صفحات سورية

برهان غليون والطرح المتناقض


الشيخ أحمد محمد نجيب

 مرّت شهور عديدة على اندلاع الثورة السورية المباركة ثورة الحرية التي ما فتئ السوريون يدفعون ثمناً باهظاً من دمائهم لينالوها. تلك الثورة التي لم يعرف العالم في عصره الحديث ثورة بمستوى رقيها وسلميتها وشفافيتها فقوبلت بشتى أنواع القمع الوحشي على مرأى ومسمع العالم كلّه، ولأجل أن يكون هنالك ممثل لإرادة الشعب في مطالبه أُعلن عن تشكيل المجلس الوطني السوري برئاسة الدكتور برهان غليون في الرابع من شهر ذي القعدة لعام اثنين وثلاثين وأربعمئة للهجرة، الثاني من الشهر العاشر لعام أحد عشر وألفين، وعبّر الشارع عن ارتياحه، فقال كلمته: “المجلس الوطني يمثلني”.

اعتقد الشّعب السوري أنّه للوهلة الأولى قد وجد ضالته المنشودة في هذا المجلس ورئيسه الجديد مستلهماً التجربة من الثورة الليبية المباركة إلا أنّ آماله سُرعان ما تبدّدت مع مرور الوقت وانعدام الفائدة حيث لم يرْقَ هذا المجلس إلى مستوى التطلعات والتضحيات على الأرض.

        إنّ الإشكالية في المجلس الوطني السوري ورئيسه تكمن في أنه يعيش في منطقة ضبابية غير واضحة المعالم حيث تجد الأعضاء ذوو توجهات مختلفة ورؤى متناقضة لا يملكون خارطة طريق توصلهم إلى برّ الأمان، والذي يهمّنا في هذا المقام هو رئيس المجلس الوطني الذي يتحمّل المسؤولية كاملة في عدم وضوح الرؤيا.

        إنّ المتابع للدكتور برهان غليون خلال الفترة السابقة يجد تناقضاً غريباً في مواقفه تجاه الأزمة السورية تثير علامات تعجّب واستفهام كثيرة، ولعلّ أهم ذلك يتمثّل في ثلاث نقاط رئيسة:

موقفه من التدخّل الخارجيّ.

موقفه من الجيش السوري الحرّ.

موقفه من نقل السّلطة.

أولاً- موقفه من التدخل الخارجي:

    لو أمعنّا النّظر في الشأن السوري لوجدنا أنّه غاية في التعقيد حيث تتشابك فيه المصالح الدولية فنظام الأسد يمثّل جدار حماية لإسرائيل، وزواله يهدّد الأمن القومي لها، ولعلّ هذه المعادلة الصعبة  هي التي أخّرت الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عن اتّخاذ أي إجراء حقيقي في الاتجاه الصحيح حفاظاً على الربيبة إسرائيل وأمنها، وهذا هو مربط الفرس إضافة إلى أن سوريا ليست دولة نفطيّة فتتطاول إليها الأعناق.

إنّ الشعب السوري لن يتراجع قيد أنملة عن مطالبه في العيش بعزّة وكرامة دون هذا النظام الذي أذاقه صنوف الذّل على مدى أربعة عقود، وواهمٌ كلّ الوهم من اعتقد غير ذلك شاء المجتمع الدوليّ أو أبى فقد أعلنها مدويّة “الموت ولا المذلّة”.

    خرج علينا الدكتور برهان غليون عشية عيد الأضحى المبارك ليقول لنا:” لقد تقدّمنا إلى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية وإلى الأمم المتحدة بطلب رسمي لحماية المدنيين في سوريا عبر اتخاذ قرارات ملزمة بإرسال مراقبين دوليين، والخيارات أمام المجلس كثيرة ولا نستثني منها شيئاً”.

     قلنا: لقد خطا الدكتور برهان غليون خطوة في الاتجاه الصحيح فحماية المدنيين مع استمرار عمليات القتل الممنهجة والانتهاكات المستمرة لا تتأتى إلا بالحماية الدوليّة، ولقد قال بأنه

لا يستثني شيئاً في سبيل تحقيق ذلك فما الذي حصل؟!!

    إن الدكتور غليون لا يملك تصوراً لآلية هذه الحماية -التي يرددها دائماً- فهو يريدها لكن دون تدخل عسكري فقد صرّح –سابقاً- لفرانس 24 رفْضَ المعارضة السورية لأي تدخل عسكري في بلاده، مشدداً على أن ما سيقضي على النظام هو “إرادة الشعب السوري الموحد” قائلا :”لا أحد يطالب بتدخل عسكري”.

وقد أكّد كذلك يوم الإثنين 27/12/2011م أثناء زيارته لباريس دعوته المجتمع الدولي لتشديد العقوبات، ولكن دون تدخل عسكري، وقال: “نريد تدخلاً يساعد الناس الذين يعانون على الخروج من المأزق، ومواجهة الحالة المؤلمة، نريد تدخل إنساني، نحن لا نريد أن ندمّر بلدنا”.

والسؤال الذي يطرح نفسه كيف ستقضي إرادة الشعب السوري الموحّد على هذا النظام الفاشستي يا دكتور غليون؟!!! وما هو نوع هذا التدخل الإنساني الذي سيساعد الشعب؟!!!

لقد ألقى وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه باللائمة على المجلس الوطني السوري لأنه يصرّ على المضيّ قدماً في سلمية الثورة، وعدم طلبه للتدخّل الخارجي.

 لعلّ من نافلة القول بأن هذا النظام الدمويّ لا مشكلة عنده في أن يستمرّ في القتل والاعتقال والتعذيب طالما أنّ أحداً لن يسائله أو يردعه ناهيك عن تمتعه بمظلّة دوليّة تغطي جرائمه.

لا أحد يطالب بتدخل عسكري على الأرض إطلاقاً، وإنما نريد تدخلاً متمثّلاً بفرض منطقة عازلة، وحظر جوي لحماية المدنيين، ولا يكون ذلك إلا بتدخل عسكري على غرار التدخل الليبي.

لقد سمّى الشعب السوري جمعة “الحماية الدولية”، وجمعة “الحظر الجوي مطلبنا” فعلام ترفض يا دكتور غليون التدخل، وبأي حق؟!!!

   ثانياً- موقفه من الجيش السوري الحر:

تسارعت وتيرة الانشقاقات عن الجيش، وتشكَّل ما يُعرف بالجيش السوري الحرّ الذي رفض تصويب السلاح إلى صدور العزّل من أبناء الوطن، وأخذ على عاتقه حماية المدنيين، فما هو موقف الدكتور برهان غليون منه؟

في لقاءٍ له مع أحمد منصور على قناة الجزيرة القطرية صرّح بأنّه لا يشجّع انشقاقات الجيش، فهو يعدّ الجيش السوري مؤسسة وطنية يجب الحفاظ عليها، ونحن نتساءل: هذا الجيش الذي تعدّه وطنياً كيف تُراه يقتل أبناء الوطن؟ كيف تُراه يمثّل في الجثث؟ كيف تُراه ينتهك الأعراض؟ كيف تُراه يروّع الآمنين؟

هذا الجيش له أيدولوجيته الخاصة لا علاقة له بالوطنية لا من قريب ولا من بعيد. إن جيشنا الوطني هو الذي يدافع عن الوطن والمواطن هو من ينشقّ الآن – يا دكتور – ليكون حصناً حصيناً للوطن. ما من عاقل يودّ أن تضيع مقدّرات الجيش هباء، ولكن ماذا نفعل وهذا الجيش الذي تدافع عنه – اللهم إلا الشرفاء منه الذين لا يملكون من أمرهم شيئا- هم حماة النظام وعائلة الأسد؟ أهؤلاء ترتجي منهم أن يكونوا حماة الديار؟!!!

 ينبغي عليك أن تأخذ بفقه الموازنات فتضع الأمور في نصابها، وتعرف عدوك من صديقك، ولا ينبغي لك كلما سُئلت عن الجيش الحر أن توجز فتقول: “نعتزّ ونفخر به”. الجيش الحرّ

يا دكتور يحتاج إلى أن يتبناه المجلس الوطني ويدعمه مادياً ومعنوياً وعسكرياً حتى يكون الذراع العسكري للمجلس فبه يمكن لك أن تشلّ حركة النّظام وتفقده سيطرته.

لقد عاب غليون على الجيش الحر مهاجمته لمسالخ المخابرات التي يحصل فيها ما يندى له جبين البشرية حياء ثم التقى بقائد الجيش السوري الحرّ العقيد رياض الأسعد بتاريخ 10/11/2011م تحت وطأة الشعب السوري الذي صرخ بأعلى صوته “الجيش الحر يحميني”.

   ثالثاً- موقفه من نقل السلطة:

    لا مراء في أنّ من يتابع المظاهرات يومياً يجد أنّ مطالب الشعب تتراوح بين إسقاط النظام، وإعدام الرئيس، والحرية،والقضاء على كل مظاهر الفساد، والقصاص من القتلة، ولا ريب أنّ ذلك لا يكون إلا (بشطف الدرج من فوق) كما قال الأستاذ الفاضل هيثم المالح، أمّا أن يصرّح الدكتور غليون عندما كان في روسيا وعبر الجزيرة:” نحن نريد التفاوض على الانتقال للسلطة بالطريق السلميّ حتى لا نقع  في مخاطر التدخلات العسكرية والحروب الأهلية”، وكذلك عبر قناة العربية يوم الإثنين 27/12/2011 بقوله:” إذا نجح العرب أن يقدّموا حلاً كالحلّ اليمني فليس هناك أي سبب في أن نرفض هذه الفرصة”!

    أرى أنّ هذا الطرح يتقارب إلى حدّ بعيد مع مطالب هيئة التنسيق الوطنية في قضية نقل السلطة بشكل سلميّ، وعدم تدويل القضيّة، بل أبعد من ذلك فهو يتقارب مع ما تريده السلطة وتردده على مسامعنا ليلاً ونهاراً من الخوف من وقوع حرب أهلية.

   السؤال الذي يطرح نفسه هل مشكلة السوريين مع رأس النظام فقط؟ أم أن الأمر تعدّى إلى كلّ من يلوذ بهذا النظام من المقربين منه سواء في المؤسسة المدنية أو العسكرية!

    الشعب السوري لن يقبل بهذا النظام من رأسه إلى عقبه، ولن يقبل بتلك المؤسسة التي أذاقته الذلّ ألواناً. الشعب السوري يريد نظاماً يبنيه بيديه، ولن يكون ذلك إلا بقلع هذا النظام من جذوره.

     وختاماً: أودّ أن أطرح على الدكتور برهان غليون هذا السؤال: ما هي القوّة التي لديك

يا دكتور للخروج من هذه الأزمة إن كنت تريد أن تبقى الثورة سلمية ولا تريد تدخلاً عسكرياً ولا حرباً أهليّة ولا تدخلاً من جانب الجيش الحر في أعماله العسكرية ؟ هل تطمع أن يسلمك النظام -بشكل سلمي- عنقه فتقودها؟!!!

    أصبح الشارع يستظرف ويتندّر على تناقضات مواقفكم، فيقول متمثلاً حالكم:

نرفض التدخل العسكري، ونريد منطقة عازلة. نرفض التدويل ونرغب بنقل الملف لمجلس الأمن. كل الخيارات لنجاح الثورة مفتوحة، ونرفض عسكرة الثورة. نندد بالقتلة من جيش بشار الأسد، ونرفض مهاجمته من الجيش الحر. نتبنى مطالب الثوار، ونرفض الحظر الجوي…

     الشارع لا يزال يُكنّ لكم وللمجلس الوطني كلّ الاحترام، فأروه من مواقفكم ما يسرّه،

ولا تختبروا صبره فهو من أعطاكم شرعيتكم وهو قادر على سحبها.

الثورة السورية المباركة يتيمة بحق تخلّى عنها القريب والبعيد، ولعلّ ذلك لحكمة إلهية جليلة حيث أراد الله سبحانه أن يرجع الناس إليه بعد أن تمادوا في الابتعاد عنه، وإن ممّا يثلج الصدر تلك الحناجر التي تصدح في كلّ المظاهرات تنادي الله في عليائه، وتقول:” يا الله ما إلنا غيرك يا الله”، وكلنا ثقة بأن الله لن يخيبنا ولن يترنا أعمالنا

عضو الهيئة العامة للعلماء المسلمين في سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى