صفحات الثقافة

“بروفا” لروزا ياسين حسن: آن تتنصت الاستخبارات السورية على الصوت المأسور


فاطمة عبدالله

وضعت حسن رواية “بروفا” لدى دار “رياض نجيب الريس” بينما بلدها يمر بمخاض عسير وهو يولّد الحرية. ثمانية أشهر مرت والأجيال السورية جميعها تعيش ألقاً اسطورياً مكثفاً ورعباً جاثماً على القلوب والنفوس كآلة القمع الحديدية. فالقتل العشوائي يبدو تكتيكاً منظماً، وإرادة الشعب لا تعرف الارتكاس والخنوع. صراع ديالكتيكي هي الانتفاضة السورية، بين الوجود والعدم، الخيبة والأمل، النصر والفشل، وبين اليوم وغداً، في انتظار الليل الذي لا بد ان ينجلي.

رواية سياسية هي “بروفا”، برغم ان الكاتبة تعمدت عدم الدخول المباشر في الدهاليز، أو المسّ برموز النظام عبر شخوصها كما في روايتيها السابقتين “أبنوس” و”حراس الهواء”، تاركة لقارئها تلقف بعض “اللطشات” المدروسة والمنثورة بعناية تكتيكية بين الفصول علّها تذوب في طيات السطور والحوادث المتوترة وتختفي.

لم تشأ كتابة الرواية بصيغتها النهائية، فاكتفت ببروفا عنها. مَن كاتبها النهائي إذاً؟ أليس هو القارئ الذي تعوّل عليه كثيراً، وبذكاء مضبوط ليضع النهاية التي يشاء لقصة وطن آخر بنظام حكم آخر؟ ماذا عن الشباب السوري اليوم؟ أليس شجاعاً هذا الذي ينزل الى الشارع ليرفع نبرة الاحتجاج عالياً بعدما تعمّد النظام كمّ أفواهه بـ”ضربة مطرقة” لا علاقة لها بقراءة الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز لشذرات نيتشه؟ هو وحده جيل الشباب بدءاً من سبعينات القرن الفائت الى اليوم، المشارك في “لعبة” الكتابة، وما تفعله هي يقتصر على “التوجيه” من خلال الهوامش الفكرية الكثيفة التي تتذيل بها الفصول، الى جانب الملاحظات التقنية اللازمة فنياً “يطوعها” الاسلوب في خدمة اللغة العميقة، الجذابة أحياناً، والأفكار “غير المؤدلجة” المتصارعة بعنف مع إيديولوجيا النظام السوري.

بطلها مجهول الاسم والشكل. كل ما نعرفه عنه انه عسكري يؤدي خدمة الجيش في غرفة التنصت على مكالمات أشخاص مراقبين، ليكتب عنهم تقارير أمنية بحسب مزاجه وما يعرف سلفاً انه سيستهوي استخبارات النظام. هو الناقد والكاتب صاحب الخيال المتأجج بالمشاعر والمشاهد. طالب الفلسفة الذي لم يدرّسها امتثالاً لأمر والده بالالتحاق بدائرة المخابرات، واصفاً كل الفلاسفة بـ”المعقدين والخونة”، أما لو اصبح رجل مخابرات، فـ”سيخدم وطنه بحق، وسيشارك في حمايته من الشياطين الذين يريدون ان يحرقوه”. يعيش صراع الأجيال، وفلسفة ايمانويل كانط حول الاخلاق والواجب. أليست هذه حال كثيرين من الشباب السوري الذي وجد نفسه “مجبراً” على التلصص على أشخاص لا يعرفهم، فقط لأن النظام يأمره بذلك؟ ماذا عن الإحساس بالذنب؟ وتأنيب الضمير؟ هي كلها تتبدد عندما تضيق الخيارات فيقضي “الواجب” على الشعور ويجعله جثة باردة.

شخوص “شعبية” من المجتمع السوري تتحول الى “أبطال خطيرة” في مخيلة المخابراتي الشاب. لعل عمله يتطلب خلط الأوراق واعادة توزيعها وفقاً لآلية محددة، أو لعله شعر بأن عاقبة الأمور سترتد عليه إذا خرجت عن سيطرته ولم تُرض القيادة. هو هاجس ارضاء السلطة والخوف من رجالها، اجتاح مجتمعاً بكامله واكثر من جيل وفئة عمرية في سوريا. هو الخوف من آذان رجال المخابرات المزروعة في كل مكان حتى في الحمّام وفي سرير الجماع، لا تُخفى عليها خافية، ولا تنتظر انبلاج الفجر لتلقي القبض على “الضحية”، وانما تقودها في الليالي الدامسة الى غرف أكثر وحشة.

بأسلوب مشوق وانتقال مغرٍ بين الفصول، تقارب الكاتبة خيبات جيلها، أزماته، هزائمه، سوداويته، وعقده عبر شخوص “صوتية” مضطربة حد الفصام والمرض.

هذه صبا عبد الرحمن التي عاشرت 365 رجلاً في السنة بحثاً عن الثبات. أبوها ضابط في الجيش السوري لم يستطع الفصل بين دوره كأب في أسرة دافئة وكعسكري في ثكنة باردة، فعاشت طفولتها مع أمّ صامتة، تتلقى الضربات وتتألم بصمت. لا تتكلم. وعندما تهمّ بالكلام تجد نفسها من دون قصد صامتة. ثم رماها القدر على طريق رجل ينتمي الى أحد الأحزاب الشيوعية الرسمية، ليتبين انه لا يختلف مطلقاً عن طبع والدها الظالم، صورة عنه وإن اختلف الانتماء. مهيار السالمي، رسام مقهور، أمضى أعوامه الطويلة يعتني بأمه هالة السماقي التي وقعت فجأة وأصيبت بشلل أحالها جسداً يابساً. عندما وقع في الحب للمرة الأولى في حياته، اكتشف عجزه الجنسي. لميا عباس، تترك وطنها وتهاجر الى فنزويلا بحثاً عن سعادتها في الزواج من رجل لا يتكلم العربية، لتعود اليه بعد أشهر فقط محملة خيبة إثر اكتشافها شذوذه الجنسي. أخوها هاني، يمارس الجنس مع “المانيكانات” التي تُعرض عليها الملابس في مكان عمله، لأنه غير قادر على ممارسته مع أخته لميا التي اشتهاها وحدها بين كل النساء، مستنكراً ما يحول دون حب الأخوة علناً وممارسة الجنس معهن. أما “التابو” فهو الكلام عن “الأخوات القبيسات”. تابو ديني مثير للخوف والجدل. “تستغل” الكاتبة شخصية هالة السماقي المشلولة لتلج هذا “التنظيم النسائي السري”، فيتعرف القارئ من خلالها إلى فكرهن “المتشدد” الرافض السؤال حول الله، “فالأسئلة ممنوعة في الإيمان، (…)، ايماننا بالله تعالى يجب ان يكون كاملاً لا تشوبه شائبة”، معرجة عبرها أيضاً الى التصوف الهندي والإسلامي، ومبدأ “الكارما” والجسد اللامادي وحرق الجثث بعد الموت وذرّ رمادها في البحر لترتاح الروح في الأثير. نقرأ حول هالة: “الكارما تساعدها على التطهير، والتطهير هو وحده القادر على جعل روحها نقية بيضاء من جديد لتتجه الى حياتها القادمة امرأة راضية بخفة فراشة”.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى