نشاطاته عبر الإعلام. هل تغير برهان غليون من حينها إلى الآن؟ حقيقةً لا أعرف، ولكنني لا أعتقد أن شخصاً بوطنيته ونزاهته يمكن له أن يتخلى عن مبادئه بسهولة. وإن فعل فسأكون أول من ينتقده رغم قناعتي بأن نبله ووطنيته هما ضمانة لمستقبل سوريا الذي ونتيجةً لسياسات النظام المتصلبة كثرت فيه اليوم “الأيادي القذرة” بحسب تعبير سارتر.

إذن لا أريد للحظة مدح أو هجاء غليون ولا أطلب من وراء ذلك سوى تقديم كلمة حق حرضتني عليها كلمة متحاملة تخلو من اللباقة للشاعر الذي طالما أحببته سعدي يوسف.

رغم أنني كنتُ من بين الذين شجعوا غليون على قبول ترأس المجلس الوطني الذي رُشح له رغم تفضيلي للمثقف على السياسي إلا أنني وجدتُ فيه ضمانة لسوريا ديمقراطية مدنية وعادلة أحبها خضراء تتسع للجميع. أتمنى من كل قلبي بعد أن تنتقل سوريا من الاستبداد إلى الدولة المدنية أن يعود غليون إلى عالم الثقافة الأنقى من عالم السياسة الوسخ والمليء بالفخاخ…

الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى